الاثنين، أغسطس 08، 2016

تفريغ سورة الأنعام من آية 138 إلى آية 142





بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



الوجهُ التَّاسعُ عشر من سورة الأنعام


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ( 138)

ومنْ أنواعِ سفاهتِهِم أنَّ الأنعامَ التي أحلَّها اللهُ لهُم عمومًا،
وجعلَها رزقًا ورحمةً، يتمتَّعُون بها وينتفعُون،
قد اخترعُوا فيها بِدعًا وأقوالًا مِنْ تلقاءِ أنفسِهِم،

فعندَهُم اصطلاحٌ في بعضِ الأنعامِ والحرثِ، أنَّهُم يقولُون فيها:

{ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ }:
أي: محرَّمٌ

{ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ }:
أي: لا يجوزُ أنْ يطعمُهُ أحدٌ، إلا منْ أردْنَا أنْ يطعمَهُ،
أو وصفناهُ بوصفٍ - مِنْ عندِهِم.

وكلُّ هذا بزعمِهِم، لا مستندَ لهُم ولا حجَّةَ إلا أهويتُهُم،
وآراؤُهُم الفاسدةُ.

وأنعامٌ ليسَتْ محرَّمةً منْ كلِّ وجهٍ، بل يحرِّمُون ظهورَها،
أي: بالرُّكوبِ والحملِ عليها، ويحمُون ظهرَها، ويسمُّونَها الحامَ،

وأنعامٌ لا يذكرُون اسمَ اللهِ عليها، بلْ يذكُرون اسمَ أصنامِهِم،
وما كانوا يعبدُون منْ دونِ اللهِ عليها،
وينسبُون تلكَ الأفعالَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وهم كذبةٌ فُجَّار في ذلكَ.

{ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }:
على اللهِ، عزَّ وجلَّ،
منَ إحلالِ الشِّركِ، وتحريمِ الحلالِ منَ الأكلِ، والمنافعِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا ۖ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ۚ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ۚ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( 139)

ومن آرائِهِم السَّخيفةِ، أنَّهُم يجعلُون بعضَ الأنعامِ،
ويعيِّنُونَها – محرَّمًا ما في بطنِها على الإناثِ دونَ الذُّكورِ،

وهذا يدلُّ على سخافةِ عقولِهِم،

فيقولُون:
{ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا }:
أي: حلالٌ لهُم، لا يشاركُهُم فيها النِّساءُ،

وهذا يدلُّ على النَّظرةِ الدُّونيِّةِ للنِّساءِ عندَهُم.

{ وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا }:
أي: نسائِنا،
هذا إذا وُلِدَ حيًّا،

وإنْ يكنْ ما في بطنِها يولدُ ميِّتًا،
فهُم فيهِ شركاءُ،
أي: فهوَ حلالٌ للذُّكورِ والإناثِ.

{ سَيَجْزِيهِمْ }:
اللهُ عزَّ وجلَّ

{ وَصْفَهُمْ }:
حينَ وصفُوا ما أحلَّهُ اللهُ بأنَّهُ حرامٌ، ووصفُوا الحرامَ بالحلالِ،

فناقضُوا شرعَ اللهِ  عزَّ وجلَّ، وخالفُوهُ،
ونسبُوا ذلكَ إلى اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى.

{ إِنَّهُ حَكِيمٌ }:
حيثُ أمهلَ لهُم، ومكّنَهم ممَّا هُم فيهِ منَ الضَّلالِ.

{ عَلِيمٌ }:
بهِم جلَّ وعَلا، لا تخفَى عليهِ خافيةٌ،
وهوَ تَعالَى يعلمُ بهِم، وبما قالُوه عليهِ، وافتَرُوهُ،
وهوَ يعافِيهِم ويرزُقُهُم جلَّ جلالُهُ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(  قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ۚ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( 133)

ثمَّ بيَّنَ خسرانَهُم وسفاهةَ عقولِهِم، فقالَ:

{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }:
أي: خسرُوا دينَهُم وأولادَهُم وعقولَهُم،
وصارَ وصْفُهُم -بعدَ العقولِ الرَّزينةِ- السَّفَهَ المُردِيَ، والضَّلالَ.

{ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ }:
أي: ما جعلَهُ رحمةً لهُم، وساقَهُ رزقًا لهُم.

فردُّوا كرامةَ ربِّهِم،
ولم يكتفُوا بذلكَ، بلْ وصفُوها بأنَّها حرامٌ، وهي من أَحَلِّ الحلالِ.

وكلُّ هذا :
{ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ }:
أي: كذبًا يكذبُ بهِ كلُّ معاندٍ كَفَّارٍ.

{ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }:
أي: قد ضلُّوا ضلالًا بعيدًا،
ولم يكونُوا مُهتَدِين في شيءٍ من أمورِهِم،
بعيدِين عن الحقِّ والهُدَى.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) ( 141)

لمَّا ذكرَ اللهُ تَعالَى تصرُّفَ المُشرِكِين في كثيرٍ ممَّا أحلَّهُ اللهُ لهُم،
 منَ الحروثِ والأنعامِ،
ذكرَ تباركَ وتَعالَى نعمتَهُ عليهِم بذلكَ،
ووظيفتَهُم اللَّازِمةِ عليهِم في الحروثِ والأنعامِ،

فقالَ:
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ }:
أي: بساتينَ، فيها أنواعُ الأشجارِ المتنوِّعةِ، والنَّباتاتِ المختلفةِ.

{ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ }:
أي: بعضُ تلكَ الجنَّاتِ:
مجعولٌ لها عرشٌ،
تنتشرُ عليهِ الأشجارُ، ويعاونُها في النُّهوضِ عنِ الأرضِ.
وبعضُها خالٍ منَ العروشِ،
تنبتُ على ساقٍ، أو تنفرشُ في الأرضِ.

وفي هذا تنبيهٌ على كثرةِ منافِعِها، وخيراتِها،

وأنَّهُ تَعالَى، علَّمَ العبادَ كيفَ يعرشونَها، وينمُّونَها.

{ وَ }:
أنشأَ تَعالَى

{ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ }:
أي: كلُّهُ في محلٍ واحدٍ، ويشربُ منْ ماءٍ واحدٍ،
ويفضِّلُ اللهُ عزَّ وجلَّ بعضَهُ على بعضٍ في الأكلِ.

وخصَّ تَعالَى النَّخلَ والزَّرعَ على اختلافِ أنواعِهِ، لكثرةِ منافعِها،
ولكونِها هي القوتُ لأكثرِ الخلْقِ.

{ وَ }:
أنشأَ تَعالَى

{ َالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا }:
في شجرِهِ

{ وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ }:
في ثمرِهِ وطعمِهِ.

كأنَّهُ قيلَ: لأيِّ شيءٍ أنشأَ اللهُ هذهِ الجنَّاتِ، وما عطفَ عليها؟
فأخبرَ أنَّهُ أنشأَها لمنافعِ العبادِ،
فقالَ:

{ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ }:
أي: النَّخلِ والزَّرعِ

{ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }:
أي: أعطُوا حقَّ الزَّرعِ،
وهو الزَّكاةُ ذاتُ الأنصباءِ المقدَّرةِ في الشَّرعِ،

أمرَهُم أنْ يعطُوها يومَ حصادِها،
وذلكَ لأنَّ حصادَ الزَّرعِ بمنزلةِ حوَلَانِ الحولِ،

لأنَّهُ الوقتُ الذي تتشوَّفُ إليهِ نفوسُ الفقراءِ،
ويسهلُ حينئذٍ إخراجُهُ على أهلِ الزَّرعِ،
ويكونُ الأمرُ فيها ظاهرًا لمنْ أخرجَها،
حتى يتميَّزَ المُخرِجُ ممَّنْ لا يُخرِجُ.

وقولُهُ:
{ وَلَا تُسْرِفُوا }:
يعمُّ النَّهيَ عن الإسرافِ في الأكلِ، وهو مجاوزةُ الحدِّ والعادةِ.

نسألُ اللهَ أنْ يعفوَ عنَّا، ويغفرَ لنا!

وأنْ يأكلَ صاحبُ الزَّرعِ أكلًا يضرُّ بالزَّكاةِ،
والإسرافَ في إخراجِ حقَّ الزَّرعِ،
بحيثُ يخرِجُ فوقَ الواجبِ عليهِ،
ويضرُّ نفسَهُ، أو عائلتَهُ، أو غرماءَهُ.

فكلُّ هذا منَ الإسرافِ الذي نهَى اللهُ عنْهُ، الذي لا يحبُّهُ اللهُ،
بلْ يبغضُهُ ويمقتُ عليهِ- سُبحانَهُ جلَّ وعَلا.

وفي هذهِ الآيةِ دليلٌ على وجوبِ الزَّكاةِ في الثِّمارِ،
وأنَّهُ لا حولَ لهَا،
بلْ حولُها حصادُها في الزُّروعِ، وجذاذِ النَّخيلِ.

وأنَّهُ لا تتكرَّرُ فيها الزَّكاةُ، لو مكثَتْ عندَ العبدِ أحوالًا كثيرةً،
إذا كانَتْ لغيرِ التِّجارةِ،
لأنَّ اللهَ لم يأمرْ بالإخراجِ منْهُ إلا وقتَ حصادِهِ.

وأنَّهُ لو أصابَها آفةٌ قبلَ ذلكَ
بغيرِ تفريطٍ من صاحبِ الزَّرعِ والثَّمرِ،
أنَّهُ لا يضمنُها،
وأنَّهُ يجوزَ الأكلُ منَ النَّخلِ والزَّرعِ قبلَ إخراجِ الزَّكاةِ منْهُ،

وأنَّهُ لا يحسُبُ ذلكَ منَ الزَّكاةِ، بل يزكِّي المالَ الذي يبقَى بعدَهُ.

وقد كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يبعثُ خارصًا،
يخرصُ للنَّاسِ ثمارَهُم،
ويأمرُهُ أنْ يدَعَ لأهلِها الثُّلثَ، أو الرُّبعَ،
بحسبِ ما يعترِيها منَ الأكلِ وغيرِهِ، منْ أهلِها، وغيرِهِم.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( 142)

أي:
وخلقَ اللهُ عزَّ وجلَّ، وأنشأَ:

{ من الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا }:
أي: بعضُها تحملُون عليهِ، وتركبُونَهُ،
وبعضُها لا تصلحُ للحملِ والرُّكوبِ عليها،
لصغرِها كالفُصلانِ ونحوِها، وهي الفَرْشِ.

فهيَ منْ جهةِ الحملِ والرُّكوبِ، تنقسمُ إلى هذَين القسمَين.

وأمَّا منْ جهةِ الأكلِ، وأنواعِ الانتفاعِ،
فإنَّها كلُّها تؤكَلُ، ويُنتَفَعُ بها.

ولهذا قالَ:
{ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }:
أي: طرقَهُ وأعمالَهُ،
التي منْ جملتِها أنْ تحرِّمُوا بعضَ ما رزقَكُم اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى.

{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }:
فلا يأمرُكُم إلا بما فيهِ مضرَّتُكُم وشقاؤُكُم الأبديُّ.

نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!



سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.





ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق