بسم الله الرحمن الرحيم
الوجه الخامس من سورة البقرة
يقول الله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
عندما بيّن الله سبحانه وتعالى في الآيات السّابقة عموم رسالته الإسلامية رسالة الكتاب التّي في بداية السورة
( آلم ذلك الكتاب ﻻ ريب فيه )
لما بيّن رسالة الكتاب الذّي ﻻ ريب فيه والتّي عرض فيها بعض أدلة وجوده و وحدانيته و تمام مشيئته و كمال علمه مهّد سبحانه وتعالى للقضيّة الثّانية
قضية عظيمة و هي : وحدة الأصل الإنساني لعامة البشر وما يسمونه في الأسس التّربويّة ( الأساس التّصوري )
وكرامة الإنسان و مكانته في الشّريعة الإسلامية ، و حكمة خلقه و وجوده على الأرض و هو اﻻختبار و اﻻبتلاء
فشرّفه بالتّكليف و ابتلاه بعداوة الشّيطان و جعل له حرية اﻻختيار في الطّريق الذّي يسلكه .
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )
هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السّلام أبي البشر
حين أراد الله سبحانه وتعالى أن يرفع منزلته فجمع الملائكة وقال :
( إنّي جاعل في الأرض خليفة )
أن الله سبحانه وتعالى مُستخلفه في الأرض فقالت الملائكة على حسب حدّ علمها إذ لا يعرف الغيب إلا الله ، لا يعلم الغيب إلا الله جلّ وعلا
ها هي الملائكة تتساءل من هو هذا الخليفة لأنّها لا تعرف الغيب.
فقالت الملائكة أتجعل فيها - على حدّ علمها - من يفسد فيها بالمعاصي و يسفك الدّماء و خصّصت الملائكة الدّماء لعظم أمرها ،
و لبيان شدّة مفسدة القتل - هذا حسب ظنّهم - قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدّماء ( و نحن ) يعني نحن الملائكة المطهّرون نسبّح بحمدك و نقدسك و ننزّهك ، ننزّهك التّنزيه اللائق بحمدك و جلالك و نقدس لك .
إما يكون التّقديس للتّخصيص أو للإخلاص .
الاحتمال الثّاني : أن يكون نقدّس لك أنفسنا : نطهّرها بالأخلاق الجميلة كمحبّة الله و خشيته و تعظيمه و نطهّرها من الأخلاق الرّذيلة
(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )
قال الله جلّ وعلا : ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )
أنا أعلم بالحكم الرّبانيّة و أعلم من هذا الخليفة ما لا تعلمون ، لأنّ كلامكم بحسب ما ظننتم أنتم
وأنّ عالم الظّواهر و السّرائر هي لله ، وأعلم أنّ الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشّرّ
فلو لم يكن في ذلك إلا أنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يجتبي منه الأنبياء والصّديقين والشّهداء والصّالحين
- اللهم اجعلنا منهم يا حي يا قيوم -
ولتظهر آياته لخلقه ويحصل من العبوديات التّي لن تكن تحصل بدون خلق هذه الخليفة ، كالجهاد وغيره ،
وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشّرّ بالامتحان ، وليتبين عدوه من وليه وحزبه من حربه ، وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشّرّ الذّي انطوى عليه واتّصف به .
( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ )
لما كان قول الملائكة عليهم السّلام فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذّي يجعله الله في الأرض ، أراد الله عزّ وجل أن يبين لهم من فضل آدم ما يعرفون به فضله وكمال حكمته .
من رحمة الله سبحانه وتعالى أنّه علّم آدم أسماء كلّ شيء حتّى يعرفون من هو آدم وحتّى يعرفون مكانه آدم
وهذا كلّه تعزيز مكانه وتكريم من الله سبحانه وتعالى إلى أبينا آدم ، وما دام الله عزّ وجل كرّم أباك فهو كرّمك أنت فأنت خليفة الله في أرضه .
علّم آدم الأسماء كلّها : أسماء الأشياء والألفاظ والمعاني ، ثمّ عرض المسميات على الملائكة امتحانًا لهم هل يعرفونها أم لا .
( فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )
في قولكم وظنّكم أنّكم ترون أنّكم أفضل من هذه الخليفة أنبئوني بأسماء هؤلاء
( قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )
قالوا سبحانك ننزهّك عن الاعتراض منّا عليك ومخالفة أمرك لا علم لنا بوجه من الوجوه ولا نعرف شيء إلا ما علمتنا إيّاه فضل منك وجودا
إنّك أنت العليم الذّي أحاط بكلّ شيء علمًا فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرّة في السّماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .
الحكيم من له الحكمة التامّة التّي لا يخرج عنها مخلوق ولا يشذّ عنها مأمور فما خلق شيء إلا لحكمة ولا أمر بشيء إلا لحكمة
الحكمة : وضع الشّيء في موضعه اللائق به.
قالوا سبحانك لا علم لنا وهذا تواضع عظيم من الملائكة وتعظيم الله في قلوبهم , وأنّهم نسبوا العلم لله وحده .
( قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ )
أسماء المسمّيات التّي عرضها الله على الملائكة فعجزوا عنها فلمّا أنبأهم بأسمائهم تبين للملائكة فضل آدم عليهم ، وحكمة البارئ وعلمه في استخلاف هذا الخليفة
( قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ )
وهو ما غاب عنّا فلم نشاهده فإذا كان عالمًا بالغيب فالشّهادة من باب أولى
وأعلم ما تبدون : أي تظهرون وما كنتم تكتمون
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
هذا التّكريم الثّاني من الله عزّ وجل لآدم عليه السّلام ، ثمّ أمرهم الله تعالى بالسّجود لآدم إكرامًا له وتعظيمًا وعبوديةً لله فامتثلوا أمر الله و بادروا كلّهم بالسّجود إلا إبليس أبى و امتنع عن السّجود و استكبر عن أمر الله جلّ وعلا وهذا الإباء منه والاستكبار نتيجة الكفر الذّي هو منطوٍ عليه .
مرض القلوب يخرج ، مرض القلوب سيأتي الوقت الذّي يخرج فيه هذا المرض حتى ولو أخفى المنافق ما أخفى ، حتّى لو أخفى المخادع ما أخفى ، سيأتي الوقت الذّي سيخرجه
فتبيّنت حينئذٍ عداوته لله عزّ وجل و لآدم وكفره واستكباره ، وفي هذه الآيات من العبر منها :
* إثبات الكلام لله تعالى ، أنّه لم يزل متكلمًا يقول ما شاء ويتكلّم بما شاء.
* أنّ الله عليم حكيم ، وأنّ العبد إن خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات و المأمورات فالواجب عليه التّسليم و اتّهام عقله و الإقرار لله بالحكمة.
* اعتناء الله عزّ وجل بشأن الملائكة و إحسانه بهم بتعليمهم ما جهلوا و تنبيههم على ما لم يعلموا.
* فيه فضيلة العلم ، لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يرفع آدم عليه السّلام رفعه بالعلم ، لو كان شيء أرفع من العلم لرفع به آدم عليه السّلام أمام الملائكة
ثمّ قال الله تعالى بعدها : ( وأعلم ما تُبدُونَ وما كُنتم تكتُمون )
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا )
لما خلق الله تعالى آدم و فضله أتمّ نعمته عليه بأن خلق منه زوجه ليسكن إليها و يستأنس بها وأمرهم بسكن الجنّة والأكل منها رغدًا واسعًا هنيئًا حيث شئتما أيّ من أي أصناف الثّمار و الفواكه ولا تقربا هذه الشّجرة ، نوع من أنواع شجر الجنّة والله أعلم به اختلف العلماء كثيرًا فيها ، ولا يهمّ أن نعرف ما هي هذه الشّجرة وإنّما نهاهم عنها امتحانًا وابتلاءً أو لحكمةٍ غير معلومةٍ لا نعرفها ثمّ قال بعدها :
( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ )
دلّ على أنّ النّهي للتّحريم لأنّه رتب عليه الظلم
( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ )
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما و يزين لهما حتى أزّلهما و قاسمهما بالله إنّي لكما لمن النّاصحين فاغترّا به و أطاعاه فأخرجاهما ممّا كانا فيه من النّعيم و الرّغد وأُهبطوا إلى دار التّعب و النّصب و المجاهدة.
( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ )
أي آدم و ذرّيته أعداء لإبليس و ذرّيته ، ومن المعلوم أن العدو يجدّ و يجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشّرّ إليه بكلّ طريقة
( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ )
ستهبطون إلى هذه الأرض فترة حتّى تنتهي أعماركم ومتاع إلى حين يعني وقت محدّد.
( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
تاب آدم بهذه الكلمات
تلقّى أيّ تلقّف وتلقّن وألهمه الله عزّ وجل
وهذه الكلمات هي ( ربّنا ظلمنا أنفسنا )
تلقّاها آدم عليه السّلام من ربّه فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته فتاب عليه سبحانه في الحال ، إنّه هو التّواب لمن تاب إليه و أناب ، الرّحيم بعباده ومن رحمته بهم أنّه وفقهم للتّوبة وعفا عنهم وصفح سبحانه جلّ وعلا.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد.
جزاكم الله خيرا على هذا المجهود الرائع وأسأل الله لي ولكم ولوالدي الرحمه وجنات الفردوس الأعلى إن شاء الله تعالى تبارك الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ردحذف