الخميس، يونيو 02، 2016

تفريغ سورة البقرة من آية 260 إلى آية 264








الوجه الثالث والأربعون من سورة البقرة


يقول الله تعالى :
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)( 260)

لما طلب إبراهيم عليه السلام من الله سبحانه وتعالى أن يرى إحياء الموتى, لم يكن ضعيفَ  اليقين, ولم يكن عنده جهلٌ في الله سبحانه وتعالى, لا ,بل كان يريد منزلةَ عينِ اليقينِ , يريد أن يصلَ إلى هذهِ المرحلةِ, مرحلةَ عينِ اليقينِ التي تكلمنا عنها في بدايةِ سورةِ البقرةِ.

مرحلةُ عينِ اليقينِ هذه مرحلةٌ عاليةٌ جدًا جدًا, وإبراهيم عليه السلام أراد أن يصلها, لذلك سأل اللهَ عزَّ وجلّ أن يريه كيف يحيي الموتى, لكن بالتأكيد ليس عند إبراهيمَ عليه السلام شكٌّ, بل كان عنده عينُ اليقينِ.

إبراهيمُ عليه السلامُ إمامُ الموحدين, إبراهيمُ عليه السلامُ هو الذي ترك زوجتَه وابنَه في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ,
إبراهيمُ عليه السلام هو من قال لزوجتِه لما قالت له: أالله أمرك بذلك؟ قال: نعم, قالت: إذا لا يضيّعنا.
هذه التربيةُ الابراهيميةُ التي نطقتْها هاجرُ زوجةُ ابراهيمَ عليه السلامُ .

وهذا فيه أيضًا أعظمُ دلالةٍ حسيةٍ على قدرةِ اللهِ وإحيائه الموتى للبعثِ والجزاءِ، فأخبر تعالى عن خليلِه إبراهيمَ أنه سأله أن يريَه ببصرِه, شيئًا حسيًّا, كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقّن ذلك بخبرِ الله تعالى، ولكنه أحبَّ أن يشاهدَه عيانًا ليحصلَ له مرتبةُ عينِ اليقينِ،
فلهذا قال الله له: { أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } 

ولم يكن الله عز وجل حينما سأله إبراهيمُ عليه السلام غيرَ عالمٍ بيقينِ إبراهيمَ, الله عزَّ وجل يعلم يقينَ إبراهيمَ- سبحانه جلَّ وعلا.

وذلك أنه بتواردِ الأدلةِ اليقينيةِ مما يزدادُ به الإيمانُ ويكملُ به الإيقانُ ويسعى في نيله أولُو العرفانِ،
فقال له ربُّه :
{ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } 
يريد ابراهيمُ مرحلةً عاليةً من اليقين.

أيها الإخوةُ, لو كان لدينا جرعاتٌ قويةٌ عاليةٌ من هذا اليقينِ, لعرفنا نصلّي, لعرفنا اللهَ عزَّ وجل, لأدّينا الواجباتِ بكلِّ رضىً وطمأنينةً, لسلّمنا الأمرَ للهٍو لسلّمنا بأقدارِ الله, لرضينا بكل شيءٍ.

فقال له ربُّه: 
{ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ }
 أي: ضمَّهُن, ليكون ذلك بمرأىً منك, ومشاهدةً, وعلى يديكَ.
{ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } 
أي: مزقْهن، اخلطْ أجزاءَهن بعضَها ببعضٍ، واجعلْ على كلِّ جبلٍ، أي: من الجبالٍ التي في القربٍ منه، جزءًا من تلك الأجزاءِ. 

{ ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } 
أي: تحصلُ لهن حياة ٌكاملةٌ، ويأتينَك في هذهِ القوةِ, وسرعةِ الطيرانِ، ففعل إبراهيمُ عليه السلامُ ذلك, وحصلَ له ما أرادَ.

وهذا من ملكوتِ السماواتِ والأرضِ, الذي أراه اللهُ إياهُ في قوله تعالى :
{ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } 

لماذا يا ربِّ؟!
حتى يكون عنده درجةٌ عاليةٌ من الإيقانِ.

ثم قال: 
{ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
 أي: ذو قوةٍ عظيمةٍ, سخر بها المخلوقات، فلم يستعصِ عليه شيء منها، بل هي منقادةٌ لعزتِه خاضعةٌ لجلالِه، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعةٌ لحكمتِه، لا يفعل شيئًا عبثًا:
عطاؤُه كلامٌ, منعُه كلامٌ, يقولُ للشيءِ كنْ فيكون - سبحانه جل وعلا -

يقول الله تعالى :
(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)( 261)


هذا بيانٌ للمضاعفةِ التي ذكرها اللهُ في قوله:
{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }

وهنا قال: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 
أي: في طاعتِه ومرضاتِه، وأولها إنفاقُها في الجهادِ في سبيلِه 

{كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ}
 وهذا إحضارٌ لصورةِ المضاعفةِ بهذا المثلِ، الذي كان العبدُ يشاهدُه ببصرِه, فيشاهدُ هذه المضاعفةَ ببصيرته، ويكون عندَه يقينٌ باللهِ عزَّ وجل, فيقوى شاهدُ الإيمانِ مع شاهدِ العيانِ، فتنقادُ النفسُ مذعنةً للإنفاقِ, سامحةً بها, مؤملةً لهذه المضاعفة الجزيلةِ, والمنّةِ الجليلةِ. 

{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ } 
هذه المضاعفة 

{لِمَن يَشَاءُ}
 أي: بحسبِ حالِ المنفقِ وإخلاصِه وصدقِه, وبحسبِ حالِ النفقةِ وحلها ونفعها ووقوعها موقعها،

ويحتمل أن يكون
 {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ}
 أكثر من هذه المضاعفة 

{ لِمَن يَشَاءُ}
فيعطيهم أجرَهم بغير حسابٍ. 

{وَاللَّهُ وَاسِعٌ }
 الفضلِ، واسعُ العطاءِ، -لا تتعجبوا!-
لا ينقصه نائلٌ, ولا يحفيه سائلٌ، فلا يتوهم المنفقُ أنَّ تلك المضاعفة فيها نوعُ مبالغةٍ، لأن الله تعالى لا يتعاظمُه شيءٌ, ولا ينقصُه العطاءُ على كثرتِه،

ومع هذا فهو {عَلِيمٌ } بمن يستحقُّ هذه المضاعفةِ, ومن لا يستحقُّها، فيضع المضاعفةَ في موضعِها لكمالِ علمه وحكمتِه جل وعلا.

يقول الله تعالى :
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)( 262)


{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
أي: الذين ينفقون أموالهم في طاعةِ الله وسبيله،

{ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى }
لا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها, من المنِّ بها على المنفَقِ عليه بالقلبِ أو باللسانِ، بأن يعدّد عليه إحسانَه, ويطلب منه مقابلتَه، ولا أذيةَ له قوليةً أو فعليةً، فهؤلاء لهم أجرُهم اللائقُ بهم, ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم الخيرُ, واندفع عنهم الشرُّ, لأنهم عملوا عملًا خالصًا لله سالمًا من المفسداتِ.

تقريبًا آياتُ هذا الوجه كلُّها في النفقةِ, ويمكن القول أنَّ أعظمَ سورةٍ تحدثت عن الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى وعن الصدقة, هي سورة البقرة,

ويعتبر أغلبُ الجزءِ الثالثِ من السورةِ عن الصدقةِ, والأموالِ وكيفية التعامل معها بشكلٍ عامٍ.


يقول الله تعالى :
(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)( 263)

{ قولٌ معروفٌ } 
أي: تعرفه القلوبُ ولا تنكرُه، ويدخلُ في ذلك كلُّ قولٍ كريمٍ, فيه إدخالُ السرورِ على قلبِ المسلمِ، ويدخلُ فيه ردُّ السائلِ بالقولِ الجميلِ, والدعاءِ له. 

{ ومغفرةٌ }
 لمن أساء إليك, بتركِ مؤاخذتِه, والعفوِ عنه، ويدخل فيه العفوُ عما يصدرُ من السائلِ مما لا ينبغي، فالقولُ المعروفُ والمغفرةُ خيرٌ من الصدقةِ التي يتبعها أذىً، لأن القولَ المعروفَ إحسانٌ قوليٌّ، والمغفرةُ إحسانٌ أيضًا بتركِ المؤاخذةِ، وكلاهما إحسانٌ ما فيه مفسدٌ، فهما أفضلُ من الإحسانِ بالصدقةِ التي يتبعها أذىً بمنّ أو غيره،

إذا الأمر الأول:{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ }
يعني قولُ كلمةٍ طيبةٍ, كلمةٍ صادقةٍ, كلمةِ احسانٍ, كلمةٍ جميلةٍ, كلمةٍ تثني بها على أحدٍ, تشجّع أحدًا, تمدح أحدًا, توسّع صدرَ أحدٍ, تشرح قلبَ أحدِ.

الأمر الثاني { وَمَغْفِرَةٌ
 يعني تتوبُ على أحدٍ, تسامحُ أحدًا, تغفرُ لأحدٍ, لا تحسدْ, لا تحقدْ, لا تحملْ في قلبك غيضًا أو حسدًا أو كرهًا أو بغضًا أو غير ذلك,
كلُّ هذا خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذىً.

إذا كانت الصدقةُ أيها الأخ سيتبعها أذىً, إذا كان العملُ الصالحُ الذي تعمله سيتبعه أذىً, فخذ هذه المعلومة: لا تتعب نفسَك, اجلسْ في بيتك أفضلُ لك.

أيُّ عملِ, أيُّ صدقةٍ, أيُّ شي تبذله, سواءً صدقةَ وقتٍ, أو صدقةَ مالٍ, أو صدقةَ عملٍ, أو أي شيءٍ, إذا كان فيه أذىً, فأقول لك أرحْ نفسك, وأرحْ قلبك, لا تعمل هذا الشيءَ.

اضرب لك مثلًا إذا كنت تخدم مثلًا أمَّ زوجك, أو أيًا من أهلِ زوجِك, أو أحدًا من أقاربك, أو من جيرانك, أي أحدٍ تخدمه, فإذا بك ترى ضدَّ ما تقابلهم أنت به, إذا كان هذا سيضجرُك, وسيجعلُك تغتابُ وتنمُّ وتسبُّ, فالأفضلُ أن تُرحْ بدنَك وجسمَك, ولا تخدمْهم.

أخي تتعب جسمَك وقلبَك ولسانك, ثم لا توجد حسناتٌ.
لماذا؟ لأن الحسنات ستذهب في السبِّ والغيبةِ والحسدِ والشتمِ والكرهِ والبغضاءِ, وفي الحديث عنهم, والمنَ عليهم, أنا فعلتُ وعملتُ لهم, وفي النهاية يقابلونني بالسوءٍ.

إذا كنت ستعملُ هذا العملَ للهِ, وتنساهُ, فبارك اللهُ عزَّ وجل في جهدِك وعملِك.

والمغفرةُ  لمن أساء اليك, في ترك مؤاخذته, والعفو عنه, هذا كله أفضلُ من الصدقةِ اللي يتبعها أذىً.

الصدقة تشمل أشياءَ كثيرةً, ليس بالضرورة أن تكون مالًا, قد تكون خدمةً أو عملًا أو مساعدةً, فإذا كنت تساعد أحدًا, أو تعطيه, ثمّ تمنُّ عليه, فاسمحْ لي, لا تساعده, ولا تعطيه أفضل من المنّ.

وإذا لم تكن ستنساه حتي تلقاه عند الله عزَّ وجل, ولم يكن بغيتك الله عزَّ وجل, فالأفضل لك أن ترتاح وترحْ بدنَك, وترِحْ خلقَ الله.
ويدخل في الصدقةِ أيضًا, العفو عما يصدر عن السائلٍ مما لا ينبغي له, فالقولُ المعروفُ, والمغفرة خيرٌ من الصدقةِ التي يتبعها أذىً, لأنّ القولَ المعروفَ إحسانٌ قوليٌّ, والمغفرةُ إحسانٌ أيضًا بترك المؤاخذةِ, وكلاهما إحسانٌ ما فيه مفسدةٌ فهما أفضلُ من الإحسان بالصدقةِ التي  يتبعها أذىً بمنٍّ أو غيره.

ومفهومُ الآيةِ أن الصدقةَ التي لا يتبعها أذىً, أفضلُ من القولِ المعروفِ والمغفرةِ، لا شكَّ في هذا.

وإنما كان المنّ بالصدقة مُفسدًا لها محرمًا، لأن المنّةَ للهَ تعالى وحده، لا ينبغي أيها الإخوة أن نمنَّ على بعضٍ,
المنةُ لله أن وفَّقنا لأن نعمل هذا الشيء, المنةُ لله أنه يسَّر لي ووفّقني وفتح عليَّ, لفعلَ هذا الشيء,
المنةُ للهِ وحدَه, لذلك لا يجوزُ لك أن تمنّ على خلقِه وعلى عبيدِه.

والإحسانُ كله لله، فالعبدُ لا يمنّ بنعمةِ اللهِ وإحسانِه وفضلِه, وهو ليسَ منه، وأيضًا فإن المانَّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذلُّ والاستعبادُ لا ينبغي إلا للهِ، واللهُ غنيٌّ بذاتِه عن جميعِ مخلوقاتِه، وكلها مفتقرةٌ إليه بالذاتِ في جميع الحالاتِ والأوقاتِ، فصدقتُكم وإنفاقُكم وطاعاتُكم يعودُ مصلحتُها إليكم ونفعُها إليكم. 

{ وَاللَّهُ غَنِيٌّ }
 عنها،

ومع هذا فهو
 { حَلِيمٌ } 
على من عصاهُ لا يعاجلُه بعقوبةٍ مع قدرتِه عليه، ولكنَّ رحمتَه وإحسانَه وحلمَه يمنعه من معاجلتِه للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآياتِ, لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه،
فإذا علمَ تعالى أنه لا خيرَ فيهم, ولا تغني عنهم الآياتُ, ولا تفيدُ بهم المثلاتُ, أنزل بهم عقابَه وحرمَهم جزيلَ ثوابِه.

يقول الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)( 264)


{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ }
ينهى الله تعالى عبادَه لطفًا بهم ورحمةً, عن إبطالِ صدقاتِهم بالمنٍّ والأذى,

ففيه أن المنَّ والأذى يبطلُ الصدقةّ، يبطل العطاءَ, يبطلُ المساعدةَ, يبطل الشفاعةَ, كل جهدٍ قدمته للناس, ووضعت فيه منًّا وأذىً, بطُلَ, انتهى, لن تجده يوم القيامةِ, وهذا كلام الله عزَّ وجل.

المنُّ والأذى خطيرٌ جدًا, أن نمنَ على الناس, ونؤذيهم بألسنتِنا وبأقوالِنا ونظراتِنا وبأفعالِنا وبسبِّنا وبغيبتِنا ونميمتِنا, كلُّ هذه الأمورِ تبطلُ صدقاتِنا, تبطلُ عطايانا, تبطلُ الجهدَ الذي قدمته, والوقتَ الذي بذلتَه,

قدِّم لله وانسى, قدّم لله, والله عزَّ وجل لن يضيع عنده شيءٌ, ستجد كلَّ ما قدّمته عند الله سبحانه وتعالى.

ويستدلُّ بهذا على أنَّ الأعمالَ السيئةَ تبطلُ الأعمالَ الحسنةَ،
كما قال تعالى: 
{ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ

فكما أنَّ الحسناتِ يذهبنَ السيئاتِ, فالسيئاتُ تبطلُ ما قابلَها من الحسناتِ،

وفي هذه الآية, مع قوله تعالى:
 { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } 
حثٌّ على تكميلِ الأعمالِ وحفظِها من كل ما يفسدُها.
اسعَ لحفظِ أعمالِك وجهدكَ, خشيةَ ان تذهب هباءً منثورًا.

نحن كمدراءُ ومعلمين نحفظ أعمالنا بتقاريرَ وملفاتٍ وجهودِ ,حتى لا تضيعَ, أنت احفظ أعمالك بملفاتك يوم القيامة, لا تذهبها بالمنِّ والأذى لئلا يضيعَ العملُ سدىً،

{ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } 
أي: أنتم وإن قصدتم بذلك وجهَ اللهِ في ابتداءِ الأمر، فإن المنةَ والأذى مبطلان لأعمالِكم، فتصير أعمالُكم بمنزلةِ الذي يعمل لمراءاةِ الناسِ, ولا يريد به اللهَ والدارَ الآخرةَ،

حتى لو كنت ناويًا بعملك وجهَ اللهِ في بدايةِ الأمرِ, لكن أبطلته بالمنِّ والاذى, فصرتَ كمن يرائي الناسَ بالضبط.

فهذا لا شك أن عملَه من أصلِه مردودٌ، لأن شرطَ العملِ أن يكون للهِ وحدَه وهذا في الحقيقةِ عملٌ للناسِ لا للهِ،

 حتى تجدَ عملَك يوم القيامة, حتى يُقبلَ, ويكون في ميزانِك, يجب أن يكون لله وحده لا تشرك معه أحدًا.

 لذلك عندما تبدأُ بسبِّ زوجك أو أبنائك أو إخوتك أو جيرانك أو أهل زوجك أو  أصدقائك, في مجلسٍ, وتبدأ تعدّد الأعمال التي قدّمتَها لهم, مانًّا عليهم بقولك: أنا فعلتُ وقدّمتُ لهم, وهم قابلوني بالإساءةِ,  فقد أبطلت أعمالك, لأن شرطَ العملَ أن يكون للهِ وحدَه, وهذا في الحقيقةِ عملٌ للناسِ, لا لله عزَّ وجل, لأنه لو كان لله فما الحاجةُ في أن يُطرَح للناسِ.
فأعمالُه باطلةٌ, وسعيُه غيرُ مشكورٍ،

فمثلُه { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } 
وهو الحجرُ الأملسُ الشديدُ. 

{ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } 
أي: مطرٌ غزيرٌ 

{ فَتَرَكَهُ صَلْدًا } 
أي: ليس عليه شيء من التراب،

فكذلك حال هذا المرائي، قلبُه غليظٌ قاس بمنزلةِ الصفوانِ، وصدقتُه ونحوها من أعمالِه بمنزلةِ الترابِ الذي على الصفوانِ، إذا رآهُ الجاهلُ بحالِه ظنَّ أنَّه أرضٌ زكيةٌ قابلةٌ للنباتِ، فإذا انكشفَت حقيقةُ حالِه, زالَ ذلكَ الترابُ, وتبينَ أنَّ عملَه بمنزلةِ السرابِ، وأنَّ قلبَه غيرُ صالحٍ لنباتِ الزرعِ وزكائِه عليهِ، بل الرياءُ الذي فيه, والإراداتُ الخبيثةُ تمنعُ من انتفاعِه بشيءٍ من عملِه،

اللهمَّ برحمتك نستغيثُ, أصلح لنا شأنَنا كلَّه, ولا تكلنا الى أنفسِنا طرفةَ عينٍ

اللهمَّ عالمَ الغيبِ والشهادةِ, فاطرَ السماواتِ والأرضِ, ربَّ كلِّ شيءٍ ومليكَه, أشهد أن لا إله الا أنتَ,  أعوذُ بك من شرِّ نفسي, ومن شرِّ الشيطانِ وشركِه, وأن أقترفَ على نفسي سوءًا أو أجرَّه إلى مسلمٍ.

فلهذا { لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا }
 من أعمالِهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعِها وجعلوها لمخلوقٍ مثلَهم، لا يملك لهم ضررًا ولا نفعًا, وانصرفوا عن عبادةِ من تنفعُهم عبادتُه، فصرف اللهُ قلوبهم عن الهدايةِ،

فلهذا قال تعالى في ختامِ الآيةِ: { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }


سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً, واجعل تفرقنا من بعده تفرّقا معصوماً, ولا تجعل معنا شقياً ولا محروماً.

وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعينِ.

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق