الوجه التاسع والثلاثون من سورة البقرة
يقول تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ)
يقص الله تعالى على نبيه قصة الملأ من بني
إسرائيل ، وخص الله عز وجل الملأ بالذكر، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن
مصالح قومهم, و دائماً الناس تتبعهم ,فيتبعهم غيرهم على ما يرونه هم
وذلك انهم
أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلام لم يذكر هذا النبي فقالوا له
{ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا }
أي: عيِّن
لنا ملكا
{ نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
ليجتمع متفرقنا ونقاوم بنا عدونا، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم، كما
جرت عادة القبائل أصحاب البيوت، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس،
فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك عليهم ,يرضي الطرفين منهم ويكون تعيينه خاصا
لعوائدهم، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر، فلما
قالوا لنبي لهم تلك المقالة
قال لهم نبيهم : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا }
اي نخشى أنكم تطلبون شيء لا تستطيعون القيام
به , لان نبيهم يعرف ماذا يتطلب القتال فالإنسان لا يطلب شيء ممكن انه لا
يستطيع تنفيذه, الانسان دائماً يتبرأ من حوله وقوته ولا يتعجل لنفسه البلاء,
لا
يقول لو اني أتاني لفعلت غير الذي فعلوا, لا ,فأنت لا تعلم ماذا تفعل لو كنت
في موقع هذا الشخص أياً كان ,هم كانوا يقولون لو ان لنا ملك لقاتلنا في سبيل
الله , كان يتوقعون ذلك عن أنفسهم ,أي أعطوا أنفسهم نظره غير النظرة الحقيقية لها
,وهذه مشكله في بعض الأحيان نعطي انفسنا نظره غير النظرة الحقيقية لها فإذا جاءت
الحقيقة انكشف الخداع و سقطت الاقنعة ,فلا نطلب شيء لا نستطيع القيام به ولا
نعطي أنفسنا اكبر من حجمها حتى لا تتصاعد مشاكلنا .
فعرض عليهم نبيهم ان يقبلوا بالعافية
فلم يقبلوها ,والعافية لا يعدلها شيء, دائماً اسألوا الله العفو والعافية فإن
العافية لا يعدلها شيء ,لا تقولوا لو اننا في مكان هؤلاء , سوف نفعل كذا
وكذا , لا, اسألوا الله العافية ولا تعتمدوا على انفسكم.
قال لكنهم اعتمدوا على عزمهم ونيتهم
,وكانت مشكلتهم انهم اعتمدوا على عزيمتهم وعزمهم ونشاطهم ولم يعتمدوا على الله
سبحانه ,ولم يطلبوا العون من الله ولم يطلبوا الاستعانة من الله .
فكان ردهم وقولهم :(وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا )
فلا شيء يمنعنا من القتال.
وقد ألجأنا إليه بأن أخرجنا من أوطاننا
وسبيت ذرارينا فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا
لا تتمنوا البلاء
واسألوا الله العافية
ولان نياتهم لم تكن حسنة ولم يتوكلوا
على ربهم
} فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا{
فجبِنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة،
وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخَوَر
}إِلَّا
قَلِيلًا مِّنْهُمْ {
هذا عدل من الله عز وجل وانصاف ,انه لم ينسى
القليل منهم بل ذكرهم, فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله
ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة،
وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر
الله، فلهذا قال:
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
لاشك انهم ظالمين لأنهم طلبوا هذا
الطلب
{وَقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ }
مجيبا لطلبهم
{ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ
لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا }
فكان هذا تعيينا من الله
عز وجل, فعين طالوت ملك فكان هذا تعين
من الله,
اذا جاء أمر من الله فإن الواجب علينا القبول
والانقياد والإذعان وترك الاعتراض ولكنهم أبوا إلا أن يعترضوا،
فقالوا:
{
أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ }
أي: كيف يكون هذا؟ أي كيف يكون ملك
علينا ونحن احق بالملك منه
وهذا تصورهم هم , وكان تصورهم عن
انفسهم خلاف الحقيقة من ضعف عقولهم وسفههم .
لكن الله عز وجل هو من يدبر الامر سبحانه جل
شأنه ,وهو من خلق الخلق وهو اعلم بما في السموات والأرض ,وهو ملك السموات والأرض
,وبما انه الخالق والمدبر سبحانه والمصرف يجب علينا القبول والانقياد وترك
الاعتراض,
لكنهم أبو الا ان يعترضوا
اذا لابد ان نكسر الأصنام التي داخلنا ولا
نعطي انفسنا احجام قد لا تكون حقيقية,
} وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِّنَ الْمَالِ{
اختصروا الملك على المال فقط قالوا نحن احق بالملك منه ولم يؤت سعة من
المال, لأنهم ظنوا ان الملك فيه مال ,وان صاحب المال هو الذي يأخذ الملك , كيف يكون ملك وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن
احق بالملك منه ومع هذا فهو فقير كيف يكون ملك؟
وهذا بناء منهم على ظن فاسد وهو ان الملك
ونحوه من الولايات مستلزم لشرف النسب وكثرة المال، ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية التي توجب
التقديم مقدمة عليها .
فلهذا قال لهم نبيهم: { إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ{
الله اعلم بالخلق هو الذي اصطفاه عليكم ,هو
اعلم بمصالحكم ,هو مدبر اموركم ,ان الله اصطفاه عليكم فلزمكم الانقياد لذلك
{ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ {
مقياس الله يختلف عن مقياسكم انتم ,هذا قوي
البنيه ,قوي العقل, قوي الفكر, قوي العلم
اما قضية شرف ونسب ومال هذه ليس لها تأثير
على الملك
وفضله عليكم بالعلم أي بقوة الرأي, والجسم
القوه البدنية اللذين بهما تتم أمور الملك لأنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه
الرأي حصل بذلك الكمال ,ومتى مافاته واحد من الامرين اختل عليه الامر ,
ولو كان قوي البدن مع ضعف رأي حصل في
الملك خرق وقهر ومخالفة للمشروع قوة على غير حكمة ولو كان عالما بالأمور وليس له قوة على
تنفيذها لم يفده الرأي الذي لا ينفذ منه شيئا
}وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{
والله واسع الفضل كثير الكرم، لا يخص
برحمته وبره العام أحدا عن أحد، ولا شريفا عن وضيع، ولكنه مع ذلك عليم بمن يستحق
الفضل فيضعه فيه
فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن
أسباب الملك متوفرة فيه، وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ليس له راد، ولا
لإحسانه صاد
( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )
ثم ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها
وهي إتيان التابوت الذي قد فقدوه زمانا طويلا
هذه ايه حسيه لان في بعض الناس لا تؤمن حتى ترى
شيء حسي,
وفي ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم،
وتطمئن لها خواطرهم، وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فأتت به الملائكة حاملة
له وهم يرونه عيانا.
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد ان لا اله الا انت
أستغفرك واتوب اليك
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق