بسم الله الرحمن الرحيم
الوجه السادس من سورة البقرة
يقول تعالى :- ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38))
" قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا .."
كرّر الإهباط ليترتب عليه ما ذكر وهو قوله تعالى
" فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى "
أيّ وقتٍ وأيّ زمانٍ جاءكم مني يا معشر الثّقلين الجنّ و الإنّس هدى : أي رسول وكتاب يهديكم ،
- ماهو الهدى ؟
رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم منّي ، و يدنيكم من رضاي حتى أرضى عنكم
- من الذّي يأتي بالهدى ؟
الرّسول و الكتاب عن طريق الله سبحانه و تعالى
فمن تبع هداي منكم بأن آمن برسلي و كتبي و اهتدى بهم و ذلك بتصديق جميع أخبار الرسل و الكتب و الامتثال للأمر
و الاجتناب للنّهي .
و الاجتناب للنّهي .
بعدها وعد من الله سبحانه و تعالى و هو اليقين الذي ذكره الله عزّ و جل في بداية السّورة :
- (( آلٓم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2))
هنا قاعدة : لا ريب فيه ، لا شكّ فيه وهو يقين من الله سبحانه
و تعالى ،
و تعالى ،
- ماهو الوعد ؟
الوعد ( ... فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38))
- ماهو الفرق بين الخوف و الحزن ؟
الحزن :- إن كان منتظراً أحدث المكروه
و إن كان المكروه قد مضى أحدث الحزن
و إن كان المكروه منتظرا أحدث الخوف .
فنفاهم الله عز وجل
- عمن نفاهم ؟
( .. فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
فنفاهما عن من اتّبع هداه
وهذا عكس من لم يتبع هداه فكفر به و كذب بآياته فلهم النّار
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39))
ملازمون لها ملازمة الصّاحب لصاحبه و الغريم لغريمه ، هم فيها خالدون لا يخرجون منها و لا يفترّ عنهم العذاب و لا هم ينصرون .
ثمّ يقول الله تعالى بعدها :- ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40))
والمراد بإسرائيل هو يعقوب عليه السّلام
و الخطاب مع فرق بني إسرائيل الذين بالمدينة و ما حولها و يدخل فيهم من أتى من بعدهم فأمرهم الله تعالى بأمر عام
الأمر :- ( ..اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي )
ويشمل سائر النّعم التّي سيذكرها في السّورة
و الشّكر و هو ذكرها بالقلب اعترافًا و باللسان ثناءً و بالجوارح باستعمالها فيما يحبّه ويرضيه .
( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ) .. وهو ماعهده إليهم من الإيمان به و برسله و إقامة شرعه .
( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) ... و هو المجازاة على ذلك أنه سيجازيهم على ذلك .
( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) ... وحدي أنا فقط اتقون و خافون.
(( وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) [البقرة:٤١]
أمرهم بسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده ، و هو الرّهبة منه وخشيته وحده فإن من خشيته أوجبت أمتثال أمره و اجتناب نهيه .
ثم أمرهم بالأمر الخاص الذي لا يتم إيمانهم ولا يصح إلا به :-
( وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) .. بما أنزلت يقصد القرآن
يا بني إسرائيل يا أهل الكتاب " اليهود و النّصارى في المدينة " آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم هو يصدّق لما معكم .
- ماهو الذّي معهم ؟
التّوراة و الإنجيل ، أي أنّ هذا القرآن هو مصدّق لما معهم .
إشارةً إلى أنّكم إن لم تؤمنوا به عاد ذلك عليكم بتكذيب ما معكم ، لأنّ ما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم هو الذّي جاء به موسى وعيسى و غيرهما من الأنبياء ،
فتكذيبكم به تكذيبًا لما معكم .
( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) ..
يعني لا تكونوا أول كافر بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم و بالقرآن هذا لا يليق بكم لأنّكم أنتم أهل كتاب فكيف يليق بكم أن تكونوا أول من يكفر بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم و أول من يكذّب القرآن ،
وهو مصدقًا لما معكم من الكتب .
وهذا أبلغ قوله سبحانه و تعالى " أول كافرٍ به " أبلغ من قول : ولا تكفروا به .
( .. وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ...)
- ماهو الثّمن القليل ؟ هو ما يحصل لهم من مناصب و مأكل و لذّات
(.. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) )
أي اتقوني أنا الله سبحانه و تعالى ، فإنكم إذا اتّقيتم الله وحده أوجبت لكم تقواه و تقديم الايمان بآياته .
ثمّ يقول الله تعالى :- ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42))
"وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ .." أي لا تخلطوا الحقّ بالباطل
"وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ .."
هنا نهاهم عن شيئين - عن خلط الحقّ بالباطل
- و كتمان بيان الحقّ
لأنّ المقصود من أهل الكتاب و العلم تميّيز الحقّ من الباطل و إظهار الحقّ للنّاس ليهتدي بذلك المهتدون و يرجعوا بذلك الضّالون و تقوم الحجّة على المعاندين .
ثمّ يقول تعالى :- ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43))
أي ظاهراً و باطناً وآتوا الزّكاة أي أعطوها مستحقيها و اركعوا مع الراكعين أي صلّوا مع المصلّين فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله و آيات الله فقد جمعتم بين الإخلاص للمعبود و الإحسان لعبده و بين العبادات القلبية و البدنية و المالية
( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) صلّوا مع المصلين وفيه الأمر بالجماعة للصّلاة ووجوبها وفيه أنّ الركوع ركن من أركان الصّلاة لأنّه عبر عن الصّلاة بالرّكوع و خصّ الله سبحانه و تعالى الركوع في الآية يدل ذلك على فضله و عظم شأنه .
ثمّ يقول تعالى ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44))
بعد كلّ هذه التوجيهات لبني إسرائيل يوجههم
ويقول أتأمرون النّاس بالإيمان والخير و تنسون أنفسكم تتركونها عن أمرها بذلك و هذا أمرٌ خطير .
(.. وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ..)
تعرفون الكتاب تفهمون الكتاب
(....أَفَلا تَعْقِلُونَ ))
سمّي العقل عقلاً لأنّه يعقل به ما ينفعه من الخير و ينعقل به عمّا يضرّه ولأنّ العقل يحضّ صاحبه على أن يكون أول فاعلٍ لما يأمر به الله سبحانه و تعالى .
وليس في الآية أنّ الإنسان إذا لم يقم بما أُمر به أنّه يترك الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر .. ..
لأنّه دلّت على التّوبيخ بالنسبة إلى الواجبين .
أنّ الإنسان لديه واجبين :-
أمر غيره و نهيه
وأمر نفسه و نهيها
فترك أحدهما لا يكون رخصةً في ترك الآخر
فالشّريعة الإسلامية كاملة مكمّلة
فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين والنّقص الكامل أن يتركهما جميعاً .
ثمّ يقول تعالى :- ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45))
أمرهم الله تعالى أن يستعينوا في أمورهم كلّها بالصّبر بجميع أنواعه .
وهو الصّبر على طاعة الله حتّى يؤديها ،
والصّبر على معصية الله حتّى يتركها ،
والصّبر على أقدار الله المؤلمة فلا يسخطها ..
فالصّبر و حبس النّفس على ما أمر الله بالصّبر معونةٌ عظيمة على كلّ أمرٍ من الأمور ، ومن يصبّر يصبّره الله .
لكبيرة شاقّة إلّا على من ؟!
إلّا على فئةٍ من النّاس منهم ؟
هؤلاء الخاشعين .. فإنّها سهلةٌ عليهم ، خفيفة .
لأنّ الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعله منشرحًا صدره يرتقب الثّواب ، يخشى من العقاب بخلاف مالم يكن كذلك فإنّه لا داعي له يدعوه إليها .
ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى :- ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46))
هذا هو اليقين .. يظنّون عندهم الظن اليقين الذي لا شك فيه يستيقنون أنّهم ملاقوا الله و سيجازيهم بأعمالهم و أنّهم إليه راجعون ،
فهذا الذّي خفّف عليهم العبادات ، و أوجب لهم التّسلّي في المصيبات ،و نفّس عنهم الكربات ، وزجر عنهم فعل السّيئات، فهؤلاء لهم النّعيم المقيم في الغرفات العاليات.
- وَاتَّقُوا يَوْمًا > ( احذروا هذا اليوم )
- لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا >
( أي لا تغني نفس لو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء و الصّالحين عن نفس ولو كانت من العشيرة الأقربين شيئاً لا كبيرةً ولا صغيرة )
- وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ >
( لا يقبل منها أي النّفس شفاعةٌ لأحد بدون إذن الله تعالى و رضاه عن المشفوع له ، ولا يرضى عن العمل إلا ما أريد به وجهه جلّ وعلى وكان على السّبيل و السّنة )
- وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ > ( أي فداء ) وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
يدفع عنهم المكروه فنفي الانتفاع من الخلق بأيّ وجه من الوجوه .
.. لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ..>
هذا في تحصيل المنافع
... وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ > هذا في دفع المضار
فهذا النّفي للأمر المستقلّ بالنّفع .
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق