الوجه الخامس والثلاثون من سورة البقرة
قال
الله تعالى:
( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )
لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية التي يتكلم بها العبد من غير قصداً
منه ولا كسب قلب ولكنها جرت على لسانه
كقول الرجل في عرض كلامه لا والله وبلى والله
وكحلفه
على أمر ماضي يظن صدق نفسه وإنما المؤاخذه على ما قصده القلب وبهذا دليل على اعتبار المقاصد
في الأقوال كما هي معتبره في الأفعال
( وَاللَّهُ غَفُورٌ )
لمن تاب إليه سبحانه
(حَلِيمٌ )
لمن عصاه حيث لم يعاجله بالعقوبة بل ستر عليه وصفح سبحانه مع قدرته على ذلك .
قال
تعالى :
( لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
هذا من الأيمان الخاص بالزوجة في أمر خاص وهو أن يحلف الزوج على ترك وطء
زوجته مطلقاً أو مقيدا بأقل من أربعة أشهر أو أكثر
فمن آلا من زوجته فإن كان أقل
من أربعة
أشهر فهذا مثل سائر الإيمان فلا شيء عليه وليس لزوجته عليه سبيل لأنها ملكه
وإن زادت
على أربعة أشهر وطلبت زوجته الطلاق فلها الحق فإذا تمت أمره بالفيئه وهو الوطء فأن
وطء فلا
شيء عليه إلا كفارة اليمين وإن امتنع أجبر على الطلاق
طلق عليه الحاكم
ولكن الفيئه
وهو الرجوع
إلى زوجته
أحب إلى الله تعالى
( فَإِنْ فَاءُوا )
أي رجعوا إلى ما حلفوا على تركه وهو الوطء
( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
يغفر لهم ما حصل لهم من الحلف بسبب رجوعهم رحيم حيث جعل لإيمانهم كفاره وتحِلّه
ثم قال
تعالى:
(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
أي امتنعوا
من الفيئة فكان ذلك دليل على رغبتهم عنهن وعدم ارادتهن لأزواجهن
وهذا لا يكون إلا عازما
على الطلاق
فإن حصلا هذا الحق الواجب منه مباشرة وإلا أجبره الحاكم عليه أو قام به
(فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )
فيه وعيد وتهديد لمن يحلف هذا الحلف ويقصد به المضاره والمشاقة
ويستدل بهذه الآية :
على
أن الإيلاء خاص بالزوجة
لقوله: (مِنْ نِسَائِهِمْ )
على وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مره لأن بعد الأربعة
أشهر يجبر على الوطء أو على الطلاق
ولا يكون ذالك إلا لتركه واجبا .
ثم قال
تعالى:
( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .
(وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ )
أي النساء اللاتي طلقهن أزواجهن
(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ )
أي ينتظرن
ويعتدون
(ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ )
مدة ثلاثة حيضات أو ثلاثة أطهار
على أختلاف العلماء في ذلك المراد بذلك مع أن الصحيح
أنه الحيض
ولهذه العدة عدة حكم منها:
أنه سبحان الله يعلم ببرأة الرحم أذا تكررت عليها
الثلاثة إقراء
علم أنه ليس في رحمها حمل فلا يفضي أي اختلاط الأنساب ولهذا أوجب تعالى عليهن
الأخبار
عن ما خلق الله في أرحامهن وحرم عليهن اكتمال ذلك من حيض أو
حمل
لأنه يفضي إلى مفاسد كثيرة فكتمان الحمل موجب أن تلاحقه بغير من هو له رغبة فيه واستعجالاً لانقضاء العدة
فإذا الحقته
بغير أبيه حصل له من قطع الرحم والإرث واحتجاب محارمه وأقاربه وربما تزوج من محارمه
وحصل
في ذلك إلحاق بغير أبيه وثبوت وتوابع من الإرث
ومن جعل أقارب الملحق به أقارب له
وفي ذلك
من الشر والفساد مالا يعلمه إلا رب العباد
ولو لم يكن في ذلك إلا إقامتها مع من تزوجها
كل هذا باطل
وفيه الإصغار على الكبيرة العظيمة وهي الزنا فكفى بذلك شرا
أما كتمان الحيض بأن استعجلت واخبرت به وهي كاذبة
ففيه من
انقطاع حق الزوج عنها وإباحتها لغيره مايتفرع عن ذلك من الشر كما ذكرنا
وأن كذبت واخبرت بعدم وجود الحيض لتطول العدة فتأخذ منه , نفقه غير واجبه عليه
بل هي سحت
عليها محرمه من جهتين
من كونها لا تستحقها ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي
كاذبة
وربما رجعها بعد انقطاع العدة فيكون ذلك سفاحاً لكونها أجنبية عنه .
(وَلَا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ
مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ )
فصدور الكتمان منهن دليل على عدم
إيمانهن بالله واليوم الآخر وإلا فلوا ءامنوا بالله واليوم الآخر وعرفنا أنهن سيجازين
على أعمالهن
لم يصدر منهن ذلك ,
وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة عما تخبر به عن نفسها من الأمر الذي
لايطلع عليه غيرها كالحيض والحمل ونحو ذلك .
ثم قال تعالى :
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا
)
أي أزواجهن مدامة متربصة في تلك العدة أن يردونهن إلى نكاحهن إن أرادوا إصلاحاً
أي رغبة
وألفة ومودة
ومفهوم الآية أنهم إذا كانوا لايريدون إصلاحاً فليس بأحق بردهن فلا يحل
لهم أن يراجعونهن
لقصد المضاره لها وتطويل العده عليها
وهل يملك ذلك مع هذا القصد
يعني شيء خطير أنه
يمسكها حتى فقط يضارها ولا يريد أن تتزوج
وهذا يدل على محبة الله سبحانه وتعالى الألفة بين
الزوجين وكراهته للفراق سبحانه جلا وعلا .
(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ )
أي للنساء على
بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة المستحبة
وما رجع
من الحقوق بين الزوجين
ويرجع إلى المعروف ,
ما هو المعروف ؟
هو العادة الجاريه في ذلك البلد
وذلك الزمان من مثلها لمثله ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص
والعوائد
كل هذه لها دور في المعروف ,
وفي هذا دليل على أن النفقه والكسوة والمعاشرة والمسكن
وكذلك
الوطء الكل يرجع إلى المعروف , فهذا موجب العقد المطلق
فأما مع الشرطي فعلى شرطهما
إلا
شرطاً احل حراماً أو حرم حلال .
(وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )
أي يزيد الرجال
عن النساء بدرجة واحده
أي رفعه ورياسة وزيادة حق عليها
الرجال قوامون على النساء
ومنصب النبوة والقضاء والإمامه
الكبرى والصغرى وسائر الولايات مختصه بها الرجال
وله ضعف مالها في كثير من الأمور كالميراث
ونحوه
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
له العزة سبحانه جلا وعلا العزه القاهره والسلطان
العظيم
الذي
ذانت عليه جميع الأشياء ولكن مع عزته حكيم في تصرفه سبحانه ,
ويخرج من عموم هذه الآية
الحوامل فعدتهن ووضع حملهن واللاتي لم يدخل بهن فليس لهن عدة .
قال
تعالى :
( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
(الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )
كان الطلاق في الجاهلية
واستمر أول الإسلام
يطلق الرجل زوجته بلا نهاية
فكان أذا أراد مضرتها طلقها
فإذا شارفت انقضاء عدتها راجعها
ثم طلاقها
وصنع بها مثل ذلك أبداً
فيطلقها كذا مره حتى يضارها
فيحصل عليها من الضرر مالله به عليم
فأخبر الله تعالى أن الطلاق الذي تحصل به الرجعه مرتان فقط
ليتمكن الزوج إن لم يرد
المضاره من ارتجاعها
ويرجع رأيه في هذه المده
وأما ما فوقها فليس محلا لذلك لأن من زاد عن الاثنتين
فإما
متجرأ على محرم
أو ليس له رغبة في إمساكها بل قعده المضاره
فلهذا امر الله تعالى الزوج
أن يمسك
زوجته بمعروف
أي عشره حسنه
ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم وهذا هو الأرجح
و إلا يسرحها
ويفارقها بإحسان
ومن الإحسان ان لا يؤخذ على فراقه لها شيء من مالها
لأنه ظلم وأخذ للمال
من غير مقابله بشيء فلهذا قال الله تعالى :
(وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا
)
وهي
المخالعه بالمعروف
بأن كرهت الزوجه زوجها سواء لخَلقه أو خُلقه أو نقص في دينه وخافت ان لاتطيع
الله عز وجل فيه
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلَا تَعْتَدُوهَا )
وهذا هي الخلع لأنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقه
وفي هذا مشروعية الخلع
إذا وجدت هذه الحكمه ,
(تِلْكَ )
ما تقدم من الأحكام الشرعيه
( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ )
عز وجل و أمر بالوقوف معها
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
وأي ظلم أعظم ممن اقتحم
الحلال وتعدى على الحرام
فلم يسعه ما أحل الله عز وجل
والظلم ثلاث أقسام :
ظلم العبد فيما بينه وبين الله
ظلم العبد الأكبر
الذي هو الشرك
ظلم العبد فيما بينه وبين الخلق
فالشرك لا يغفره الله إلا بالتوبة
وحقوق العباد
لا يترك الله عز وجل منها شيئاً
والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك تحت المشيئة
والحكمة
إذا الشرك يحتاج إلى التوبة وحقوق العباد تحتاج إلى رد المظالم وأما الذي دون الشرك وهو
بين العبد وربه فهذا تحت المشيئة والحكمة
قال تعالى :
(فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )
(فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )
أي يقصد الله عز وجل هذه الطلقة الطلقة الثالثه
(فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ )
أي نكاح صحيح و يطأها
لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحا
ويدخل فيه العقد والوطء وهذا بالاتفاق
ويشترط أن يكون النكاح الثاني نكاح رغبه
فإن قصد به تحليلها للزوج الأول فليس بنكاح ولا يفيد التحليل ولا يفيد وطء السيد لأنه ليس بزوج
فإذا تزوجها الثاني راغب في وطئها
ثم فارقها وانقضت عدتها
(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا )
أي على الزوج الأول والزوجة
( أَنْ يَتَرَاجَعَا)
أي يجددا عقدا جديدا بينهما لإضافته التراجع إليهما
دل على اعتبار التراضي بينهما ولكن يشترط في التراجع أن
يظنا أن يقيما حدود الله
وإذا ظنا وتأكدا وجزما أن يقيما حدود الله بأن يقوم كل منهما بحق صاحبه
وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق وعزما على أن يبدلها بعشره حسنه فهنا لا جناح عليهما في التراجع ,
ومفهوم الآية الكريمة انهما أن لم يظنا أن يقيما حدود الله بأن أغلب على ظنهما أن الحالة السابقة ستبقى والعشرة السيئة غير زائله وأن عيلها بذلك جناحا لأن جميع الأمور أن لم يقم فيها أمر الله ويسلك بها طاعته لن يحل الأقدام عليها
وفي هذا دلاله على أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يدخل في أمرا من الأمور خصوصا الولايات الصغار والكبار
نظر في نفسه فإن رأى من نفسه قوة على ذلك ووثق بها أقدم وإلا أحجم وتراجع
اذا أقدمت على وظيفة ورأيت نفسك تستاهلها وبإذن الله ستقوم بها حق القيام أقدم اما اذا رأيت نفسك غير أهل لها أحجم
أي أمر كان , لا تقرر قرار الا اذا تأكدت أنك تستطيع له
ولما بين الله تعالى هذه الأحكام
العظيمه
قال : ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )
أي شرائعه التي حددها وبينها ووضحها
يبينها لقوم يعلمون لأنهم هم المنتفعون بها النافعون لغيرهم
وفي هذا من فضيلة أهل العلم مالا يخفى لأن الله تعالى جعل تبينه لحدوده خاصا بهم وأنهم هم المقصودون بذاك
وفيه أن الله تعالى يحب من عباده معرفة حدوده ما أنزل على رسوله و التفقه فيها .
نسأل الله عز وجل أن نكون ممن يتفقه في الدين يا ذا الجلال والإكرام
اللهم إنا نسألك علما نافعها ورزقا طيبا وعملا متقبلا
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق