الاثنين، أغسطس 08، 2016

تفريغ سورة الأنعام من آية 125 إلى آية 130




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



الوجهُ السَّابعُ عشر من سورة الأنعام


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) ( 125)

يقولُ اللهُ تَعالَى مُبَيِّنًا لعبادِهِ علامةَ سعادةِ العبدِ، وهدايتِهِ،
وعلامةَ شقاوتِهِ وضلالِهِ:

إنَّ مَنْ انشرَحَ صدرُهُ للإسلامِ،
أي: اتَّسعَ وانفسحَ، فاستنارَ بنورِ الإيمانِ، وحيّي بضوءِ اليقينِ،
فاطمأنَتْ بذلكَ نفسُهُ، وأحبَّ الخيرَ، وطوَّعَتْ لهُ نفسُهُ فعلَهُ،
مُتلذِّذًا بهِ، غيرَ مُستثقِلٍ لهُ،

فإنَّ هذا علامةٌ على أنَّ اللهَ قدْ هدَاهُ،
ومَنَّ عليهِ بالتَّوفيقِ، وسلوكِ أقومَ الطَّريقِ.

وأنَّ علامةَ منْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُضِلَّهُ، أنْ يجعلْ صدرَهُ ضيِّقا حرَجًا.
أي: في غايةِ الضِّيقِ عنِ الإيمانِ والعلمِ واليقينِ،

قدْ انغمسَ قلبُهُ في الشُّبُهاتِ والشَّهوَاتِ، فلا يصلُ إليهِ خيرٌ،
لا ينشرحُ قلبُهُ لفعلِ الخيرِ،

كأنَّهُ مِنْ ضيقِهِ وشدَّتِهِ يكادُ يصعَّدُ في السَّماءِ،
أي: كأنَّهُ يُكَلَّفُ الصُّعودَ إلى السَّماءِ، الذي لا حيلةَ لهُ فيهِ.

وهذا سببُهُ، عدمُ إيمانِهِم، هو الذي أوجبَ أنْ يجعلَ اللهُ الرِّجْسَ عليهِم،
لأنَّهُم سدُّوا على أنفسِهِم بابَ الرَّحمةِ والإحسانِ.

وهذا ميزانٌ وطريقٌ لا يعوَّلُ، وطريقٌ لا يتغيَّرُ،

فإنَّ مَنْ أعطَى واتَّقَى، وصدَّقَ بالحُسنَى، يسَّرَهُ اللهُ لليُسرَى،
ومَنْ بخلَ واستغنَى، وكذَّبَ بالحُسْنَى، فسيُيَسرُهُ للعُسْرَى.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) ( 126)

{ وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا }:
أي: معتدِلًا، مُوصِلًا إلى اللهِ، وإلى دار ِكرامتِهِ،

{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ }:
قدْ بُيِّنَتْ أحكامُهُ، وفُصِّلَتْ شرائعُهُ، ومُيِّزَ الخيرُ من الشَّرِّ.

ولكنَّ هذا التَّفصيلَ والبيانَ، ليسَ لكلِّ أحدٍ،
إنَّما هوَ:

{ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }:
فإنَّهُم الذين علمُوا، فانتفعُوا بعلمِهِم،
وأعدَّ اللهُ لهُم الجزاءَ الجزيلَ، والأجرَ الجميلَ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(  لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( 127)

{ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ }:
وسُمِّيَتِ الجنَّةُ دارَ السَّلامِ، لسلامتِها منْ كلِّ عيبٍ وآفةٍ وكدرٍ، وهمٍّ وغمٍّ،
وغيرِ ذلكَ منَ المُنغِّصاتِ.

ويلزمُ منْ ذلكَ، أنْ يكونَ نعيمُها في غايةِ الكمالِ، ونهايةِ التَّمامِ،

بحيثُ لا يقدرُ على وصفِهِ الواصِفُون، ولا يتمنَّى فوقَهُ المُتَمَنُّون،
منْ نعيمِ الرُّوحِ والقلبِ والبدنِ،

ولهُم فيها، ما تشتهيهِ الأنفسُ، وتلذُّ الأعيُنُ، وهم فيها خالدُون.

{ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ }:
الذي يتولَّى تدبيرَهُم وتربيتَهُم،
ولطَفَ بهِم في جميعِ أمورِهِم، وأعانَهُم على طاعتِهِ،
ويسَّرَ لهُم كلَّ سببٍ مُوصِلٍ إلى محبَّتِهِ.

وإنَّما تولَّاهُم، بسببِ أعمالِهِم الصَّالحةِ،
ومُقدِّماتِهِم التي قصدُوا بها رضَا مولاهُم.

بخلافِ من أعرضَ عن مولَاهُ، واتَّبعَ هوَاهُ،
فإنَّهُ سلَّطَ عليهِ الشَّيطانَ فتولَّاهُ، فأفسدَ عليهِ دينَهُ ودُنياهُ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( 128)

يقولُ تَعالَى:
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا }:
أي: جميعُ الثِّقلَين، منَ الإنسِ والجنِّ،
مَنْ ضلَّ منْهُم، ومَنْ أضلَّ غيرَهُ،

فيقولُ مُوبِّخًا للجنِّ الذين أضلُّوا الإنسَ، وزيَّنُوا لهُم الشَّرَّ،
وأزُّوهُم إلى المعاصِي:

{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ }:
أي: من إضلالِهِم، وصدِّهِم عنْ سبيلِ اللهِ.

فكيفَ أقدمْتُم على محارِمِي، وتجرَّأْتُم على معاندةِ رسُلِي؟
وقمْتُم مُحارِبِين للهِ،
ساعِين في صدِّ عبادِ اللهِ عن سبيلِهِ إلى سبيلِ الجحيمِ؟

فاليومَ حقَّتْ عليكُم لعنَتِي، ووجبَتْ لكُم نقمَتِي،
وسنزيدُكُم منَ العذابِ بحسب ِكفرِكُم، وإضلالِكُم لغيرِكُم.

وليسَ لكُم عذرٌ بهِ تعتذرُون، ولا ملجأٌ إليه تلجأُون،
ولا شافعٌ يشفعُ، ولا دُعاءٌ يُسمَعُ.

فلا تسألْ حينئذٍ عمَّا يحلُّ بهِم من النَّكالِ، والخزيِ والوَبالِ،

ولهذا لم يذكرِ اللهُ لهُم اعتذارًا.

وأمَّا أولياؤُهُم من الإنسِ، فأبدُوا عذرًا غيرَ مقبولٍ،
فقالُوا:

{ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ }:
أي: تمتَّعَ كلٌّ منَ الجِنّيِّ والإنسيِّ بصاحبِهِ، وانتفعَ بهِ.

فالجنِّيُّ يستمتعُ بطاعةِ الإنسيِّ لهُ، وعبادتِهِ، وتعظيمِهِ، واستعاذتِهِ بهِ.
والإنسيُّ يستمتعُ بنيلِ أغراضِهِ، وبلوغِ أهدافهِ.

{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا }:
أي: وقدْ وصلْنا المحلَّ الذي نُجازَى فيهِ بالأعمالِ،
فافعلْ بنا الآنَ ما تشاءُ، واحكُمْ فينَا بما تريدُ،

فقدِ انقطعَتْ حجَّتُنا، ولم يبقَ لنَا عذرٌ،
والأمرُ أمرُكَ، والحكْمُ حكمُكَ.

وكأنَّ في هذا الكلامِ منْهُم، نوعُ تضَرُّعٍ وترقٌّقٍ،
ولكنْ في غيرِ أوانِهِ.

ولهذا حكَمَ فيهِم بحُكمِهِ العادلِ، الذي لا جورَ فيهِ،
فقالَ:
{ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا }

ولمَّا كانَ هذا الحكمُ مِنْ مُقتضَى حكمتِهِ وعلمِهِ،
ختمَ الآيةَ بقولِهِ:

{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }:
فكما أنَّ علمَهُ وسعَ الأشياءَ كلَّها، وعمَّها،
فحكمتُهُ الغائيَّةُ شملَتْ الأشياءَ، وعمَّتْها، ووسِعَتْها.

يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( 129)

{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }:
أي: وكما ولَّيْنَا الجنَّ المَرَدَةَ،
وسلَّطْناهُم على إضلالِ أوليائِهِم من الإنسِ،
وعقدْنَا بينَهُم عقدَ الموالاةِ والموافقةِ،
بسببِ كسبِهِم وسعيِهِم بذلكَ.

كذلكَ مِنْ سُنَّتِنا أنْ نُوَلِّيَ كلَّ ظالمٍ ظالمًا مثلَهُ،
يؤزُّهُ إلى الشَّرِّ أزًّا، ويحثُّهُ عليهِ،
ويُزهِدُهُ في الخيرِ، ويُنَفِّرُهُ عنْهُ.

وذلكَ منْ عقوباتِ اللهِ العظيمةِ، الشَّنيعِ أثرُها، البليغِ خطرُها.

والذَّنبُ ذنبُ الظَّالمِ،
فهوَ الذي أدخلَ الضَّررَ على نفسِهِ، وعلى نفسِهِ جنَى.

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }:
ومنْ ذلكَ، أنَّ العبادَ إذا كثرَ ظلمُهُم وفسادُهُم،
ومنْعُهُم الحقوقَ الواجبةَ،
ولَّى عليهِم ظلَمَةً، يسومونَهُم سوءَ العذابِ،
ويأخذونَ منْهُم بالظُّلمِ والجُورِ أضعافَ ما منعُوا من حقوقِ اللهِ،
وحقوقِ عبادِهِ، على وجهٍ غيرَ مأجُورِين فيهِ ولا مُحتَسِبِين.

كما أنَّ العبادَ إذا صلَحُوا واستقامُوا، أصلحَ اللهُ رُعاتَهُم،
وجعلَهُم أئمَّةَ عدلٍ وإنصافٍ،
لا ولاةَ ظلمٍ واعتسافٍ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) ( 130)

ثمَّ وبَّخَ اللهُ جميعَ منْ أعرضَ عن الحقِّ، ورَدَّهُ، من الجنِّ والإنسِ،
وبَّين خطأَهُم، فاعترفُوا بذلكَ،
فقالَ:

{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي }:
الواضِحاتِ البيِّناتِ،
التي فيها تفاصيلُ الأمرِ والنَّهيِ، والخيرِ والشَّرِّ، والوعدِ والوعيدِ.

{ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا }:
ويعلِّمونَكُم أنَّ النَّجاةَ فيهِ، والفوزَ
إنَّما هو بامتثالِ أوامرِ اللهِ، واجتنابِ نواهِيهِ،
وأنَّ الشَّقاءَ والخُسرانَ في تضييعِ ذلكَ.

فأقرُّوا بذلكَ، واعترفُوا:

{ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا }:
بزينتِها وزخرفِها، ونعيمِها،
فاطمأنُّوا بها ورضُوا،
وألهتْهُم عن الآخرةِ.

{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }:
فقامَتْ عليهِم حُجَّةُ اللهِ تَعالَى،
وعلمَ حينئذٍ كلُّ أحدٍ، حتى هُم بأنفسِهِم عدلَ اللهِ عزَّ وجلَّ فيهِم،


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) ( 131)

فقالَ لهُم، حاكمًا عليهِم بالعذابِ الأليمِ:

{ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ }:
صنعُوا كصنيعِكُم، واستمتَعُوا بخلاقِهِم كما استمتعْتُم،
وخاضُوا بالباطلِ كما خضْتُم،

إنَّهُم كانُوا خاسِرِين،
أي: الأوَّلُون من هؤلاءِ والآخِرُونَ.

وأيُّ خسرانٍ أعظمُ منْ خسرانِ جنَّاتِ النَّعيمِ،
وحرمانِ جوارِ أكرمِ الأكرَمِين؟!

نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!

اللَّهُمَ إنَّا نسألُكَ الفردوسَ الأعلَى منَ الجنَّةِ يا حيُّ يا قيُّومُ!

ولكنَّهُم وإنْ اشتركُوا في الخُسرانِ،
فإنَّهُم يتفاوتُون في مقدارِهِ تفاوتًا عظيمًا.



سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.




ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق