الوجه السادس والأربعون من سورة البقرة
يقول تعالى:
( الَّذينَ يَأكُلونَ الرِّبا لا يَقومونَ إِلّا كَما يَقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطانُ مِنَ المَسِّ )
يخبر الله تعالى عن أكلة الربا، ويصفهم بوصف شنيع، فيتكلم عن سوء مآلهم،وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم
( إِلّا كَما يَقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطانُ مِنَ المَس )
أي: يصرعه الشيطان بالجنون،
فيقومون من قبورهم حيارى،
سكارى،مضطربين،
متوقعين لعظيم النكال،وعسر الوبال.
فكما تقلبت عقولهم وقالوا:
( إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبا )
وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله،
أو متجاهل عظيم عناده.
جازاهم الله تعالى من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى:
( لا يَقومونَ إِلّا كَما يَقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطانُ مِنَ المَسِّ)
أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم،
وضعفت آرائهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون بالمجانين في عدم انتظامها، وانسلاب العقل الأدبي عنهم،
فقال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة:
( وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)
إذا قد يكون هذا الوصف حينما يقومون من قبورهم ليوم نشورهم،
هذا القول الأول.
القول الثاني: قد يكون حقيقة،
يكون وصفهم بالمجانين من شدة اهتمامهم بالمال وأخذه بأي طريقة كانت، لايهتمون هل الطرق حلال أو ليست حلال
همهم جمع المال كالمجانين الذين انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية، فخفت أحلامهم وضعفت آرائهم،
وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها.
يقول الله تعالى رادا عليهم:
( وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيع )
لما فيه من عموم المصلحة،
وشدة الحاجة،
وحصول الضرر بتحريمه.
لذلك أحله الله عز وجل.
وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع.
وحرم الربا لما فيه من الظلم وسوء العاقبة.
والربا نوعان:
- ربا النسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة،
ومنه جعل مافي الذمة رأس المال.
- وربا الفضل النوع الثاني وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا.
وكلا الربوين سواء ربا النسيئة أو ربا الفضل كلاهما محرم بالكتاب والسنة والإجماع،
والإجماع على ربا النسيئة، وشذّ من أباح ربا الفضل.
هنالك من الناس من أباح ربا الفضل ومجمعين على ربا النسيئة،
لكن البعض منهم أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة.
حتى الذين أجازوا ربا الفضل هؤلاء شاذين خالفوا النصوص المستفيضة.
بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها.
( فَمَن جاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبه )
أي وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ وإقامة للحجة عليه فانتهى عن فعله وانزجر عن تعاطيه،
( فَلَهُ ما سَلَفَ )
يعني له ماتقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة،
جزاء لقبوله للنصيحة ويجوز له أن لايرجع ماأخذه من الربا.
دل مفهوم الآية أن من ينتهي جوزي بالأول والآخر،
وأمره إلى الله في مجازاته وفي مايستقبل من أموره،
ومن عاد إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة بل أصر على ذلك
( فَأُولئِكَ أَصحابُ النّار )أعوذ بالله ( هُم فيها خالِدون ).
اختلف العلماء رحمهم الله عز وجل في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله والأحسن فيها أن يقال:
هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد مايمنعه ترتب عليه مقتضاه
وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار.
رأيتم أهمية التوحيد؟
أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار،
فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيه بقطع النظر عن كفره.
ثم قال تعالى : ( يَمحَقُ اللَّهُ الرِّبا )
أي يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا،
فيكون سببا لوقوع الآفات فيه، ونزع البركة عنه،
أعوذ بالله هذه الأموال الربوية تنزع منها البركة،
لذلك بعض الأحيان نشتكي أنه ليس عندنا بركة في أموالنا وفي أوقاتنا وفي أولادنا، قد يكون لدينا مال حرام؟
قد يكون دخل علينا بعض الحرام ونحن لا نشعر،
فلابد أن نتحرى في أموالنا قد يكون سبب في وقوع الآفات ومنها نزع البركة عنه وإن أنفق منه لم يؤجر عليه.
حتى صدقاتنا لا نؤجر عليها إذا كانت من مال حرام بل يكون زادا له إلى النار.
( وَيُربِي الصَّدَقاتِ )
أي ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه،
يعني على العكس تماما من الصدقات أن ينميها أو يزيد بركتها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل.
نعم المتصدق ما يريد إلا الله والدار الآخرة فيعطيه الله عزوجل من جنس عمله
بعكس المرابي الذي لايهمه إلا الدنيا، ولايبتغي إلا الدنيا، ولايرجو إلا الدنيا، يركض ويلهث وراء هذه الدنيا فيكون مصيره خالدا مخلدا في النار.
عقيدة أهل السنة والجماعة تقول إذا كان ليس لديه شركيات فإنه بإذن الله عزوجل لن يخلد في النار.
فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي،
فجوزي بذهاب ماله.
والمحسن إليهم بأنواع الإحسان فيحسن الله عزوجل عليه كما أحسن على عباده
( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ )
لنعم الله عزوجل.
ونحن للأسف الشديد ولاحول ولاقوة إلا بالله عندنا كفر عجيب بالنعمة لانشكر الله تعالى على النعمة، نتقلب بنعم الله سبحانه وتعالى ومع ذلك دائما نتضجر ودائما نشتكي ودائما نتألم ونحن نتقلب بنعمة الله سبحانه وتعالى (وقليل من عبادي الشكور)
القليل يشعر بالفعل أنه يتقلب بنعمة الله سبحانه وتعالى دائما راضي مطمئن مسلم أمره لله عزوجل راضي بكل شيء يأتيه.
بالعكس يرى نعم الله عزوجل عليه أعظم.
( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ )
الله عز وجل لن يحب أبدا أي أحد يكفر بالنعمة،
أعظم كفر للنعمة ماذا؟
أن نجعل هذه النعمة ونعملها بالمعصية.
هذا أكبر كفر للنعمة.
العين مثلا البصر هي نعمة عظيمة
كيف ننظر بها إلى الحرام؟
هذا أعظم كفر للنعمة.
هذا أعظم كفر للنعمة.
السمع نعمة عظيمة كيف نسمع بها الحرام؟
هذا أعظم كفر للنعمة.
هذا أعظم كفر للنعمة.
وهلم جرا.
لا يؤدي ما أوجب الله عليه من الصدقات،
ولا يسلم منه ومن شره عباد الله عز وجل
( أَثيم )
قد فعل ماهو سبب لإثمه وعقوبته،
كثير الإثم،سريع الإثم،
يتجرأ على الله عزوجل بالذنوب والمعاصي.
ولما ذكر أكلة الربا فكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لن يصدر منهم ماصدر.
لو كان عندهم يقين بوعد الله وبما عندالله ماصدر منهم ماصدر.
ونحن نقول:إن أكثر أسباب المعاصي والذنوب ماذا ؟ ماهو؟
عدم اليقين بالله سبحانه وتعالى
ذكر حالة المؤمنين وأجرهم لما انتهى من حالة أكلة الربا،
بدأ يذكر حال المؤمنين وأجرهم،
وخاطبهم ونهاهم عن أكلة الربا لو كانوا مؤمنين،
وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره،
(وذروا مابقي من الربا)
اتركوا أي شيء عندكم من الربا وأمرهم أن يتقوه.
ومن جملة تقواه أن يذروا مابقي من الربا، أي المعاملات الحاضرة والموجودة، وأما ماسلف فمن اتعظ عفى الله عنه ماسلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله تعالى ولم يقبل نصيحته ومشاق لربه ومحارب له وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر.
( وَإِن تُبتُم )
يعني عن الربا،
( فَلَكُم رُءوسُ أَموالِكُم )
أي انزلوا عليها، اثبتوا عليها
( لا تَظلِمونَ )
من عاملتموهم بأخذ الزيادة التي هي الربا
( وَلا تُظلَمونَ )
بنقص رءوس أموالكم،
لن نظلمكم وإنما ستأخذون رءوس أموالكم.
وإن كان المدين
( ذو عُسرَةٍ )
يعني لايجد وفاء،
لايستطيع الآن أن يوفي، لايستطيع الآن أن يسدد،
عاجز الآن عن التسديد
( فَنَظِرَةٌ إِلى مَيسَرَةٍ )
نجعل له وقت للإنتظار ليس هناك مشكلة بالعكس نعطيه السعة من الوقت، ننظره من الإنظار وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد مايوفي به، حتى يجد ما يستطيع أنه يسدد به هؤلاء.
( وَأَن تَصَدَّقوا خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمون )
إما بإسقاطها أو اسقاط بعضها.
وإن تصدقتم وتغافلتم عن حقكم أو أقل شيء أسقطتم بعضها فهذا لاشك أن لكم أجر عظيم.
( خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمون )
حقيقة العلم وهي الإيقان بأن ماعند الله عزوجل هو خير وأبقى.
ثم قال الله بعدها:
(وَاتَّقوا يَومًا تُرجَعونَ فيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ)
(وَاتَّقوا يَومًا تُرجَعونَ فيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمونَ)
وهذه الآية من آخر مانزل من القرآن الكريم وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها من الوعد على الخير،
والوعيد على فعل الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير، والجلي والخفي،
وأن الله لايظلمه مثقال ذرة أوجب عليه الرغبة والرهبة،
وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لاسبيل إلى ذلك.
نسأل الله عزوجل أن ينفعنا بما علمنا.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق