الوجه الرابع والأربعون من سورة
البقرة
يقول الله تعالى :
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ
فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
)(265)
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}
أي:
هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله, يريدون وجه الله عز وجل, قصدهم
بذلك رضا ربهم, والفوزَ بقربه, لم يتصدقوا إلا لله, لم يعطوا إلا لله, لم ينفقوا
إلا لله.
ما الذي حرّكهم ؟
حركتهم فطرةُ
الله عز وجل, حرّكهم الأجرُ والمقصدُ والهدفُ السامي, كله لله, حرّكتهم النيةُ
الخالصةُ, حرّكهم الأجرُ العظيم المترتب على المتصدق, لا يريدون شكرًا من الناس,
لا يريدون أن يمتدحهم الناس, قصدهم من ذلك رضا ربهم, والفوز بقربه فقط .
أيها الأخ حدّد أهدافك عندما
تقدم عملًا! لابد أن يكون الهدف واضحًا لك, الرؤية واضحة جدًا لك,
انتبه من تغيُّر ذلك, لأنه في بعض الأحيان تبدأ بالنية الصادقة, بالفعل, ثم
يشوبها ما يشوبها, فينصرف العمل,
ويوم القيامة تأتي بأعمال ٍكالجبال,
تراها يوم القيامة, فتفرح بها, فإذا بها تصبح هباءً منثورًا, فتقول: لماذا يا رب؟
فيقول تعالى: هي ليست لي, لم تقدّم لي.
قد نتعجب! قد نرى أشياءَ
لم نكن نتوقعها, أعمال توقعنا أننا قدمناها لله, واذا بها ليست لله.
{وَتَثْبِيتًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ}
: صدر الإنفاقُ على وجهٍ منشرحةٌ له النفسُ, سخيةٌ به، لا على وجهِ
الترددِ وضعفِ النفسِ في إخراجِه.
وذلك أن النفقة يعرض لها أفتان:
- مدح الناس, وثناؤهم, فيقصد
الانسان بها محمدةَ الناس ومدحَهم وهذا هو الرياء, هذا الأمر الأول.
- وفي بعض الأحيان الشيطان يأتي
ويقول قد تفتقر, قد تحتاج, لماذا تعطي ؟ أنت أحوج منهم أنت كذا, فيخرجها الإنسان
على خَورٍ وضعفٍ وترددٍ, وهذا الأمر الثاني.
أو لكن هؤلاء {وَمَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
سلموا من هاتين الآفتين:
الآفة الأولى : مدح الناس وثنائهم,
والآفة الثانية: يعطيها على ضعفٍ وخورٍ وترددٍ, فهؤلاء سلموا.
اللهم اجعلنا منهم يا أكرم
الأكرمين, اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
فأنفقوا { ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
اللَّهِ } لا لغير ذلك من المقاصد.
{ وَتَثْبِيتًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ }
فمثل نفقة هؤلاء, فقط هؤلاء الذين لم يريدوا مدح الناس, ولم يعطوها
بضعفٍ وبخَورٍ وبترددٍ, يل أعطوها بتثبيتٍ بقوةٍ, أعطوها بيقينٍ بأن الله عز وجل
سيرد عليهم أضعافها, سواء في الدنيا أو في الآخرة, أعطوها وهم يعلمون ما هو عند
الله عز وجل, ليس فيها أي تردد وشك.
إذا التردد والشك والخور والضعف
أيها الإخوة يؤثر على الصدقة,
ما دليلنا ؟
دليلنا قول الله عز وجل :
{
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ }
الأمر الأول: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
اللَّهِ },
والأمر الثاني: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ},
أعطوها بقوة, أعطوها
وهم يستشعرون ما عند الله سبحانه وتعالى.
أين تكون نفقة هؤلاء يا ربِّ؟
وماذا ستصبح ؟
{ كَمَثَلِ جَنَّةٍ }
كثيرة
الأشجار, غزيرة الظلال, من الاجتنان, وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة
{ بِرَبْوَةٍ }
أي: محلٍ مرتفعٍ
ضاحٍ للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، كله تطلع عليها الشمس, فثماره أكثر
الثمار وأحسنها, ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس،
فـ { أَصَابَهَا }
أي: تلك الجنة
التي بربوة
{ وَابِلٌ }
وهو المطر الغزير
{ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ
}
أي: تضاعفت ثمراتها, لما أتى المطر الغزير تضاعفت ثمراتها ، لطيب أرضها, ووجود
الأسباب الموجبة لذلك، وحصول الماء الكثير, الذي ينميها ويكملها
{ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ
فَطَلٌّ }
أي: مطرٌ قليلٌ
إذا ما أصابها { وَابِلٌ } المطر
الكثير,
{ فَطَلٌّ } الذي هو المطر القليل, يكفيها لطيب منبتها،
فهذه حالة المنفقين:
أهل النفقات
الكثيرة والقليلة, كل على حسب حاله، وكل يُنمّى له ما أنفقَ أتمَّ تنميةٍ,
وأكملَها,
والمنمّي لها هو الذي أرحم بك من
نفسك، هو الذي يريد مصلحتك, حيث لا تريدها أنت،
فيا الله لو قدِّر وجودُ بستانٍ
في هذه الدار, بهذه الصفة, لأسرعت إليه الهممُ, وتزاحم عليه كل أحدٍ، ولحصل
الاقتتالُ عنده، مع انقضاء هذه الدار وفنائها, مع أن هذه الدنيا ستفنى ومع كثرة
آفاتها, وشدة نصبها وعنائها، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه
بعينِ بصيرةِ الإيمانِ، المؤمن عنده يقينٌ, كما ما عند الإنسان الذي يريد
الدنيا, لو أنه علم أن هناك جنةٌ ستباع, وأن الجنة فيها وفيها وفيها, وهي ليست
غالية الثمن, فالكل سيذهب ليشتريها, إذن يفترض بنا نحن المؤمنون أنّ عندنا يقينٌ
بأن أجر الصدقة عند الله عز وجل, مثل أجر هذه الجنة, يفترض أن نتسارع إليها.
طيب ما هو المطلوب منا ؟
المطلوب منا هو اليقين.
اليقين أن نؤمن حقا بأن ما عند
الله خيرٌ وأبقى.
هذا الثواب الذي ذكره الله ,كأن
المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان, دائمٌ مستمرٌ فيه أنواعٌ المسراتِ
والأفراحِ، ومع هذا تجدُ النفوسَ عنه راقدةً، والعزائمَ عن طلبه خامدةً،
أترى ذلك زهدًا في الآخرة
ونعيمها، أم ضعفُ إيمانٍ بوعدِ الله ورجاءِ ثوابه؟!
وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق
اليقين, وباشر الإيمانَ به بشاشة قلبه, لانبعثت من قلبه مزعجاتُ الشوق إليه،
وتوجهت هممُ عزائمِه إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقاتِ, رجاءَ المثوباتِ،
لو عندنا يقينٌ حقا لأكثرنا من
الصدقات.
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ }
فيعلم عملَ كل عاملٍ, ومصدر ذلك العمل، فيجازيه عليه أتمَّ الجزاء,
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا
اتباعه, وأرنا الباطل باطلًا, وارزقنا اجتنابه.
يقول الله تعالى:
( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(266)
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ }
وهذا المثل مضروبٌ لمن عمل عملًا
لوجه الله تعالى, من صدقةٍ أو غيرها, ثم عمل أعمالًا تفسده.
لو عملت أعمالًا صالحةً, لكن
بعدها عملت أعمالًا فاسدةً, أفسدت العمل السابق, فمثله كمثل صاحب هذا البستان,
الذي فيه من كل الثمرات،
وخصَّ الله منها النخلَ والعنبَ
لفضلهما وكثرةِ منافعهما، لكونهما غذاءً وقوتًا وفاكهةً وحلوى،
وتلك الجنة فيها الأنهارُ
الجاريةُ التي تسقيها من غير مؤونة،
وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته،
ثم إنه إذا أصابه الكبرُ, فضعف عن العمل, وزاد حرصه، وكان له ذريةٌ ضعفاءُ ما فيهم
معاونةٌ له، بل هم كَلٌّ عليه، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة،
فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك
الجنةَ
{ إِعْصَارٌ }
وهو الريح القوية التي تستدير, ثم ترتفع في الجو،
وفي ذلك الإعصار{نَارٌ}
{ فَاحْتَرَقَتْ } تلك الجنة،
فلا
تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن، فلو قدر أن الحزنَ يقتل
صاحبه لقتله الحزن،
كذلك من عمل عملًا لوجه الله,
فإنه سيموت وسيفرح بأنه سيموت, لأنه سيجدها عند الله, وإذا به يأتي يوم القيامة
هباءً منثورًا.
يا للخسارة ويا للخسران!
فإن
أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنةٌ
موصوفةٌ بغاية الحسن والبهاء، وتلك المفسداتُ التي تفسدُ الأعمال, بمنزلة الإعصار
الذي فيه نارٌ، والعبدُ أحوج ما يكون لعمله إذا مات مثلَ كبير السنِّ, إذا كان
عنده أطفالٌ, ولا يستطيعون مساعدته, وأصبح كبيرُ السن لا يستطيع أن يعمل, وإذا
بجنته تصبح نارًا وكان بحالةٍ لا يقدر معها على العمل.
يوم القيامة لا يستطيع أن نعمل,
يوم القيامة تغلق الصحائف, فيجد عمله الذي يؤمله ويأمل نفعه هباءً منثورًا, ووجد
الله عنده, فوفّاه حسابه, أعطاه الحساب كاملًا غير منقوص
{ وَاللَّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ }
فلو علم الإنسان وتصور هذا
الحال, وكان له أدنى مسكةٍ من عقلٍ, لم يقدم على ما فيه مضرتُه ونهايةُ حسرتِه,
ولكن ضعفَ الإيمانِ
والعقلِ, وقلة البصيرةِ, يصيّر صاحبه إلى هذه الحال, التي لو صدرت من مجنونٍ لا
يعقل, لكان ذلك عظيمًا وخطره جسيمًا،
فلهذا أمر الله تعالى بالتفكرِ,
وحثَّ عليه، فقال:
{ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ }
أي: لعلكم تنتبهون, لعلكم تعقلون, لعلكم تنتبهون, لعلكم تتأملون,
لعلكم تتفطنون.
لا تقدم أعمالًا لأحدٍ, قدمها
لربك وستجدها, انسَها, لا تذكرها لأحد, لا تمنن بها, افعلها لله, قدمها لله,
وستجدها.
يقول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَاكَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ)(267)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
يأمر الله عباده المؤمنين بالنفقة من
طيبات ما يسر الله عز وجل لهم من المكاسب.
لم يقل الله لكم اسرقوا وافعلوا
حتى تتصدقوا, لا, بل من طيب ما عندكم.
وهذا ولله الحمد, عملٌ يسيرٌ
سهلٌ على من يسرّه الله عز وجل له.
إذن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَاكَسَبْتُمْ}
هذا الأمر الأول,
(وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)
الأمر الثاني
, فكما منَّ الله عليكم بتسهيل
تحصيله, فأنفقوا منه, شكرًا لله تعالى, وأداءً لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرًا
لأموالكم، واقصدوا في تلك النفقةِ, الطيبَ الذي تحبونه لأنفسِكم،
{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ
مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
ولا تيمموا الرديء الذي لا ترغبونه.
{وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ }
أي لا تأخذونه إلا على وجه الإغماضِ والمسامحةِ, أي لو
أعطاكم إياه أحدٌ, فإنكم لا تريدونه, تتغافلون فيه, تتجاهلون فيه, تأخذونه فقط
تطييبًا لخاطر الآخر, ومسامحةً.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
فهو {غَنِيٌّ } عنكم, وعن نفعِ صدقاتكم وأعمالكم , فكله عائدٌ
إليكم،
ومع هذا فهو {حَمِيدٌ} على ما يأمرُكم به من الأوامرِ الحميدةِ والخصالِ
السديدةِ، فعليكم أن تمتثلوا أوامرَه لأنها قوتُ القلوبِ, وحياةُ النفوسِ, ونعيمُ
الأرواحِ.
ثم قال الله تعالى:
( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ
الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(268 )
وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان
الذي يأمركم بالإمساكِ، ويخوفكم بالفقرِ والحاجةِ إذا أنفقتم، وليس هذا نصحًا لكم،
بل هو غايةُ الغشِّ,
{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ
السَّعِيرِ}
بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم
بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا يضركم،
ومع هذا فهو {يَعِدُكُمْ
مَغْفِرَةً}
لذنوبكم, وتطهيرًا لعيوبكم
{وَفَضْلًا }
وإحسانًا إليكم في
الدنيا والآخرة، من الخلفِ العاجلِ، وانشراحِ الصدرِ, ونعيمِ القلبِ, والروحِ,
والقبرِ، وحصولِ ثوابِها, وتوفيتها يوم القيامة،
وليس هذا عظيمًا عليه, لأنه جل
وعلا
{وَاسِع} الفضل, عظيم الإحسان.
{عَلِيمٌ }
بما يصدر منكم من
النفقاتِ, قليلُها وكثيرُها، سرُّها وعلنُها، فيجازيكم عليها من سعتِه وفضلِه
وإحسانِه، فلينظر العبدُ نفسَه إلى أي الداعيين يميل.
فقد تضمنت هاتان الآيتان أمورًا
عظيمة منها: الحثُّ على الإنفاقِ، وكذلك بيانُ الأسبابِ الموجبةِ لذلك:
- ومنها: وجوبُ الزكاة من
النقدَين, وعروض التجارة كلها، لأنها داخلة في قوله: { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ }
- ومنها: وجوبُ الزكاة في
الخارجِ من الأرضِ, من الحبوبِ والثمارِ والمعادنِ،
- ومنها: أن الزكاةَ على من له
الزرعُ والثمرُ, لا على صاحبِ الأرضِ، لقوله { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ } فمن
أُخرجت له وجبت عليه, أي أخرجت له الأرضُ.
- ومنها: أن الأموالَ المعدةَ
للاقتناءِ من العقاراتِ والأواني ونحوها, ليس فيها زكاةٌ، وكذلك الديونُ والغصوب
ونحوهما إذا كانت مجهولةً، أو عندَ من لا يقدرُ على استخراجِها منه، ليس فيها
زكاةٌ، لأن اللهَ أوجبَ النفقةَ من الأموالِ, التي يحصل فيها النماءُ الخارجُ من
الأرضِ، وأموالُ التجارةِ مواساةٌ من نمائها، وأما الأموالُ التي تكون غير معدةِ
لذلك, ولا مقدورًا عليها, فليس فيها هذا المعنى.
ومنها: أن الرديءَ يُنهى عن
إخراجه, ولا يجزئ في الزكاة.
ثم قال تعالى:
( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ
يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )( 269)
لما أمر تعالى بهذه الأوامر
العظيمة, المشتملة على الأسرار والحكم, وكان ذلك لا يحصلُ لكل أحد، بل لمن منَّ
اللهُ عليه, وآتاه اللهُ {الْحِكْمَةَ}، وهي العلمُ النافعُ, والعملُ الصالحُ,
ومعرفةُ أسرارِ الشرائعِ وحكمِها،
وإن من آتاه اللهُ الحكمةَ فقد
آتاه خيرًا كثيرًا, وأيُّ خيرٍ أعظمُ من خيرٍ فيه سعادةُ الدارين والنجاةُ من
شقاوتهما!
وفيه التخصيصُ بهذا الفضلِ وكونه
من ورثةِ الأنبياءِ، فكمالُ العبدِ متوقفٌ على الحكمةِ، إذ كمالُه بتكميلِ قوتيه
العلميةِ والعمليةِ.
فتكميلُ قوتِه العلميةِ بمعرفة
الحق, ومعرفة المقصود به، وتكميل قوتِه العمليةِ بالعملِ بالخيرِ, وتركِ الشرِّ،
وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول,
فتصبح عنده الإصابةُ بالقول شيئًا تلقائيًّا, يلهمه الله عز وجل, ويفتح عليه, حتى
يكون عنده إصابةٌ بالقول, وإصابةٌ بالعمل, وتنزيلُ الأمورِ منازلها في نفسه وفي
غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك،
ولما كان الله تعالى قد فطر
عباده على عبادته, ومحبة الخير, والقصد للحق، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز
في فطرتهم وعقولهم، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه، انقسم الناس إلى قسمين:
- قسمٌ أجابوا دعوتَهم فتذكروا
ما ينفعهم ففعلوه، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو الألبابِ الكاملةِ، والعقولِ
التامةِ،
- وقسمٌ لم يستجيبوا لدعوتهم، بل
أجابوا ما عرض لفطرتِهم من الفسادِ، وتركوا طاعة ربِّ العبادِ، فهؤلاء ليسوا من
أولي الألبابِ، فلهذا قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا
إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم اجعل هذا الاجتماع
اجتماعاً مرحوماً, واجعل تفرقنا من بعده تفرّقا معصوماً, ولا تجعل معنا شقياً ولا
محروماً.
وصلّى الله وسلّم وبارك على
نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق