الثلاثاء، مايو 31، 2016

تفريغ سورة البقرة من آية 182 إلى آية 186





الوجه السابع و العشرون من سورة البقرة


يقول تعالى:
(فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )


الوصية التي فيها حيف وجنف وإثم هي وصية غير عادلة، لذلك ينبغي لمن حضر الموصي
وقت الوصية بها أن ينصحه بما هو الأحسن و الأعدل, وأن ينهاه عن الجور والجنف، و هناك
فرق بين الجنف و الإثم.


فالجنف : هو الميل بها عن خطأ من غير تعمد، فالشخص لم يقصد أن يظلم أحداً، لكن العاطفة،
والرحمة بشخص معين، كالرحمة بشخص أنه فقير ومسكين ولديه ديون، فرحمة به يجنف من
غير أن يقصد.


أما الإثم : هو التعمد لذلك، يريد أن يظلم فلان و يتقصد بذلك.


ينبغي لنا إذا حضرنا أحد يكتب الوصية بين الموصي إليهم أن يتوصل إلى العدل بينهم على
وجه التراضي والمصالحة و وعظهم بتبرئة ذمة ميتهم، فهذا قد فعل معروفا وليس عليه إثم.


كما قال تعالى:
(فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ)
بالعكس له أجر عظيم.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
لأنه إذا تعدلت الوصية - حتى لو أخطأ الموصي ومات، و تعدلت الوصية - ولم يُعمل بوصيته
لعل الله عز وجل أن يغفر له ويرحمه، فالله عز وجل يغفر جميع الزلات، ويصفح عن التبعات،
لمن تاب إليه.


ومنه مغفرته لمن غض من نفسه وترك بعض حقه لأخيه لأن من سامح سامحه الله،
غفور لميتهم الجائر في وصيته، إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا، لعل الله عزوجل يرحم ميتهم
ويغفر له، لأجل براءة ذمته، رحيم بعباده حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون.



ثم يقول الله تعالى بعدها:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )


يخبر الله تعالى بما منّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة؛
لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، وفيها كذلك تنشيط لهذه الأمة،
بأنه ينبغي لكم أن تتنافسوا أو تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال والمسارعة إلى صالح الخصال.
وأنه لا ينبغي أن تتخاذلوا في الأعمال الصالحة، بل ينبغي أن تتسابقوا بها، وأن الصيام ليس من
الأمور الثقيلة التي خصكم الله بها، بل أعطاها الأمم السابقة، فالصيام ليس لكم خاصة.



ثم ذكر الله تعالى حكمته في مشروعية الصيام، و هذا من رحمته وعطفه سبحانه جل و علا،
وإلا له أن يقدّر الأحكام ولا يخبرنا بالحكمة، لكن من رحمته جل و علا بالمسلم أن يخبره
الحكمة، فقال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
، أنا لم أكلفكم بالصيام، إلا لعلكم تتقون. هذا السبب، فالصيام من
أكبر أسباب التقوى، و هذا ليس من قولنا لكن الله عزوجل قاله؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب
نهيه.


أليس في الصيام ترك الحلال؟ مثل الأكل و الشرب والجماع و نحوها.
أليس في الصيام ترك المحبوبات؟
أليس في الصيام تقرب إلى الله عز وجل؟
أليس في الصيام كثرة عبادة لله عز وجل؟ أليس في الصيام تدريب للنفس على مراقبة الله؟ و إلا
فإنك تستطيع أن تأكل و تشرب دون أن يعرف بذلك أحد.
أليس في الصيام ترك ما تهواه نفسك مع قدرتك عليه؟ أليس في الصيام تضييق مجال الشيطان؟
أليس في الصيام تكثير مجال الطاعات؟
أليس في الصيام يحس الغني بمعاناة الفقير المعدوم إذا ذاق ألم الجوع ؟
هذه التي ظهرت لنا والتي لم تظهر أكثر


لذلك قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
فالذي يبحث عن سبل التقوى عليه بالصيام.


ثم يقول تعالى:
(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)


ثم سهل الله تعالى تسهيلات أخرى في الصيام
فقال: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)
أيام قليلة، فليس علينا الصيام في كل الأيام، بل أياما معدودات فقط.


ثم قال: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
وذلك للمشقة في الغالب، رخّص الله عزوجل لهما في الفطر، فمن كان مريضا أو على سفر،

هذان الاثنان رخص الله لهما الفطر.

و لما كان لابد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن
أمرهما أن يقضياه في أيام أخر، ليس تعذيباّ ولكن لأنه مصلحة لك.


متى يقضي؟ إذا زال المرض وانقضى السفر وحصلت الراحة



و قوله: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
فيه دليل على أن يقضي عدد أيام رمضان كاملا كان أو ناقصا، و
يجوز أن يغير الأيام، فلو كان رمضان في الصيف مثلا ثم قضاها في البرد فلا مانع من ذلك. أو
أن الأيام كانت طويلة ثم قضاها في ايام قصيرة فلا بأس في ذلك، فهو رحيم سبحانه جل وعلا..



ثم يقول تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)
يطيقون الصيام أي يتكلفونه ويشق عليهم مشقة غير
محتملة، كالشيخ الكبير



(فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)
فدية عن كل يوم يفطرونه طعام مسكين وهذا في ابتداء فرض الصيام
فالله عز وجل جعل لكل الناس خيار، فالذي يصعب عليه الصيام يطعم عن كل يوم مسكين


هذا الأمر كان في ابتداء الصيام وهذا من تدرج الشريعة الإسلامية، فكانوا غير معتادين على
الصيام وكان فرضه حتما فيه مشقة عليهم، فدرّجهم الرب الحكيم بأسهل طريق، وخيّر المطيق
للصوم بين أن يصوم و هو أفضل أو أن يطعم ولهذا قال:
(وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ)


ثم بعد ذلك جعل الصيام حتما على المطيق، و غير المطيق يفطر ويقضيه في أيام أخر
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) عن كل يوم (طَعَامُ مِسْكِينٍ) و هذا هو الصحيح.


ثم قال الله عزوجل بعدها:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )


(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ):
هذا يعني لنا أن الشريعة الإسلامية شريعة غرّاء،
شريعة صالحة لكل زمان و مكان، شريعة متوازنة، شريعة متكاملة.


(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ): فالصوم المفروض عليكم هو شهر رمضان، الشهر
العظيم الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو إنزال القرآن الكريم المشتمل على
الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية.


القرآن العظيم الذي هو نبراس لكم في حياتكم ومنهاج لكم، الفرقان بين الحق والباطل والهدى
والضلال وأهل السعادة وأهل الشقاوة فحقيق بشهر هذا فضله وهذا إحسان الله عليكم فيه أن
يكون موسما للعبادة مفروضا فيه الصيام


فلما قرره وبين فضيلته وحكمة الله تعالى في تخصيصه،
قال:(فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر.


ولما كان النسخ للتخيير بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر لئلا يتوهم
أن الرخصة أيضا منسوخة

فقال:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)
أي يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ويسهلها أشد
تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله، واذا حصلت بعض
العوارض الموجبة لثقله سهله تسهيلا آخر بإسقاطه أو تخفيفه.


(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)
هذا والله أعلم لئلا يتوهم متوهم، أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه
ببعضه، فدفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله
وتبيينه لعباده، بالتكبير عند انقضائه، - فمطلوب منا التكبير عند انقضاء رمضان - أن ويدخل
في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.


(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
وهذا يوجب الشكر لله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله، و نأخذ من هذا أنه يجب علينا عند
كل عبادة الإكثار من الشكر لله تعالى وتحميده سبحانه جل و علا


(عَلَى مَا هَدَاكُمْ):
يتطلب منا عند أي هداية يهدينا الله عز وجل أن نكبره ونشكره ونحمده سبحانه
جل و علا.


ثم يقول تعالى:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
و هذا جواب سؤال، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا: يا رسول الله، أقريب
ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟
فقال: فأنزل الله عزوجل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)
لأنه تعالى, الرقيب الشهيد,
المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،
فهو قريب أيضا من داعيه، بالإجابة، ولهذا قال:

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)
لذلك لا يحتاج
العبد إلى واسطة بينه وبين الله تعالى


والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
فدعاء العبادة: أن تتقرب إلى الله عزوجل من خلال هذا الدعاء.
أما دعاء المسألة: أن تسأله حاجة.


والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق، و هذا القرب الخاص.



يقول ابن السعدي: فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء،
كأكل الحرام ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي :


الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة.

فلهذا قال: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )
أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة.

ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم
كما قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) .


فأكثر لله سبحانه و تعالى من الدعاء، و اطلب منه ما شئت، فإن الله سبحانه و تعالى قريب يجيب
دعوة الداع إذا دعاه، ولا يضيع أي إجابة فالدعوة تذهب إلى السماء وتفتح لها أبواب السماء،
بالذات إذا لم يأت السائل بشيء يمنع الدعاء، ومن أعظم الأشياء التي تمنع إجابة الدعاء هي أكل الحرام.



فالدعوة تكون عند الله عز وجل :إما بالاستجابة لها مباشرة، أو تأجيلها إلى وقت أنسب للإجابة،
أو يدخرها الله عز وجل بأعمال عظيمة يجدها الداع يوم القيامة،
فيقول: ي ارب من أين لي بهذه
الأعمال فيقول بدعوة دعوتها لم أستجبها لك بالدنيا.


أسأل الله عز وجل بمنه و كرمه أن يفتح لنا فتوح العارفين به، و أن يمن علينا بفضله و كرمه،
و أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، و نور صدورنا، و جلاء أحزاننا و ذهاب همومنا و
غمومنا، و قائدنا و دليلنا إلى جناتك جنات النعيم، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، و علمنا منه ما
جهلنا، و ارزقنا تلاوته آناء الليل و أطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا


اللهم يا ذا الجلال و الإكرام، اجمعني بأحبتي و اجمعني بالقارئين، اجمعني بهم في جنات و نهر
في مقعد صدق عند مليك مقتدر
أسأل الله عزوجل أن يجمعنا برحمته يا ذا الجلال و الإكرام،

و صل اللهم و سلم و بارك على
سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم


سبحانك اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق