الأربعاء، أكتوبر 07، 2015

تفريغ سورة البقرة من آية 62 إالى آية 69





[ الوجه التاسع من سورة البقرة ]



{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }



هذه الآية تبيّن كمال عدل الله فى إثابة المؤمنين من جميع الأمم .
- وجه الرّبط بينها وبين الآية التى قبلها :

لما ذكر الباري سبحانه جلّ وعلا بني إسرائيل وذمّهم وذكر معاصيهم وقبائحهم ، ربّما وقع فى بعض النّفوس أنّهم كلّهم يشملهم الذّم ؛ فأراد الله تعالى أن يبيّن من لم يلحقه الذّم منهم ومن المؤمنين عامة .
يقول الله تعالى ( إنّ الّذين آمنوا ) : 
بدأ الله عزّ وجل بالّذين آمنوا ومن المعلوم مكانة المؤمنين عند الله جلّ وعلا لذلك بدأ بهم ،


ثمّ قال ( والّذين هادوا والنّصارى والصّابئين ... )
 الصّابئين > الصّحيح أنّهم من جملة فرق النّصارى ،


فأخبر الله تعالى بأنّ المؤمنين من هذه الأمّة واليهود والنّصارى والصّابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وصدّقوا رسلهم ؛
فإنّ لهم الأجر العظيم والأمن ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون،
وأمّا من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر فهو عكس هذه الحال فعليه الخوف والحزن .


فبيّن الله فى هذه الآية أنّه لا يظلم أحداً ،
فكلّ من آمن بالله واليوم الآخر فله أجره من أي صنف كان ،
وهذا الإخبار إخبار عنهم قبل بعثة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النّفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام ؛ فلا بدّ أن تجد ما يزيل عنك الوهم لأنّه تنزيل من عزيزٍعليمٍ حكيم ، من يعلم الأشياء قبل وجودها ومن رحمته وسعت كلّ شيء ، وذلك والله أعلم لما ذكر بني إسرائيل وذمّهم وذكر معاصيهم وقبائحهم ربّما وقع فى بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذّم ؛ أراد الباري سبحانه أن يبيّن خلاف ذلك ليتضّح الحقّ ويزيل التّوهم والإشكال .
فسبحان من أودع فى كتابه ما يبهرعقول العالمين .


ثمّ عاد تبارك وتعالى يوبّخ بني إسرائيل بما فعل أسلافهم 
فقال تعالى : 
 ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾


والآيات 63-64-65-66

كلّها تبيّن ميثاق بني إسرائيل وتولّيهم عن القيام به ،
وجزاء الله سبحانه وتعالى لهم .

الميثاق وهو العهد الغليظ .
( وإذ أخذنا ميثاقكم ) وهو العهد الثّقيل المؤكّد بالتّخويف لهم 
ويرفع الطّور فوقهم والله سبحانه خوّفهم بالطّور فرفع جبل الطّور فوق رؤوسهم بقدرته ومشيئته ، حتّى صار بمثابة المظلّة فوقهم تهديدًا وتخويفًا لهم ،
ثمّ أمرهم أن يتمسّكوا بالشّريعة التي كلّفهم بها بجدٍ وعزيمة لا بكسلٍ واسترخاء .


فالتّكليف يحتاج إلى عزمٍ واجتهاد وهذا التّمسّك يُوجب تقوى الله وطاعته ومخافة عذابه ، ثمّ بعد هذا اﻹنذار وكون الجبل فوق رؤوسهم وفي ذلك الوقت خضعوا وهرعوا لله سبحانه وتعالى سجّدًا ، ولكنّهم مالوا في سجودهم ينظرون إلى الجبل خائفين منه.


ولهذا يُقال أنّ سجود اليهود مائل ينظرون لشيء فوقهم .
ثمّ بعد هذه الإنابة رجعوا إلى سابق عهدهم من الجحود والعناد وأعرضوا ونسوا تهديد الله سبحانه وتعالى لهم ، ولولا تفضّل الله عزّ وجل عليهم ورحمته بهم بإمهالهم وتأخير العذاب عنهم لكانو من الهالكين .

ثمّ ذكرهم الحقّ سبحانه وتعالى بما حلّ بأسلافهم من العذاب الذّي أنزله بهم ؛ إذ حرّم عليهم العمل والصّيد يوم السّبت ليتفرّغوا للعبادة ، فخالف بعضهم أمره وضعفوا أمام الكسب المادي وأمام فتنة المال ، وأصرّوا على معصية الله ولم يتّعظوا بمواعظ الصّالحين وذكرت القصّة في سورة الأعراف مفصّلة ،
فأوجب الله عزّ وجل لهم بالذّنب العظيم أنّ غضب الله عليهم وجعل منهم قردةً ذليلين حقيرين ، وصارت تلك العقوبة وذلك النّكال الذّي حلّ بهم موعظةً يتّعظ بها من حضرها من الأمم ومن بلّغه خبرها من أهل القرى و لتقوم الحجّة على العباد ،
ثمّ توليتم من بعد ذلك أي من بعد الطّور فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين .


﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ.فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ )


فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين > عذابًا من الله سبحانه وتعالى لهم.

فجعلناها نكالًا لما بين يديها > أي لما بين أمامها من النّاس ولمّا خلفها مما يتبعهم فيما بعد وموعظةً للمتّقين .


ثمّ بدأ الله عزّ وجل بذكر قصّة أصحاب البقرة فى آية 67 بقوله :

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )


أي واذكروا ما جرى لكم من موسى عليه السّلام حين قتلتم قتيلاً، وحاولتم أن تدرؤون فيه وتدافعتم واختلفتم فى قاتله حتّى تفاقم الأمر بينكم .

وكاد لولا رحمة الله بكم كاد أن يحصل بينكم شرّ كبير .

فقالوا نذهب إلى موسى حتّى يخبرنا من هو القاتل فأوحى الله لموسى أن يقول لهم : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، وكان من الواجب امتثال أمره وعدم الاعتراض عليه ولكنّهم رفضوا إلا الاعتراض وهذا دأبهم .


لا يريدون طاعة الله سبحانه وتعالى ولايسعون إلى ذلك وليسوا حريصين . 

فقالوا أتتخذنا هزواً يقصدون موسى عليه السّلام فقال موسى أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .

- فالجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه واﻷنبياء معصومون عن هذا ،
الجاهل هو الذي يستهزئ بالنّاس والأنبياء معصومون عن الاستهزاء بالنّاس .


- العاقل يرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدّين والعقل الاستهزاء بمن هو آدمي مثله وإن كان فضل عليه فتفضيله هذا يقتضي منه الشّكر لربّه .


" إذا فضل الإنسان على غيره بشيء فيقتضي أن يشكر الله سبحانه وتعالى ويقتضي الرّحمة لعباد الله "

شريعة التّوراة كانت صعبة عند بني إسرائيل حتّى إنّ التّوبة عندهم كانت بأن يقتل بعضهم بعضاً
لتعنّتهم وكثرة أسئلتهم .


قالوا : ادع لنا ربّك يبين لنا ما هي ؟ أي ما سنّها ؟


هم لو أخذوا أي بقرة وذبحوها لما كان الأمر يحتاج إلى هذا ، لأنّ الله قال لهم اذبحوا بقرة أي بقرة لم يسألهم الله عن شكل ولا سن البقرة .

لذلك لا نسأل أسئلة لا نحتاج لها .
قال : لا فارض أي لا كبيرة
ولا بكر أي لا صغيرة .

عوانٌ بين ذلك أي وسط بين ذلك ، افعلوا ما تؤمرون 
أي واتركوا التّشديد والتّعنت .

ولكنّهم قالوا : ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما لونها ؟

قال : أنّه يقول أنّها بقرة صفراء فاقعٌ لونها أي شديد الصّفار جميل تسرّ النّاظرين من حسنها ، وهذا التّشديد من الله عليهم نتيجة تعنّتهم وكثرة أسئلتهم .


لذلك لما تنزل أوامر الله يجب قول سمعنا وأطعنا لا نسأل ونشدّد على أنفسنا ولا نبحث عن أمور لا فائدة من ورائها .


- سيقت قصّة بني إسرائيل مع البقرة التّي أمروا بذبحها ليتبيّن لنا مدى تعنّتهم وتقاعصهم ونحن ذكرنا أنّ بني إسرائيل
( يهود المدينة ) كانوا يمدحون أنفسهم أمام النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمام الصّحابة .
فالله سبحانه وتعالى أراد أن يبيّن للرّسول صلّى الله عليه وسلّم من هم اليهود ومن هم بني إسرائيل ومن هم أسلافهم الذي قال لهم عند ما أخذ عليهم الميثاق خذوا ما أتيناكم بقوة .


وكشفت القصّة سبب التّشديد فى شريعة التّوراة فالله عزّ وجل شدّد التّوراة عليهم وشدّد الكتاب عليهم وشدّد الأحكام عليهم
بسبب تعنّتهم .

وكان فى وقت نزول الوحي كأنّ الله عزّ وجل يؤدّب أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويعلّمهم ويُربّيهم أن لا تكونوا مثل هؤلاء فالله عليم حكيم فى كلّ ما يشرع ، وما شدّد تعالى عليهم إلا بسبب نابع من نفوسهم ، فالقوم لم يبادروا إلى تنفيذ أمر الله تعالى وشدّدوا على أنفسهم بكثرة أسئلتهم فشدّد الله عليهم ، بينما كان أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم على العكس من ذلك .

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق