الوجه الرابع والثلاثون من سورة البقرة
( فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن
تُخَالِطُوَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
لما نزل قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}
شق ذلك على المسلمين، وعزلوا طعامهم عن طعام
اليتامى، خوفا على أنفسهم من تناولها، ولو في هذه الحالة التي جرت العادة
بالمشاركة فيها،
وسألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، فأخبرهم تعالى أن
المقصود هو إصلاح أموال اليتامى, بحفظها وصيانتها, والاتجار فيها والاهتمام
بها كأنها مالك أنت
وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر
باليتامى، لأنهم إخوانكم، ومن شأن الأخ مخالطة أخيه، والمرجع في ذلك إلى النية
والعمل، فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم، وليس له طمع في ماله، فلو دخل
عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس، ومن علم الله من نيته, أن قصده بالمخالطة
التوصل إلى أكلها وتناولها، فذلك الذي فيه حرج وأثم, و
"الوسائل لها
أحكام المقاصد"
وفي هذه الآية, دليل على جواز أنواع
المخالطات, في المأكل والمشارب, والعقود وغيرها, وهذه الرخصة, لطف من الله
[تعالى] وإحسان, وتوسعة على المؤمنين، وإلا فـ
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَأَعْنَتَكُمْ}
أي: شق عليكم بعدم الرخصة بذلك, فحرجتم. وشق عليكم
وأثمتم،
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}
أي: له القوة الكاملة, والقهر لكل شيء،
ولكنه مع ذلك
{حَكِيمٌ}
لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته
التامة.
(وَلاَ تَنكِحُوا
المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )
أي: {وَلَا تَنْكِحُوا}
النساء
{الْمُشْرِكَاتِ}
ما دمن على شركهن
{حَتَّى يُؤْمِنَّ}
لأن المؤمنة ولو
بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة, ولو بلغت من الحسن ما بلغت, وهذه
عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة, في إباحة نساء أهل الكتاب
كما قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}
{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}
وهذا عام
لا تخصيص فيه.
ثم ذكر تعالى, الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة, لمن
خالفهما في الدين فقال:
{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}
أي: في
أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم, فمخالطتهم على خطر منهم, والخطر ليس من الأخطار
الدنيوية, إنما هو خطر أخروي إنما هو الشقاء الأبدي.
ويستفاد من تعليل الآية, النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع, لأنه
إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى, و خصوصًا,
الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم, كالخدمة ونحوها.
وفي قوله: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ}
دليل على اعتبار
الولي في النكاح .
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ}
أي:
يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة, التي من آثارها, دفع العقوبات وذلك بالدعوة
إلى أسبابها من الأعمال الصالحة, والتوبة النصوح, والعلم النافع, والعمل
الصالح.
{وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ}
أي: أحكامه وحكمها
{لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه, وعلم ما جهلوه,
والامتثال لما ضيعوه.
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ )
يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض, وهل تكون المرأة بحالها بعد
الحيض, كما كانت قبل ذلك, أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟.
فأخبر تعالى أن الحيض أذى, وإذا كان أذى, فمن الحكمة أن يمنع
الله تعالى عباده عن الأذى وحده, ولهذا قال:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ}
أي: مكان الحيض, وهو الوطء في الفرج خاصة, فهذا هو المحرم
إجماعا، وتخصيص الاعتزال في المحيض, يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها, في
غير الوطء في الفرج جائز.
لكن قوله: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
يدل على
أن المباشرة فيما قرب من الفرج, وذلك فيما بين السرة والركبة, ينبغي تركه كما
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض, أمرها أن
تتزر, فيباشرها. وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحُيَّض
{حَتَّى
يَطْهُرْنَ}
أي: ينقطع دمهن, فإذا انقطع الدم, زال المنع الموجود وقت
جريانه, الذي كان لحله شرطان, انقطاع الدم هذا الشرط الأول , والاغتسال
منه.
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}
أي: اغتسلن
{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
أي: أتوهنّ في المكان الذي أمركم الله به ولا تؤتوهنّ في
الدبر, لأن القبل هو محل الحرث. وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض, وأن
انقطاع الدم, شرط لصحته.
ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده, وصيانة عن الأذى
قال
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}
أي: من ذنوبهم على الدوام
{وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ}
أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من
الأنجاس والأحداث. ففيه مشروعية الطهارة مطلقا, لأن الله يحب المتصف بها,
ولهذا كانت الطهارة مطلقا, شرطا لصحة الصلاة والطواف, وجواز مس المصحف، ويشمل
التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة, والصفات القبيحة, والأفعال الخسيسة لذلك
قال:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
بما أن الله يحب المتطهرين فأكثر من الوضوء كن دائما على طهارة
أكثر من التوبة تقرب إلى الله حتى يحبك أكثر من التوبة والاستغفار
والتقرب إلى الله وأكثر من العبادات والصلوات والصيام وقراءة القرآن وبقدر ما
تستطيع أكثر من الجلوس في المِحْراب الذي تتعبد الله به .
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ}
المتطهرين سواءاً التطهر من الأنجاس الحسية أو كذلك المعنوية من
الحسد والحقد والغل والخبث وجميع هذه الأمور
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل,
لكونه موضع الحرث, وهو الموضع الذي يكون منه الولد.
{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}
أي: من التقرب إلى الله بفعل
الخيرات, ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته, ويجامعها على وجه القربة
والاحتساب, معنى ذلك إتيان الرجل لامرأته هو قربة يتقرب بها إلى الله وعلى رجاء
تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ}
أي: في جميع أحوالكم, كونوا ملازمين
لتقوى الله, مستعينين بذلك لعلمكم،
{أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ}
ومجازيكم على
أعمالكم الصالحة وغيرها.
ثم قال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
لم يذكر
المبشر به ليدل على العموم, وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل
خير واندفاع كل ضير, رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة.
وفيها محبة
الله للمؤمنين, ومحبة ما يسرهم, واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم
من الجزاء الدنيوي والأخروي.
أنتَ أيها الإنسان مسؤول وكذلك مجازى ، فيه مسؤولية
وجزاء بما أنك مسؤول إذا أنتَ مجازى وبما أنك ستجازى أنتَ مسؤول معادلة مجازى
معناه مسؤول والمسؤول معناته مجازى
( وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
( وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
المقصود من اليمين،
والقسم تعظيم المقسم به, وتأكيد المقسم عليه، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ
الأيمان, وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا
كان البر باليمين,
يتضمن ترك ما هو أحب إليه، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم
عرضة, أي: مانعة وحائلة عن أن يبروا: أن يفعلوا خيرا, أو يتقوا شرا, أو
يصلحوا بين الناس،
فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه, وحرم إقامته على يمينه، ومن
حلف على ترك مستحب, استحب له الحنث، ومن حلف على فعل محرم, وجب الحنث, أو
على فعل مكروه استحب الحنث، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث.
ويستدل
بهذه الآية على القاعدة المشهورة, أنه
"إذا تزاحمت المصالح, قدم
أهمها"
فهنا تتميم اليمين مصلحة, وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء,
مصلحة أكبر من ذلك, فقدمت لذلك.
ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال:
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ}
أي: لجميع الأصوات
{عَلِيمٌ}
بالمقاصد والنيات,
ومنه سماعه لأقوال الحالفين,وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر،
وفي ضمن ذلك
التحذير من مجازاته, وأن أعمالكم ونياتكم, قد استقر علمها عنده.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت
أستغفرك واتوب إليك
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق