الجمعة، نوفمبر 13، 2015

تفريغ سورة البقرة من آية 106 إلى آية 112








الوجه السادس عشر من سورة البقرة




يقول الله تعالى : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) 



من فضل الله تعالى أنّه جعل الشّريعة الإسلامية  شريعة سمحة لا حرج فيها. 


ومن رحمته تعالى بخلقه وحكمته أنّه ما أنزل القرآن الكريم جملة واحدة وما كلّفهم بأحكامه دفعة واحدة؛ بل أنزله على نجوم فرّقها على زمن التّنزيل،
فما تمّ الدّين واكتمل البناء التّشريعي لأحكامه إلا في آخر حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. 


وقد استدعى التّدرج في الأحكام في أثناء فترة التنزيل هذه تشريع بعض الأحكام لفترة معينة ثمّ نسخها. 


وهو مظهر يدل على سماحة الشريعة ويسرها وأنّها شريعة الرّحمة حقًّا . 




ولقد حاول يهود المدينة أن يستغلّوا ميزة الشّريعة الإسلامية هذه ووقوع النّسخ في بعض أحكامها؛
 لكي يشكّكوا في صحّة  نبوّته صلّى الله عليه وسلّم ويطعنوا في صدق رسالته،
 فكانوا ينكرون نسخ الآيات والآحكام الشّرعية، ويزعمون أنّه لا يجوز
مع أنّه مذكور عندهم في التّوراة،
 وما أنكروه إلا لكفر وهوى محض. 



 والقدح في النّسخ قدح في ملك الله و قدرته لأنّه سبحانه المتصرّف في خلقه بما شاء وهو يحكم لا معقّب لحكمه،
فكذلك يختبر عباده وطاعتهم لرسلهم


فيأمر بالشّيء بما فيه من المصلحة التّي يعلمها ثمّ ينهى عنه لما فيه من المصلحة - وهو يعلمها -
فهو وليّهم في تحصيل منافعهم وهو ينصرهم في دفع مضارّهم. 



وأنزل الله سبحانه وتعالى ردًّا عليهم وتحذيرًا للمؤمنين من التأثّر باعتراضاتهم ومطاعنهم وتعزيزًا لثقتهم بكتابهم وشريعتهم. 



فالقصد أنّ الله عزّ وجل ما ينسخ إلا لحكمة سبحانه جلّ وعلا،
والنّسخ هو النّقل

فحقيقة النّسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه،
 وكان اليهود ينكرون النّسخ ويزعمون أنّه لايجوز وهو مذكورعندهم في التّوراة 

فإنكارهم له كفر. 




فأخبر الله تعالى عن حكمته وأنّ النّسخ لا يكون لأقل مصلحة فيستحيل أن ينسخ الله تعالى لأقل مصلحة لكم من الأول  



 لأنّ فضل الله تعالى يزداد خصوصًا على هذه الأمّة التّي سهّل عليها دينها غاية التّسهيل، وأخبر أنّه من قدح في النّسخ فقد قدح في ملكه وقدرته،
 لقوله تعالى:
 ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) 



فإذا كان مالكًا لكم متصرّفًا لكم تصرّف المالك البرّ الرّحيم في أقداره وأوامره ونواهيه فكيف تعترضون عليه ؟


فالعبد مدبّر مسخّر تحت أوامر ربّه الدّينية والقدرية فماله والاعتراض؟!



ثمّ يقول تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ) الآيتين من ((106و107))


الآيتين هذا التّدرّج في التّشريع وثبوت النّسخ في آيات الله تعالى وأحكامه التّشريعية وثبوت النّسخ وأنّه جائز عقلًا وواقع شرعًا وأنّ النّاسخ خيرٌ من المنسوخ،
 لأنّ الشّريعة تابعة للمصلحة والنّسخ لا يكون إلا لمصلحة وأنّ أحكام الله تعالى تختلف في الخيرية من زمان إلى زمان.



وأنّ الله تعالى وعد بأنّه لا يمكن أن ينسخ شيئًا إلّا أبدله بخير منه أو مثله.  
ووعده صدق سبحانه جلّ وعلا


والواعد حتّى يكون صادقًا لابدّ أن يتوفّر فيه أمرين : ( الصّدق والمقدرة )



 والله عزّ وجل لا نشكّ في صدقه ولا نشكّ في قدرته سبحانه جلّ وعلا 



( الصّدق والقدرة ) هذين الشّرطين لابدّ أن يتحلّى بهما صاحب الوعد. 



أنّه لا أحد يدفع عن أحد أراد الله به سوءًا وعلى المرء أن يلجأ إلى ربّه في طلب الولاية والنّصر. 



اثبات تمام قدرة الله تعالى وأنّ قدرته عامّة شاملة.

لقوله تعالى :
( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )



تقرير عموم ملك الله سبحانه وتعالى لقوله:
( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) 




ثمّ تأتي آية ((108)) هذه إنكار وتحذير من الله سبحانه وتعالى


 ( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ) 



ينهى الله تعالى المؤمنين أو اليهود بأن يسألوا رسولهم كما سئل موسى من قبل والمراد بذلك أسئلة التعنّت والاعتراض 


كما قال تعالى :


( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) 


وقوله تعالى :


 ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )



 فهذه ونحوها  هي المنهي عنها، أما سؤال الاسترشاد والتّعلّم والاستفهام فهذا محمود قد أمر الله به.



قال تعالى ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) 


وقوله تعالى ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) 


وقوله تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ) 




ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة قد تصل بصاحبها إلى الكفر


 ( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) 


 نعوذ بالله من الضّلال. 


هذه آية إنكار وتحذير يحذّر الله تعالى فيها المؤمنين أنّه لا ينبغي إلقاء الأسئلة إلا لمصلحة، أما الأسئلة لمجرّد استظهار ما عند الإنسان فقط أو ليضرب آراء العلماء بعضها ببعض وما أشبه ذلك أو لأجل تعنّت فكل هذه من الأشياء المذمومة. 



ذمّ بني اسرائيل لسؤال نبيهم موسى عليه السّلام عن أشياء كانت العاقبة فيها وخيمة 


وهذا يدلّ على عدم اليقين بوعده سبحانه وتعالى وعدم اليقين بأنّ ما يقوله صادق جلّ وعلا 



ذمّ من اختار الكفر على الإيمان وأنّه ضالّ


ويؤخذ من هذا المفهوم أنّ من اختار الإيمان على الكفر فقد هدي إلى سواء السّبيل 



الردّ على الجبرية الذّين يقولون أنّ الإنسان ليس له إرادة في عمله وأنّه مجبر عليه
لقوله تعالى :
( وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )



ثمّ يقول الله تعالى بعدها الآيتين (( 109و110))


 بيان ما عليه أهل الكتاب من الحسد العظيم لهذه الأمّة وكيفية الرّد عليهم


 ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ) 



أفصح اللهَ تعالى عما تكنّ صدور كثير من أهل الكتاب من المحبّة الخالصة لإرجاع المؤمنين كفارًا بعد أن ثبّت الإيمان في قلوبهم يودّون هذا الشيء حسدًا من عند أنفسهم عظيم. 




الحسد العظيم الذّي في قلوبهم لأنّهم يعلمون ما هم عليه من النّعمة الجليلة والمنقبة العظيمة التّي أنعم الله بها عليهم وهي هذا الدّين العظيم وهم يعلمون حقّ العلم أنّ هذا الرّسول حقّ وأنّ الكتاب حقّ وأنّ هذا الدّين حقّ،
 لذا فهم يتمنّون زوال هذه النّعمة عنهم لخبث طويتهم وحسدًا لهم.





ثمّ تدرّجت الآيات في معاملة الكفار حيث أمر الله سبحانه و تعالى في هذه الآية بالعفو والصّفح حتى يأتي الله بأمره.


فأتى الله بعد ذلك بأمره إيّاهم بالجهاد فشفا الله أنفس المؤمنين منهم،
 فقتلوا من قتلوا واسترقّوا من استرقّوا وأجلوا من أجلوا.



ثمّ نبّه الله تعالى إلى بعض وسائل النّصر الذّي وعد الله به المؤمنين  كأداء الصّلاة حينما  قال الله سبحانه وتعالى 



( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ )



اجعلها قاعدة في حياتك


اجعلها قاعدة في منهجك


اجعلها قاعدة في طريقك


 اجعلها قاعدة في تعاملك مع النّاس 


اجعلها قاعدة في تعاملك مع نفسك


اجعلها مرجعًا لك في كلّ أمر 



 لن يضيع الله عزّ وجل  لك عمل إذا ضيّعه النّاس فلن يضيّعه الله عزّ وجل


 لذلك لا تتألّم ولا تحزن إن قدمت معروفًا و إن صنعت معروفًا وإن كشفت كربة
وإن فرّجت همًّا،
 لا تحزن اجعله لله ولن تحزن بإذن الله سبحانه وتعالى



فأيّ خير كان تجده عند الله، وقد قلنا من قبل أنّ الله عزّ وجل لا يخلف وعده وقد ذكرنا أيضا أن شروط صدق الوعد شرطين ( الصّدق والمقدرة )


 ولا نشكّ في صدقه ولا في مقدرته جلّ وعلا.



( تجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) 



ما يحتاج أن تشرح لله عزّ وجل ولا يحتاج أن تعلّمه ماذا فعلت فالله عزّ وجل يعلم. 


 ويحكم نهاية الآية و ختم لك بأنّه ليس هنالك شيء ضائع،
 إنّ الله بما تعملون بصير مطّلع يعلم كلّ شيء سبحانه. 



بعدها قال تعالى ( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ )



هذا أماني أهل الكتاب الباطلة وتناقضاتهم  وتعاديهم.  



مازالت الآيات الكريمة تكشف ضلالات أهل الكتاب ومزاعمهم الباطلة وتفنّد أقوالهم. لتحذّر المؤمنين منهم والتّشبّه بهم، فبيّنت ما يدّعيه اليهود والنّصارى بأنّهم وحدهم الفائزون النّاجون يوم القيامة وأنّه لن يدخل الجنّة أحد غيرهم فأكذبهم الله تعالى وردّ دعوى الفريقين وبيّن أنّها مجرّد أماني لا دليل عليها،
 ولهذا طالبهم الله عزّ وجل بالدّليل والبرهان أي مدّعي يأتي بالبرهان,
أي مدّعي يأتي بالدّليل الذّي يتبيّن به حجّتهم،
 فإذا كانوا صادقين في زعمهم فليأتوا بالبرهان على ذلك ثمّ صرّح الله الحقّ تبارك وتعالى بإبطال دعواهم في قوله تعالى :


( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )


 ثمّ أتى الله عزّ وجل بالقاعدة العظيمة أنّه لن يدخل الجنّة إلا من أسلم وجهه لله.



قال تعالى : ( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) 


هذا هو الذّي سيدخل الجنّة هذا هو الذّي مكانه الجنّة، هذا هو الذي مصيره الجنّة من قدّم أعمال خالصة لوجهه الكريم


 وكان متّبعًا شرع الله ظاهرًا وباطنًا في قوله وعمله وسلوكه فله الثّواب العظيم من عند الله الذّي لا يضيع أجر من أحسن عملاً


فحصل لهم المرغوب  ونجوا عن المرهوب


 لا خوف عليهم ولا هم يحزنون نجوا من المرهوب،
فحصل لهم المرغوب ونجوا من المرهوب. 



سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك


ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق