يقولُ اللهُ تَعالَى:
( قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( 188 )
بعد أن تحدَّثَ اللهُ تَعالَى عن علمِ السَّاعةِ، وأنَّهُ لا يعلمها إلا هو - سبحانهُ جلَّ وعَلَا
ذكرَ أنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ فقيرٌ مدبَّرٌ، فتحدَّثّ بلسانِهِ،
فقال:
{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا }:
فإنِّي فقيرٌ مدبَّرٌ، لا يأتيني خيرٌ إلا منَ اللّهِ، ولا يدفعُ عنِّي الشَّرَّ إلا
هو، - هذا مُحَمَّدُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ –
وليس لي من العلمِ إلا ما علَّمني اللّهُ تَعالَى.
{ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ }:
أي: لفعلْتُ الأسبابَ التي أعلم أنَّها تنتجُ لي المصالحَ والمنافعَ،
ولحذِرْتُ من كلِّ ما يفضِي إلى سوءٍ ومكروهٍ، لعلمِي بالأشياءِ قبلَ كونِها، وعلمِي بما تفضِي إليهِ.
ولكنِّي - لعدمِ علمِي - قد ينالُني ما ينالُني منَ السُّوءِ، وقد يفوتُني
ما يفوتُني منْ مصالحِ الدُّنيا ومنافِعِها، فهذا أَدَلُّ دليلٍ على أنِّي لا علمَ لي بالغيبِ.
{ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ }:
أُنذِرُ العقوباتِ الدِّينيةَ والدُّنيويةَ والأُخرويَّةَ، وأُبيِّنُ الأعمالَ المُفضيةَ إلى ذلك، وأُحذِّرُ منْها.
{ وَبَشِيرٌ }:
بالثَّوابِ العاجلِ والآجلِ، ببيانِ الأعمالِ المُوصلةِ إليهِ، والتَّرغيبِ فيها،
ولكنْ ليس كلُّ أحدٍ يقبلُ هذهِ البشارةَ والنَّذارةَ، وإنَّما ينتفعُ بذلكَ ويقبلُهُ المؤمِنون الصَّالِحُون،
وهذهِ الآياتُ الكريماتُ، مُبيِّنةٌ جهلَ منْ يقصدُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، ويدعُوهُ لحصولِ نفعٍ أو دفعِ ضُرٍّ.
فإنَّهُ ليسَ بيدِهِ شيءٌ منَ الأمرِ، ولا ينفعُ منْ لمْ ينفعْهُ اللّهُ عزَّ وجلَّ،
ولا يدفعُ الضُّرَّ عمَّنْ لم يدفعْهُ اللّهُ عنْهُ، ولا لهُ منَ العلمِ إلا ما علَّمَهُ اللّهُ تَعالَى، وإنَّما ينفعُ منْ قبلِ ما أُرسِلَ بهِ من البشارةِ والنَّذارة فقطْ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) ( 189 )
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ }:
أيُّها الرِّجالُ والنِّساءُ، المُنتشِرُون في الأرضِ، على كثرتِكُم وتفرُّقِكُم.
{ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ }:
وهو آدمُ أبو البشرِ – عَلَيهِ السَّلامُ.
{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا }:
أي: خلقَ منْ آدمَ زوجتَهُ حواء، لأجلِ أنْ يسكنَ إليها، لأنَّها إذا كانَتْ منْهُ، حصلَ بينَهُما من المُناسَبَةِ والمُوافقةِ ما يقتضِي سكونَ أحدِهِما إلى الآخرِ، فانقادَ كلٌّ منهُما إلى صاحبِهِ بزمامِ الشَّهوةِ.
{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا }:
أي: تجلَّلَها مجامِعًا لها، قدَّرَ البارِي أنْ يوجدَ من تلكَ الشَّهوةِ، وذلكَ الجماعِ النَّسلُ، وحينئذٍ،
{ حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا }:
وذلك في ابتداءِ الحملِ، لا تحسُّ بهِ الأنثَى، ولا يثقِلُها. فَلَمَّا استمرَّتْ بهِ،
وَ { أَثْقَلَتْ }:
بهِ حينَ كبرَ في بطنِها،
فحينئذٍ صارَ في قلوبِهِما الشَّفقةُ على الولدِ، وعلى خروجِهِ حيًّا، صحيحًا، سالمًا لا آفةَ فيهِ،
كذلك،
{ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا }:
أي: ولدًا صالحَ الخلقةِ تامَّها، لا نقصَ فيهِ،
{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( 190 )
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا }:
على وفقِ ما طلَبا، وتمَّتْ عليهِما النِّعمةُ فيهِ،
{ جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا }:
أي: جعلَا للّهِ شركاءَ في ذلكَ الولدِ الذي انفردَ اللّهُ بإيجادِهِ والنِّعمةِ
بهِ، وأقرَّ بهِ أعينَ والدَيهِ، فَعَبَّدَاه لغيرِ اللّهِ.
إمَّا أنْ يسمِّياهُ بعبدٍ غيرَ اللّهِ كـ عِبد الحارثِ و عبدِ العزيزِ وعبدِ الكعبةِونحو ذلكَ، أو يشركَا باللّهِ في العبادةِ، بعدَما منَّ اللّهُ عليهِما بما منَّ مِنَ النِّعمِ التي لا يحصِيها أحدٌ منَ العبادِ.
وهذا انتقالٌ منَ النَّوعِ إلى الجنسِ،
فإنَّ أوَّلَ الكلامِ في آدمَ وحوَّاءَ، ثمَّ انتقلَ إلى الكلامِ في الجنسِ، ولا
شكَّ أنَّ هذا موجودٌ في الذُّرِّيةِ كثيرًا، فلذلكَ قرَّرَهُم اللّهُ على بطلانِ الشِّركِ، وأنَّهُم في ذلكَ ظالِمُون أشدَّ الظُّلمِ، سواءً كانَ الشِّركُ في الأقوالِ، أم في الأفعالِ، فإنَّ الخالقَ لهُم منْ نفسٍ واحدةٍ، الذي خلقَ منْها زوجَها، وجعلَ لهُم منْ أنفسِهِم أزواجًا، ثمَّ جعلَ بينَهُم من المودَّةِ والرَّحمةِ ما يسكنُ بعضُهُم إلى بعضٍ، ويألفُهُ ويلتذُّ بهِ، ثمَّ هداهُم إلى ما بهِ تحصلُ الشَّهوةُ واللَّذةُ والأولادُ والنَّسلُ.
ثمَّ أوجدَ الذُّرِّيةَ في بطونِ الأمَّهاتِ، وقتًا موقُوتًا، تتشوَّفُ إليهِ نفوسُهُم، ويدعُون اللّهَ أنْ يخرجَهُ سوِيًّا صحيحًا، فأتمَّ اللّهُ عليهِم النِّعمةَ وأنالَهُم مطلوبَهُم.
أفلا يستحقُّ أن يعبدُوهُ وحدَهُ جلَّ وعَلَا، ولا يشرِكُوا بهِ في عبادتِهِ
أحدًا، ويخلِصُوا لهُ الدِّينَ.
ولكنَّ الأمرَ جاءَ على العكسِ، فأشركُوا باللّهِ مَنْ:
{ لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) ( 191 )
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) ( 192 )
{ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ }:
أي: لعابدِيها
{ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }:
فإذا كانَتْ لا تخلقُ شيئًا، ولا مثقالَ ذرَّةٍ، بلْ هيَ مخلوقةٌ، ولا
تستطيعُ أنْ تدفعَ المكروهَ عنْ منْ يعبدُها، بلْ ولا عنْ أنفسِها،
فكيفَ تُتَخَّذُ معَ اللّهِ آلهةً؟
إنْ هذا إلا أظلَمُ الظُّلمِ، وأسفَهُ السَّفهِ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنتُمْ صَامِتُونَ ) ( 193 )
وإنْ تدعُوا، أيُّها المُشرِكُون هذهِ الأصنامَ، التي عبدْتُم منْ دونِ اللّهِ،
{ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }:
فصارَ الإنسانُ أحسنَ حالةً منْها، لأنَّها لا تسمعُ، ولا تبصرُ، ولا
تهدِي ولا تُهدَى، وكلُّ هذا إذا تصوَّرَهُ اللَّبيبُ العاقلُ تصوُّرًا مجرَّدًا، جزمَ ببطلانِ إلهيَّتِها، وسفاهةِ منْ عبدَها.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( 194 )
وهذا منْ نوعِ التَّحدِّي للمُشرِكِين العابِدِين للأوثانِ،
يقول تَعالَى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ }:
أي: لا فرقَ بينَكُم وبينَهُم، فكلُّكُم عبيدٌ للّهِ عزَّ وجلَّ، مملوكُون،
فإنْ كنْتُم كما تزعمُون صادِقِين في أنَّها تستحقُّ منَ العبادةِ شيئًا:
{ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ }:
فإنْ استجابُوا لكُم وحصلُوا مطلوبَكُم، وإلا تبيَّنَ أنَّكُم كاذِبُون في هذهِ الدَّعوَى، مُفترُون على اللّهِ أعظمَ الفريةِ، وهذا لا يحتاجُ إلى التَّبيينِ فيهِ، فإنَّكُم إذا نظرتُم إليها وجدْتُم صورَتَها دالَّةً على أنَّهُ ليسَ لدَيها منَ النَّفعِ شيءٌ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ) ( 195 )
فليسَ لها أرجلٌ تمشِي بها، ولا أيدٍ تبطشُ بها، ولا أعينٌ تبصرُ بها، ولا آذانٌ تسمعُ بها، فهي عادِمةٌ لجميعِ الآلاتِ والقوَى الموجودةِ في الإنسانِ.
فإذا كانَتْ لا تجيبُكُم إذا دعَوتُمُوها، وهيَ عبادٌ أمثالُكُم، بل أنتُم أكملُ منْها وأقوَى على كثيرٍ منَ الأشياءِ، فلأيِّ شيءٍ عبدْتُموها.
{ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ }:
أي: اجتمعُوا أنتُم وشركاؤكُم على إيقاعِ السُّوءِ والمكروهِ بي، منْ
غيرِ إمهالٍ ولا إنظارٍ، فإنَّكُم غيرُ بالِغِين لشيءٍ منَ المكروهِ بي.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) ( 196
)
{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ }:
الذي يتولَّانِي،
فيجلبُ ليَ المنافعَ، ويدفعُ عنِّي المضارَّ – سبحانَهُ جلَّ وعَلَا.
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ
إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحُوماً، واجعلْ تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ
أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق