الوجه الثامن والأربعون من سورة البقرة
ويعتبر ختام سورة البقرة
نسأل الله عز وجل أن يحسن لنا الختام
يقول تعالى :
( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283 ) .
( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ )
إي إن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتباً يكتبُ بينكم ويحصل به التوثق
( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ )
أي يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه صاحب الحق تكون عنده هذه الوثيقة
يقبضها من هو صاحب الحق
وتكون وثيقة عنده
حتى متى ؟
حتى يأتيه حقه
ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق
ماهي التي يحصل منها التوثق ؟
الرهن المقبوضة
ودل أيضاً على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رُهنت به كان القول قول المرتَهَن
نأخذ قول مين ؟
نأخذ قول المرتهن
ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضاً عن الكتابة في توثق صاحب الحق فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رُهنت به لم يحصل المعنى المقصود
ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضراً وسفرا
وإنما نص الله على السفر
لأنه في مظنة الحاجة إليه
لعدم الكاتب فيه
بعض الأحيان السفر لا يحصل فيه كاتب أصلاً ولا يوجد فيه كاتب
هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه يحب أن يتوثق لحقه
فإن كان صاحب الحق آمناً من غرينه آمناً من غرينه يجد الأمان معه وأحب أن يعاملهُ من دون رهناً فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملاً غير ظالماً له ولا باخساً حقه
بعض الأحيان يعني لا يكون بينهم رهن من شدة قوة العلاقة
يجد أن العلاقة أقوى من أن يكون بينهم رهن
فهذا لاشك مَحمَده
لكنه الآخر يتقي الله ربه ولا يبخس من شيئا في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان
( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ )
لأن الحق مبنيٌ عليها لا يثبت بدونها
فكتمها من أعظم الذنوب لانه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب
اذا أنكرها وجحدها فهو كاذب ويترتب على ذلك فوات حق من له حق
ولهذا قال تعالى :
( وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ )
مطلع على كل شيء سبحانه
وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنه التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمه ومصالح عميمه دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله عز وجل لهم لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم لاشتمالها على العدل والمصلحة وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات وانتظام أمر المعاش فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناءً عليه
ثم يقول الله تعالى:
( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 284 )
تعتبر الآية الأخيرة هي أخر آية تكلمت عن التعامل مع الأمور المالية
( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ )
هذا إخبار من الله تعالى أن له ما في السموات وما في الأرض الجميع خلقهم الجميع رزقهم الجميع دبر أمورهم دبر مصالحهم الدينية والدنيوية
فكانوا ملكاً له وعبيداً له لا يملكون لأنفسهم ضراً و لا نفعا و لا موتاً و لا حياة و لا نشورا
وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بماذا بحكمته وعدله وإحسانه يتصرف فينا دائماً بثلاثة أمور لا ننساها
يتصرف فينا ويتعامل معنا :
بحكمته وعدله وإحسانه
وقد أمرهم الله عز وجل ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه
( فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ )
ولمن أتى بأسباب المغفرة
( وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ )
بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
لا يعجزه شيء بكل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه
ثم يقول الله تعالى بعدها:
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 ) .
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ }
يخبر الله تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنون معه وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة
فأخبر أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله وهذا يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص
ويتضمن الإيمان بالملائكة الذي نصت عليهم الشرائع جملةً وتفصيلا وعلى الإيمان بجميع الرسل والكتب بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي وأنهم لا يفرقون بين أحدٍ من رسله بل يؤمنون بجميعهم لأنهم وسائط بين الله وبين عباده
فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله
{وَقَالُوا سَمِعْنَا }
ما أمرتنا به وما نهيتنا عنه يا لله نحن سمعنا
{وَأَطَعْنَا }
لما سمعنا أطعنا
ماهي النتيجة عندما سمعنا ؟
النتيجة أننا أطعنا
إذاً يا أخوة أنتم الأن يومياً نسمع وصايا نسمع إرشادات نسمع توجيهات هذا السمع يا اخوة ما هو المطلوب منه ؟
الإطاعة
طاعة الله سبحانه وتعالى قوله عز وجل :
{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }
عندما يأتيك أمر مباشره قل سمعنا وأطعنا من قلبك أخرجها من قلبك لعل الله عز وجل يقبلها ولعل الله عز وجل أن يستجب لك
وأطعنا لك بذلك ولم يكونوا ممن قالوا أعوذ بالله سمعنا وعصينا لأنه يوجد مجموعه يقولون سمعنا وعصينا
ولما كان العبد لابد له أن يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام قالوا غفرانك نسألك
{ غُفْرَانَكَ}
إنا نسألك مغفرةً لم اصدر منا من التقصير والذنوب ومحو ما اتصفنا به من العيوب
{ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
يا رب إليك المرجع لجميع الخلائق فتجازيهم بما عملوا من خيراً وشر
ثم يقول الله تعالى :
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 ) .
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }
شق ذلك على المؤمنين لما توهموا أنما يقع في القلب من الأمور اللازمة و العارضة والمستقرة وغيرها مؤاخذون به
فأخبرهم الله عز وجل بهذه الآية أنه :
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا )
أي أمراً تسعه طاقتها ولا يكلفها ويشق عليها سبحانه جل وعلا
و ما جعل عليكم في الدين من حرج
جميع الأوامر التي أمرنا الله بها كلها تحت طاقتنا لا يأمرنا الله عز وجل بأمرٍ فوق طاقتنا
فأصل الأمور والنواهي ليست من الآأمور التي تشق على النفوس بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان وحمية عن الضرر فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمةً وإحسانا
لابد أن نعرف هذا أنه رحمةً وإحسانا ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل
إما بإسقاطه عن المكلف وبإسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيره
ثم أخبر الله تعالى ان لكل نفس ما كسبت من الخير وعليها ما كسبت من الشر فلا تزر وازرة وزرا أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره
لن تذهب حسناتك إلى غيرك إلا إذا أذهبتها أنت
وبالإتيان بكسب في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بأقل سعي منه بأبسط سعي منه بل بمجرد نية القلب
وأتى بكلمة اكتسب في عمل الشر
للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الانسان حتى يعمله ويحصل سعيه عليه
ولما أخبر الله تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنون معه وأن كل عامل سيجازى بعمله وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا
أخبر من دعاء المؤمنين بذلك وقد أخبر النبي صل الله عليه وسلم أن الله قال : قد فعلت قد فعلت
اجابةً لهذا الدعاء
{ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
الفرق بينهما :
النسيان ذهول القلب عن أمراٍ به فيتركه نسيانا
أما الخطأ أن يقصد شيئاً يجوز له أصله ثم يقع فعله على ما لا يجوز فعله
فهذان قد عفى الله عنهما عن هذه الأمه
ما يقع بهما رحمةً بهم وإحساناً لهم
فعلى هذا من صلى بثوب مغصوبٍ أو نجس ٍ أو قد نسيَ نجاسةً على بدنه أو تكلم في الصلاة ناسيا أو فعل مفطراً ناسيا أو فعل محظوراً من محظورات الاحرام التي ليس فيها أتلافاً ناسيا فإنه معفواً عنه وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا
وكذلك لو أخطأ فأتلف نفساً أو مالاً فليس عليه إثم
لإله إلا الله
وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف
وكذلك المواضع التي تجب فيها التسميه إذا تركها الإنسان ناسياً لا تضرها
{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}
أي تكاليف شاقة
{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
وقد فعل الله تعالى
وقد فعل الله تعالى
فإن الله خفف عن الامه في الأوامر من الطهارات واحوال العبادات مالم يخففه على غيرها
{رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ }
وقد فعل
وله الحمد سبحانه
{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا }
فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور
والرحمة يحصل بها صلاح الأمور
{أَنْتَ مَوْلانَا }
يا ربنا انت مليكُنا و إلاهُنا التي لم تزل ولايتك إيانا منذ اوجدتا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلةً عدد الأوقات
ثم انعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة وهي نعمة الإسلام نعمة الهداية نعمة التوفيق
وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبعاً لها
فنسألك يا ربنا و يا مولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين الذين كفروا بك وبرسلك وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك
فنصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم يا لله وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر
و الحمد الله رب العالمين
أسأل الله يا ذا الجلال والإكرام أن كما يسرت في سورة البقرة أن تيسر لنا يا ذا الجلال والإكرام في جميع سور القرآن الكريم ونسألك يا الله أن تقبل منا هذا العمل
يا لله إن كان من خيرٍ فمنك وحدك وإن كان من شرٍ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منهم بريئان
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق