الوجه
الثالث والثلاثون من سورة البقرة
( كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )
هذه الآية, فيها فرض القتال في سبيل الله,
بعد ما كان المؤمنون
مأمورين بتركه, لضعفهم, وعدم احتمالهم ،
فلما هاجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ إلى المدينة، وكثر المسلمون, و ازدادوا قوة أمرهم الله تعالى بالقتال،
وأخبر
أنه مكروه للنفوس, لما فيه من التعب والمشقة, وحصول أنواع المخاوف والتعرض
للمتالف،
ومع هذا, فهو خير محض, لما فيه من الثواب العظيم, والتحرز من
العقاب الأليم, والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم, وغير ذلك من الفوائد، ولما
ا فيه من الكراهة
{وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}
وذلك
مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة, فإنه شر، لأنه يعقب الخذلان، وتسلط الأعداء
على الإسلام وأهله, وحصول الذل والهوان، وفوات الأجر العظيم وحصول
العقاب.
وهذه الآيات عامة مطردة, في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس
لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه
فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
فحتى تعرف ان هذا الطريق صحيح ام لا ، هل نفسك تحبه ام لا ، هل
نفسك تهواه ام لا ، لان غالبا النفوس تحب الراحة واللذات والشهوات والهوى.
وأما أحوال الدنيا, فليس الأمر بهذا الشكل، ولكن الغالب على
العبد المؤمن, أنه إذا أحب أمرا من الأمور, فقيّض الله له من الأسباب ما
يصرفه عنه أنه خير له،
فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع،
لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم
بمصلحته منه كما قال تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ}
فاللائق بنا أن نتمشى مع الأقدار سواء سرتنا ام سائتنا.
ولما كان الأمر بالقتال لو لم يقيد لشمل جميع الأشهر ،لكن الله
تعالى استثنى القتال في الأشهر الحرم فقال:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ
قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ
الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ
وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون )
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم، منسوخ بالأمر
بقتال المشركين حيثما وجدوا،
وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق
محمول على المقيد،
وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية
الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها، تحريم القتال فيها، وهذا إنما هو في قتال
الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم، كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل، لسرية عبد الله بن جحش،
وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم، وكان ذلك ـ على ما قيل ـ في شهر رجب،
عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم،
وكانوا في تعييرهم ظالمين، إذ فيهم من
القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين،
قال تعالى في بيان ما فيهم:
(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
أي صدهم عن سبيل الله اعظم من ان الصحابة
يقاتلون في الاشهر الحرم ، اي صد المشركون من يريد الإيمان بالله ورسوله وفتنتهم
من آمن به وسعيهم في ردهم عن دينهم ، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام والبلد الحرام
الذي هو بمجرده كافي بالشر فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام
( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ )
أي
أهل المسجد الحرام وهم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لأنهم أحق من المشركين
وهم عماره على الحقيقة فأخرجوهم منه ولم يمكنوهم من الوصول إليه
مع أن هذا البيت
هو أصلاً للعاكف فيه والباد فهذه الأمور كل واحد منها أكبر من القتل في الشهر
الحرام فكيف وقد اجتمعت فيهم
فعلم أنهم فسقة ظلمة في تعييرهم للمؤمنين ثم أخبر
الله تعالى أنهم لايزالون يقاتلون المؤمنين وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم إنما
غرضهم يردوهم عن دينهم ويكونون كفاراً بعد إيمانهم حتى يكونوا كأصحاب السعير مثلهم
، ويأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون،
وهذا الوصف عام لكل كافر
لايزالون يقاتلون غيرهم حتى يردوهم عن دينهم وخصوصاً أهل الكتاب من اليهود
والنصارى الذين بنوا الجمعيات ونشروا الدعاة وبثوا الأطباء وبنوا المدارس لجذب
الأمم إلى دينهم ولكنا نرجو من الله تعالى أن ينصر دينه،
ثم أخبر الله أن من يرتد
عن الإسلام بأنه اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافراً
(فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)
لعدم وجود شرطها وهو الإسلام،
(وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
و دلت الآية بمفهومها أن من ارتد ثم عاد إلى
الإسلام أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي فإنه تعود
إليه أعماله المتقدمة .
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ )
هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية وبها يعرف
ما مع الإنسان من الربح والخسران،
أما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته وكيف تسأل عن
شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاء وأهل الجنة وأهل النار، وهو الذي إذا
كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف وعدل ولا فرض ولا
نفع.
أما الهجرة فهي مفارقة المحبوب المألوف لرضا الله تعالى فيترك
المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقرباً إلى الله ونصرة لدينه.
وأما المجاهد هو بذل الجهد في مقارعة الأعداء والسعي التام
في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان وهو ذروة الأعمال الصالحة وجزاؤه أفضل الجزاء
وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم
فمن قام بهذه الأعمال
الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياماً بها وتكميلاً
فحقيق بهؤلاء أن
يكونوا هم الراجون لرحمة الله لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة
وفي هذا دليل على
أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل وعدم
القيام بالأسباب فهذا عجز وتمني وغرور وهذا دال على ضعف همة صاحبه ونقصان عقله ،
قال تعالى :
(أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ)
إشارة إلى أن
العبد لو أتى بالأعمال ما أتى لا ينبغي أن يعتمد عليها ويعول عليها بل يرجو رحمة
ربه ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه لأنه غفور رحيم لمن تاب توبة نصوحة ووسعت رحمته كل
شيء،
فهذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال حصل له مغفرة الله إ ذ الحسنات يذهبن
السيئات، وإذا حصلت له المغفرة اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة التي هي آثار
الذنوب التي قد غفرت واضمحلت آثارها.
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون)
يا أيها الرسول المؤمنون يسألونك عن أحكام الخمر والميسر وقد
كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام فكأن قد وقع فيهما إشكالاً
وهذا يدل على
أنه في بعض الأحيان يكون في النفس شيء من المنكر ولا يعرف الحكم ونفسه تكره هذا الشيء،
فالصحابة كان في نفوسهم شيء من الخمر والميسر فأمر الله نبيه أن يبين لهم منافعهما
ومضارهما .
فالصحابة كان في نفوسهم شيء عنهما لتحريمهما وتحتيم تركهما وهذه
مسألة تربوية في ترك المنكر
( التدريج في ترك المنكر)
ابنك أو ابنتك تربيه لترك
منكراً معيناً عليك معه بالتدريج،
هذا منهج إسلامي،
فأخبر أن اثمهما ومضارهما
و مايصدر عنهما من ذهاب المال والعقل عن ذكر الله وعن الصلاة والعداوة والبغضاء
أكبر مما يظنونه من نفعهما من كسب المال بالتجارة بالخمر وتحصيله بالقمار والطرب
للنفوس عند تعاطيهما
وكان هذا البيان زاجراً للنفوس عنهما لأن العاقل يرجح ما ترجحت
مصلحته ويتجنب ما ترجحت مضارته،
ولكن لما كانوا قد ألفوهما وصعب التحتيم بتركهما
أول وهلة قدم هذه الآية قال تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ)
وهذا من لطفه وعطفه ورحمته فلما نزلت هذه الآية قال عمرو رضي الله
عنه: انتهينا انتهينا .
فأما الخمر فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه من أي نوع كان
وأما الميسر هو كل المغالبات التي قد يكون فيها عوض من الطرفين من
النرد والشطرنج وكل مغالبة قولية أو فعلية بعوض سوى مسابقة الخيل والإبل والسهام
فإنها مباحة لكونها معينة على الجهاد ورخص فيها الشرع.
قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ )
.
هذا سؤال مقدار
ماينفقون من أموالهم فقالها لهم سبحانه العفو وهذا حسب كل واحد فيسر لهم الأمر
وأمرهم أن ينفقوا العفو وهو المتيسر من أموالهم الذي لاتتعلق به حاجتهم وضرورتهم
وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه من غني ومتوسط وفقير كل له قدرته على إنفاق ما عفى من
ماله ولو بشق تمرة،
ولهذا أمر الله رسوله أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم
ولا يكلفهم بما شق عليهم
لأن الله لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا أو يشق
علينا بل أمرنا بما فيه سعادتنا ويسهل علينا وفيه النفع لنا ولإخواننا فيستحق على
ذلك أتم الحمد
ولما بين الله تعالى هذا البيان الشافي وأطلع العباد على أسرار شرعه
قال تعالى:
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
أي الدالات على الحق المحصلات للعلم
النافع والفرقان لعلكم تتفكرون، أي لكي تستعملون أفكاركم في أسرار شرعه وتعرفوا أن
أوامره فيها مصالح الدنيا والآخرة، وتتفكروا في الدنيا وفي سرعة إنقضائها فترفضوها
وفي الآخرة وبقائها وهي دار القرار والجزاء فتعمروها
تأملوا الدنيا وما فيها من
البلاء والمصائب لعلكم تعقلونها لعلكم تعرفونها لعلكم تفهمونها.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق