الوجه الواحد والعشرون من سورة البقرة
يقول الله تعالى :
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا
وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.)(
142)
اشتملت الآية
الأولى على معجزةٍ، وتسليةٍ وتطمين قلوب المؤمنين، واعتراضٍ.
- أما المعجزةُ: فأن الله عز وجل يخبر عن أمورٍ لم تحصل بعد، فسيتكلم الله عز وجل عن السفهاء وموقفهم من تغيير القبلة، مع أن تغيير القبلة لم يحصل بعد،
- و في الآية
تسليةٌ للنبي صلى الله عليه و سلم بأنه سيحصل هذا، وهذا دائمًا يخفف عن النفسِ,
كونك تُخبَر
عما سيحدث فيما بعد, فيه تسليةٌ وتطمينٌ لك،
إذن فيه
تسليةٌ و تطمينٌ لقلوب المؤمنين.
- وأما
الاعتراضُ, فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاءُ من الناس، وهم المنافقون و أهل الكتاب
من اليهود والنصارى، ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، على تغييرِ
القبلة.
لنرى من السفهاء: هم الذين لا يعرفون مصالحَ أنفسهم، بل يضيعونها, ويبيعونها بأبخس ثمن،
لنرى من السفهاء: هم الذين لا يعرفون مصالحَ أنفسهم، بل يضيعونها, ويبيعونها بأبخس ثمن،
دائمًا
السفيه حقير, دائمًا السفيه لا يعرف مصلحة نفسه، دائمًا السفيه يمكن أن يبيع نفسه
في أتفه المواقف وأسهلها, يمكن أن يبيعك في أيِّ لحظة هذا هو السفيه،
لذلك الله عز
وجل قال عنهم السفهاء، هم يبيعون دينهم لأجل عرض الدنيا، يبيعون الدين,
يبيعون الآخرة,
يبيعون الله سبحانه وتعالى, ليس لديهم مشكلة، يبيعون كتابهم، يبيعون نبيهم موسى عليه السلام، الذي عاهدوه، يبيعونه دون أدنى مشكلةٍ بعرضٍ من الدنيا, أو لشيءٍ في قلوبهم .
يبيعون الله سبحانه وتعالى, ليس لديهم مشكلة، يبيعون كتابهم، يبيعون نبيهم موسى عليه السلام، الذي عاهدوه، يبيعونه دون أدنى مشكلةٍ بعرضٍ من الدنيا, أو لشيءٍ في قلوبهم .
وذلك أن
المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، مدةَ مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى
المدينة، بنحو سنةٍ ونصف – تقريبا أشار الله أنه سيغير القبلة لما لله تعالى في
ذلك من الحِكَم التي سيشير إلى بعضها، في الآيات التي ستأتي,
وكانت حكمته تقتضي أمرَهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاءُ من الناس:
وكانت حكمته تقتضي أمرَهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاءُ من الناس:
{مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا}
وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟
و هذا هو
موقف المنافقين دائمًا.
فنجد بعض
الكتاب الآن مثلًا إذا حصل بينهم وبين العلماء شيءٌ أو جاءت فتوى لم تعجبهم, نجدهم
يكتبون ويعترضون, و هذا هو دأب المنافقين دائمًا.
و في ذلك
الاعتراضُ على حكمِ الله وشرعِه، وفضله وإحسانه.
فسلّاهم،
وأخبرهم بوقوعه، وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفهِ، قليلِ العقلِ، والحلمِ،
والديانةِ، هذا هو السفيه، دائمًا تنقصه ثلاثةُ أمور: عقلٌ، حلمٌ، ديانةٌ.
فلا تبالوا
بهم، و المقصود بالخطاب هو الرسول صلى الله عليه و سلم أي لا تبالي بهم، إذ قد
عُلم مصدرُ هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه، ولا يلقي له بالًا.
ودلت الآيةُ
على أنه لا يعترض على أحكام الله تعالى، إلا سفيهٌ جاهلٌ معاندٌ،
وأما الرشيدُ
المؤمنُ العاقلُ، فيتلقى أحكامَ ربِّه بالقبولِ، والانقيادِ، والتسليمِ.
روى البخاري عن البراء رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ راكعون، قال: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قَبِلَ الْبَيْتِ،
وَكَانَ الذِي مَاتَ عَلَى القبلة قبل أن
تُحوَّل قِبَل البيت رجال قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ:
{وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ }.
انفرد به
البخاري ورواه مسلم من وجهٍ آخر.
و في الصحيحين أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
يقول ابن
كثيرٍ في تفسيره: وفي هذا دليلٌ على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن
تقدم نزوله و إبلاغه، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، و الله أعلم.
و لما وقع هذا، حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب، و الكفرة من اليهود, ارتيابٌ وزيغٌ عن الهدى، وتخبيطٌ و شكٌّ، وقالوا: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}.
يقصدون المؤمنين، أي مالِ هؤلاء تارةً يستقبلون كذا, وتارةً
يستقبلون كذا؟!
فأنزل الله جوابهم في قوله:
{قُلْ لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}
يعني أيُّ جهةٍ يستقبلها المؤمنون من جهات الله سبحانه
وتعالى لا ضيرَ في ذلك، فالجهاتُ كلُّها لله عزّ وجلّ،
يقول ابن سعدي :فإذا كان المشرقُ والمغربُ
ملكًا لله، ليس جهةٌ من الجهات خارجةً عن ملكه، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراطٍ
مستقيمٍ، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملةِ أبيكم إبراهيمَ، فلأي شيء
يعترض المعترض بتوليتكم قبلةً داخلةً تحت ملك الله، لم تستقبلوا جهةً ليست ملكًا
له؟
فهذا يوجب التسليمَ لأمره، بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضلِ الله عليكم، وهدايتِه وإحسانه، أن هداكم لذلك فالمعترضُ عليكم، معترضٌ على فضلِ الله، حسدًا لكم وبغيًا.
{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} سبحانه {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
يقول الله
تعالى :
( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)( 143 )
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} و لا نشك في أفضليةِ أمةِ سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم.
روى الإمام أحمد بن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ, وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ،" قَالَ: فَذَلِكَ قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً, قال: والوسط الْعَدْلُ، "فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ "
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} و لا نشك في أفضليةِ أمةِ سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم.
روى الإمام أحمد بن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ, وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ، فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ،" قَالَ: فَذَلِكَ قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً, قال: والوسط الْعَدْلُ، "فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلَاغِ ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ "
رواه
البخارِيُّ وَالترمذي والنسائي وابن ماجه.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}:
أي: عدلًا خيارًا، وما عدا الوسط، فأطرافٌ داخلةٌ تحت الخطر، ما بين المتهاونِ و
ما بين المتشدّدِ،
اليهود كانوا متشددين, فجعل الله هذه الأمةَ، وسطًا في كل أمور الدين، وسطًا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهودِ، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
بل طهارتُهم أكملُ طهارةِ وأتمها، وأباحَ اللهُ لهم الطيباتِ من المطعمِ والمشربِ، وحرم عليهم الخبائثَ من ذلك، فلهذه الأمةِ من الدينِ أكملُه، ومن الأخلاقِ أجلُّها، ومن الأعمالِ أفضلُها.
ووهبهم اللهُ عز وجل من العلمِ والحلمِ، والعدلِ والإحسانِ، ما لم يهبه لأمةٍ سواهم،
فلذلك قال : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
اليهود كانوا متشددين, فجعل الله هذه الأمةَ، وسطًا في كل أمور الدين، وسطًا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهودِ، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
بل طهارتُهم أكملُ طهارةِ وأتمها، وأباحَ اللهُ لهم الطيباتِ من المطعمِ والمشربِ، وحرم عليهم الخبائثَ من ذلك، فلهذه الأمةِ من الدينِ أكملُه، ومن الأخلاقِ أجلُّها، ومن الأعمالِ أفضلُها.
ووهبهم اللهُ عز وجل من العلمِ والحلمِ، والعدلِ والإحسانِ، ما لم يهبه لأمةٍ سواهم،
فلذلك قال : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
كاملين
{ لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
بسبب
عدالتِهم وحكمِهم بالقسطِ، يحكمون على الناسِ من سائرِ أهلِ الأديانِ، ولا يحكم
عليهم غيرُهم، فما شهدت له هذه الأمةُ بالقبولِ، فهو مقبولٌ، وما شهدت له بالردِّ،
فهو مردودٌ.
و المقصود، الحكمُ بالعدلِ والحقِّ، وشرطُ ذلك، العلمُ والعدلُ،
و المقصود، الحكمُ بالعدلِ والحقِّ، وشرطُ ذلك، العلمُ والعدلُ،
دائمًا الشهادة لها شرطان: العلمُ و العدلُ،
وهما موجودان في هذه الأمة، فقُبِل قولُها.
ولهذا قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا}.
ولهذا قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا}.
ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم، أنه إذا كان
يوم القيامة، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم، والأممَ المكذبة عن ذلك، وأنكروا أن
الأنبياءَ بلغتهم، استشهدت الأنبياءُ بهذه الأمة، وزكّاها نبيُّها.
وفي الآية دليلٌ على أن إجماعَ هذه الأمةِ، حجةٌ قاطعةٌ، وأنهم معصومون عن الخطأِ، لقوله: {وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطًا، إلافي بعض الأمورِ،
وفي الآية دليلٌ على أن إجماعَ هذه الأمةِ، حجةٌ قاطعةٌ، وأنهم معصومون عن الخطأِ، لقوله: {وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطًا، إلافي بعض الأمورِ،
وفي هذا
دليلُ اشتراطِ العدالةِ في الحكمِ، والشهادةِ، والفتيا، ونحو ذلك.
ثم يقول الله تعالى:
{ وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى
عَقِبَيْهِ}
كيف {إِلَّا لِنَعْلَمَ }؟
هل أن الله تعالى ينقصه علمٌ؟!
المقصود هو
علمٌ يتعلق به الثوابُ والعقابُ، وإلا فهو تعالى عالمٌ بكل الأمورِ قبل وجودِها.
ولكن هذا
العلم، لا يعلق عليه ثوابًا ولا عقابًا، لتمام عدله سبحانه وتعالى، وإقامة الحجةِ
على عبادِه،
يعني: شرعنا تلك القبلةَ لنعلمَ ونمتحنَ و
نميزَ {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} ويؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبدٌ مأمورٌ
مدبرٌ، ولأنه قد أخبرت الكتبُ المتقدمةُ، أنه يستقبلُ الكعبةَ، أي أن أهل الكتاب
كانوا يعلمون من كتبهم أنه سيأتي رسول و أن قبلتَهم ستكونُ الكعبةُ، فلماذا الآن
أنكروا؟! لماذا نكصوا؟ لماذا رجعوا؟
{مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ}وأما من انقلب على عقبيه، فأعرض عن الحقِّ، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرًا إلى كفره، وحيرةً إلى حيرته.
{وَإِنْ كَانَتْ } أي: صرفُك عن القبلة
{مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ}وأما من انقلب على عقبيه، فأعرض عن الحقِّ، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرًا إلى كفره، وحيرةً إلى حيرته.
{وَإِنْ كَانَتْ } أي: صرفُك عن القبلة
{لَكَبِيرَة } أي: شاقة
{إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ }،
دائمًا الأعمالُ الصالحةُ، الصلاةُ، العباداتُ، كلُّ الأتباعِ, وكلُّ أعمالِ
الطاعاتِ, كلُّها شاقةٌ، إلا على الذين هدى الله، الذين يبحثون عن سبل الهداية،
فعرفوا بذلك نعمةَ الله عليهم، وشكروا، وأقروا له بالإحسانِ، حيث وجَّهَهم إلى هذا
البيتِ العظيمِ، الذي فضله على سائرِ بقاعِ الأرضِ، وجعل قصدَه، ركنًا من أركان
الإسلامِ، وهادمًا للذنوبِ والآثامِ، فلهذا خفَّ عليهم ذلك، وشقَّ على من سواهم.
فالدينُ شاقٌّ على من لم يبحث عن الهدى,
حقيقةً.
ثم قال تعالى:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
أي: ما ينبغي له ولا
يليق به جل وعلا، بل هي من الممتنعاتِ عليه، فأخبر أنه ممتنعٌ عليه، ومستحيلٌ، أن
يضيع إيمانكم،
وفي هذا
بشارةٌ عظيمةٌ لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلامِ والإيمانِ، بأن الله سيحفظ عليهم
إيمانَهم، فلا يضيعه، سبحانه جل وعلا
وحفظُه نوعان:
وحفظُه نوعان:
- حفظٌ عن الضياع والبطلان، بعصمتِه لهم عن كل مفسدٍ ومزيلٍ له ومنقصٍ من المحنِ المقلقةِ، والأهواءِ الصادّةِ.
- الحفظ الثاني: حفظٌ بتنميتِه لهم، وتوفيقِهم لما يزداد به إيمانُهم، ويتم به إيقانُهم.
ثم يقول سبحانه و تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى
عَقِبَيْه، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
سبحانه تعالى بمنِّه و
عدلِه و كرمِه ، فإن الله لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمرَ اللهِ, وطاعةَ
رسولِه صلى الله عليه وسلم في وقتِها، وطاعةُ الله، امتثالُ أمرِه في كل وقتٍ،
بحسب ذلك،
وفي هذه الآية، دليلٌ لمذهبِ أهلِ السنةِ
والجماعةِ، أن الإيمانَ تدخل فيه أعمالُ الجوارحِ.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
أي: شديدُ الرحمةِ بهم,
عظيمُها،
فمن رأفتِه ورحمتِه بهم، أن يتم عليهم نعمتَه
التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخلَ في الإيمان بلسانه دونَ قلبه، وأن
امتحنَهم امتحانًا، زاد به إيمانُهم، وارتفعت به درجتُهم، وأن وجَّهَهم إلى أشرفِ
البيوتِ، وأجلِّها.
يقول الله تعالى:
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) ( 144 )
يقول الله تعالى:
(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) ( 144 )
يقول الله لنبيه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} يا محمد،
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} أي: نوجِّهَك،
{قِبْلَةً تَرْضَاهَا} أي: تحبّها، وهي الكعبة،
وفي هذا
بيانٌ لفضلِه وشرفِه صلى الله عليه وسلم، فلما علم اللهُ سبحانه و تعالى ما في
قلبِه, وعلم أنه كان يتطلع ويتشوّف أن تكون القبلةُ هي البيتُ الحرامُ، فلما رأى
كثرةَ ترددِه في جميعِ الجهاتِ شوقًا, وانتظارَه نزولَ الوحي باستقبالِ الكعبةِ،
أنزل الله عز وجل, وغيّرَ إلى الكعبة التي يريدها .
وهذا يدل على
مكانةِ سيدِنا محمد صلى الله عليه و سلم و أن الله تعالى يسارعُ في رضاهُ،
ثم صرَّح له باستقبالها فقال: {فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، هنا تصريحٌ الآن بالاستقبال، للوجهة
التي كنت
تريدها
لماذا قال الله عز وجل: وجه, و لم يقل: بصر, مع أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينظر بالبصر؟
الوجه: ما أقبل من بدن الإنسان،
تريدها
لماذا قال الله عز وجل: وجه, و لم يقل: بصر, مع أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينظر بالبصر؟
الوجه: ما أقبل من بدن الإنسان،
و قال {وَجْهَكَ} و لم يقل بصرك لزيادة
الاهتمام، و لأن تقليبَ الوجه مستلزمٌ لتقليبِ البصرِ،
وأشرفُ ما في الإنسان وجهه.
لذلك قال {قَدْ
نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}
و هذا يدل
على مكانة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم،
و بما أن محمدَأ صلى الله عليه و سلم له مكانةٌ
عظيمةٌ عند الله، فأنت كذلك من أمته، و لا نشك ابدًا بفضل
أمةِ محمدٍ صلى الله عليه و سلم.
أمةِ محمدٍ صلى الله عليه و سلم.
{وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ}
أي: من برٍّ وبحرٍّ، وشرقٍ وغربٍ، وجنوبٍ وشمالٍ.
{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي: جهتَه.
ففيها اشتراطُ استقبالِ الكعبةِ، للصلواتِ كلها، فرضِها، ونفلِها، وأنه إن أمكن استقبالُ عينِها، وإلا فيكفي شطرُها وجهتُها، وأن الالتفاتَ بالبدن، مبطلٌ للصلاةِ، لأن الأمرَ بالشيءِ نهيٌ عن ضدِّه.
ثم يقول الله تعالى:
(و لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ
قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ
الظَّالِمِينَ).(145)
هذا تسليةٌ للنبي صلى الله عليه و سلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصِه على هدايةِ الخلقِ يبذل لهم غايةَ ما يقدر عليه من النصيحةِ، ويتلطف بهدايتهِم، ويحزنُ إذا لم ينقادوا لأمرِ اللهِ، فكان من الكفارِ، مَن تمردَ عن أمرِ اللهِ، واستكبرَ على رسلِ اللهِ، وتركَ الهدى، عمدًا وعدوانًا، فمنهم: اليهود والنصارى،
فلهذا أخبر الله تعالى أنك لو {أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ} أي: المشكلةُ ليست منك يا محمد، و لا
من آياتِك، و لا المشكلةُ أنه ليس لديك آياتٌ واضحةٌ، ليست هذه المشكلة،
لذلك بعض
الدعاة يتعبون، و بعض الآباء والمربين قد ينزعجون، أن ّأبناءَهم يسيرون بخلافِ
الطريقِ الذي كانوا يربونهم من أجله،
فهل نشكُّ في طريقةِ سيدِنا محمد صلى الله عليه
و سلم؟! و هل نشكُّ في أسلوبه؟! و هل نشكُّ في آياته؟! ومع ذلك ما استطاع أن يجعل
كلَّ الناس يهتدون.
لذلك أخبر الله تعالى أنك لو
{أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ
آيَةٍ}
أي: بكلِّ برهانٍ ودليلٍ يوضح قولَك ويبين ما تدعو إليه،
{مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}
أي: ما تبعوك، لأن
اتباعَ القبلةِ، دليلٌ على اتباعه،
ولأن السببَ هو شأنُ القبلةِ، وإنما كان الأمر كذلك، لأنهم معاندون، عرفوا الحق وتركوه، فالآياتُ إنما تفيد وتنفع من يطلبُ الحقَّ،
ولأن السببَ هو شأنُ القبلةِ، وإنما كان الأمر كذلك، لأنهم معاندون، عرفوا الحق وتركوه، فالآياتُ إنما تفيد وتنفع من يطلبُ الحقَّ،
فهناك فرقٌ بين أن تبحث عن آياتٍ حتى تطلبَ
الحقَّ، و بين أن تبحثَ عن آياتٍ حتى تشفَّ عما في قلبِك.
{وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}: و هذا يدلنا على أنه يتطلب منا أن نخالفَ اليهودَ و النصارى في كل شيء، فهذا من الأدلةِ على أنه يجب علينا مخالفةُ اليهودِ و النصارى.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} يا محمد،
{وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}: و هذا يدلنا على أنه يتطلب منا أن نخالفَ اليهودَ و النصارى في كل شيء، فهذا من الأدلةِ على أنه يجب علينا مخالفةُ اليهودِ و النصارى.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} يا محمد،
لماذا قال {أَهْوَاءَهُمْ } ولم يقل دينَهم؟
إنما قال: {أَهْوَاءَهُمْ } ولم يقل
"دينهم "لأن ما هم عليه مجردُ أهويةِ نفسٍ و ليس دين،
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ}
{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}
بأنك على الحقِّ، وهم على الباطلِ،
{إِنَّكَ إِذًا}
أي: إن اتبعتهم، فهذا سيجعلُك:
{لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
أي: داخلٌ فيهم،
ومندرجٌ في جملتهم،
وأي ظلمٍ
أعظمُ من ظلمِ من علمَ الحقَّ والباطلَ، فآثرَ الباطلَ على الحقِّ،
وهذا، وإن
كانَ الخطابُ له صلى الله عليه وسلم، فإن أمتَه داخلةٌ في ذلك،
فإذا كان هو
صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالمًا مع علوِّ مرتبتِه، وكثرةِ
حسناتِه فغيرُه من باب أولى وأحرى, فلنحذر أيها الإخوة.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله إلا أنت
أستغفرك وأتوب إليك.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمدٍ وعلى
آله وصحبه أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق