الأحد، يوليو 10، 2016

تفريغ سورة آل عمران من آية 1 إلى آية 9






بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



الوجه الأول من سورة آل عمران



نهنّئُكم بالانتهاءِ من تفسيرِ سورةِ البقرةِ.

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن تكونَ حجةً لنا لا علينا، يومَ أن نلقاكَ، يا ذا الجلالِ والاكرامِ.


اللهُمَّ اجعلِ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبِنا، ونورَ صدورِنا، وجلاءَ أحزانِنا، وذهابَ همومِنا وغمومِنا، وقائدَنا ودليلَنا الى جناتِكَ، جناتِ النعيمِ.

اللهم ذكِّرْنا منه ما نُسِّينا وعلِّمنا منه ما جهلْنا، وارزقْنا تلاوتَه آناءَ الليلِ، وأطرافَ النهارِ، على الوجهِ الذى يرضيكَ عنَّا.



يقولُ اللهُ تَعالَى:
(الم )( 1 ) ( اللَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ الحَيُّ القَيّومُ )( 2 )

نزل صدرُها إلى بضعٍ وثمانين آيةً في مخاصمةِ النَّصارَى.

أغلبُ ما تتحدثُ عنه السورةُ هو النَّصارَى،
-  مثلما كان في سورة البقرة؛ لما تحدثت عن اليهودِ، وخصَّت أغلبَ حديثِها عنهم -
ومخاصمةُ النَّصارَى وإبطالُ مذهبهم، ودعوتُهم إلى الدخولِ في الدينِ الحقِّ، دينِ الإسلامِ، كما نزلَ صدرُ البقرةِ في محاجةِ اليهودِ.

افتتحها تبارك و تَعالَى بالإخبارِ بألوهيتِهِ، وأنه الإلهُ الذى لا إله إلا هو الذى لا ينبغي التألُّهُ والتعبُّدُ إلا لوجهِهِ،

لماذا؟
ما موقفُ النَّصارَى من اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى؟! ما موقفُهم من المسيحِ؟!
من اتَّخذَ عيسى إلهاً مع اللهِ عزَّ وجلَّ فهو باطلٌ، واللهُ هو الإلهُ الحقُّ.

حتى نعرفَ المناسبةَ؛ لماذا ابتدأت وافتتحت سورةُ آل عمرانَ بتنزيهِ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى؟

فكل معبودٍ سواهُ فهو باطلٌ، والله لا إله إلا هو الحقُّ المتصفُ بصفاتِ الألوهيةِ التي مرجعُها الى الحياةِ والقيَّوميةِ.

{ اللَّهُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ الحَيُّ القَيّومُ }:
هذان اسمان عظيمان جدًا، اختُتِمت بهما أعظمُ آيةٍ في كتابِ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى.

فـَ { الحَيُّ }:
من له الحياةُ العظيمةُ الكاملةُ المستلزمةُ لجميعِ الصفاتِ، التي لا تتمُّ ولا تكملُ الحياةُ إلا بها، كالسمعِ والبصرِ والقدرةِ والقوةِ والعظمةِ والبقاءِ والدَّوامِ والعزِّ الذى لا يرامُ، هذا معنى كلمةِ الحيّ.

وَ{ القَيّومُ }:
الذى قام بنفسهِ، فاستغنى عن جميعِ مخلوقاتِهِ، وقام بغيرِه فافتقرَتْ إليه جميعُ مخلوقاتِه، في الإيجاد والإعداد والإمدادِ، فهو الذى قام بتدبير الخلائقِ وتصريفِهِم، تدبيرٍ للأجسامِ وللقلوبِ وللأرواحِ.

افتقرنا جميعًا إلى اللهِ عزَّ و جلَّ!

الذين يعظِّمون الذاتَ الإنسانيةَ، لا!
نحن فقراءُ، نحن بحاجةٍ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.

ومن قيامِهِ  تَعالَى بعباده ورحمته بهم، أن نزَّل على رسولِهِ مُحمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الكتابَ، الذي هو أجلُّ الكتبِ وأعظمُها، المشتملُ على الحقِّ.

أعظمُ تدبيرٍ من اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، وأعظمُ رحمةٍ أنَّه أنزل الينا أعظمَ كتابٍ، المشتملِ على الحقِّ في أخبارِهِ وأوامرِهِ ونواهِيه،
فما أخبر به صدقٌ، وما حكم به فهو العدلُ، وأنزله بالحقِّ ليقوم الخلقُ بعبادة ربِّهم، ويتعلَّموا كتابَه.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ )( 3 )

{ نَزَّلَ عَلَيكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَينَ يَدَيهِ }:
أي مصدقًا لما بين يديه، من الكتبِ السَّابقةِ.
فهو المزكِّي لها، فما شهدَ له فهو المقبولُ، وما ردَّهُ فهو المردودُ، وهو المطابقُ لها في جميعِ المطالبِ التي اتَّفقَ عليها المرسلون، وهى شاهدةٌ له بالصِّدقِ.

فأهلُ الكتابِ لا يمكنهم التَّصديقُ بكتبِهم، إن لم يؤمنوا بهذا الكتابِ، وهو القرآنُ، فإنَّ كفرَهم به ينقضُ إيمانَهم بكتبِهم.

{ وَأَنزَلَ التَّوراةَ وَالإِنجيلَ }:
أنزل التوراةَ على موسَى، والإنجيلَ على عيسَى عليهم السَّلامُ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ )( 4 ) 

{ مِن قَبلُ }:
من قبلِ إنزالِ القرآنِ.

{ هُدًى لِلنّاسِ }:
الظاهرُ أنَّ هذا راجعٌ لكل ما تقدَّمَ،
أي: أنزلَ اللهُ القرآنَ والتوراةَ و الإنجيلَ هدىً للناسِ من الضلالِ، فمن قبلَ هدى اللهِ فهو المهتدي، ومن لم يقبلْ ذلك بقى على ضلالِهِ.

{ وَأَنزَلَ الفُرقانَ }:
أي: الحججَ والبيناتِ، والبراهينَ القاطعاتِ، الدالةِ على جميعِ المقاصدِ و المطالبِ.
وكذلك فصَّلَ وفسَّرَ ما يحتاجُ إليه الخلقُ، حتَّى بقيت الأحكامُ جليةً وظاهرةً، فلم يبقَ لأحدٍ عذرٌ ولا حجةٌ، لمن لم يؤمنْ بهِ وبآياتِهِ.

فلهذا قال:
{ إِنَّ الَّذينَ كَفَروا بِآياتِ اللَّهِ لَهُم عَذابٌ شَديدٌ }: أي: بعدما بيَّنَها ووضَّحَها، وأزالَ العللَ، ثم يكفرون بها.

{ لَهُم عَذابٌ شَديدٌ}: لا يقدرُ قدرَه إلا الله، ولا يدركُ وصفَهُ إلا اللهُ،  - يا رحمَن رحمتَك –

{ وَاللَّهُ عَزيزٌ}:
قويٌّ لا يعجزُهُ شيءٌ.

{ ذُو انتِقامٍ }:
ممَّنْ عصاهُ.

الآن، اللهُ عزَّ وجلَّ يُبارَزُ بالمعاصي، ويُجاهَرُ بها، والناسُ تتساقطُ في الفتنِ، تتساقطُ تساقطًا عظيمًا!

نسألُ اللهَ أن يعفوَ عنَّا، وأن يغفرَ لنا!
اللهم خُصَّنا برحمةٍ من عندك، اللهم مُنَّ علينا برحماتك يا ذا الجلال والإكرام!


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)( 5 )

{ إِنَّ اللَّهَ لا يَخفى عَلَيهِ شَيءٌ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ }:
لا يخفى عليه حالُك، ولا أمرُك، لا تخفى عليه مشكلتُك، لا يخفى عليه من ظلمَك، أو آذاك، أو جرحَك، لا يخفى عليه جلَّ وعَلَا، شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ.

لماذا نتعلَّقُ بغيرِه؟ لماذا نرجو من غيرِه؟ لماذا نطلبُ من غيرِه؟ سبحانه جلَّ وعَلَا.

هو قريبٌ لمن دعاهُ، قريبٌ لمن استجابَ لأوامرِهِ، قريبٌ سبحانه جلَّ وعَلَا،
اقتربْ إليه، هو لطيفٌ سبحانه جلَّ وعَلَا، إن الله لطيفٌ بالعبادِ.

{ إِنَّ اللَّهَ لا يَخفى عَلَيهِ شَيءٌ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ }:
وهذا فيه تقريرُ إحاطةِ علمِهِ بالمعلوماتِ كلِّها، جليِّها وخفيِّها، ظاهرِها وباطنِها.

اللهُ عزَّ وجلَّ يعلم ما في قلبِك، يعلمُ ما تريدُ، وماذا تشتكي، وممَّن تتألمُ، ومن الذي أحزنَك، ومن الذي آلمَك، ومن الذي أبكاك، يعلمُ سُبحانَهُ 

{ لا يَخفى عَلَيهِ شَيءٌ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ }
يعلمُ ما في الأجنَّةِ، يعلمُ ما في البطونِ، التي لا يدركُها بصرُ المخلوقين، ولا ينالُها علمُهم.

وهو  تَعالَى يدبِّرُها بألطفِ تدبيرٍ، ويقدرها بأجمل تقدير،

حتَّى لو أننا نرَى ظاهرَ الشيءِ ليس فيه لطفٌ، ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لطيفٌ بعبادِه.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( 6 )

{هُوَ الَّذي يُصَوِّرُكُم فِي الأَرحامِ كَيفَ يَشاءُ}:
من كامل الخلق وناقصه، وحسن وقبيح، وذكر وأنثى.

{لا إِلهَ إِلّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ}:
تضمَّنت هذه الآياتُ تقريرَ إلهيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإبطالَ إلهيةِ ما سواهُ، وفى ضمنِ ذلكَ ردٌّ على النَصارَى، الذين يزعمون إلهيةَ عيسَى بن مريمَ عليه السَّلامُ.

وتضمَّنَت إثباتَ حياتِهِ الكاملةِ، وقيُّوميَّتِهِ التامَّةِ، المتضمنتين جميع الصفاتِ المقدسةِ, وإثباتِ الشرائعِ الكبارِ، وأنَّها رحمةٌ وهدايةٌ للناسِ، وتقسيمُ الناس الى مهتدٍ وغيرِه، وعقوبةٌ من لم يهتدِ بها، وتقريرُ سعةِ علمِ الباري، ونفوذِ مشيئتِهِ وحكمتِهِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) ( 7 )

 { هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ مِنهُ آيَاتٌ }:
أي: القرآنُ العظيمُ كلُّه محكمٌ.

{ مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ }:
فهو مشتملٌ على غايةِ الإتقانِ والإحكامِ والعدلِ والإحسانِ.

{هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ }:
كلُّهُ متشابهٌ في الحسنِ والبلاغةِ، وتصديقِ بعضِهِ لبعضٍ، ومطابقتِهِ لفظًا ومعنىً.

وأما الإحكامُ والتشابُهُ:
فانَّ القرآنَ كما ذكرَ اللهُ عزَّ وجلَّ: { مِنهُ آياتٌ مُحكَماتٌ } واضحاتُ الدلالةِ، ليس فيها شبهةٌ ولا إشكالٌ.

{هُنَّ أُمُّ الكِتابِ}:
يعنى أصلُهُ الذى يرجعُ إليه كلُّ متشابهٍ، وهي معظمُهُ بل أكثرُهُ.

ومنه آياتٌ {أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}:
أي: يلتبسُ معناها على كثيرٍ من الأذهانِ، لكونِ دلالاتِها مجملةً، أو يتبادرُ إلى بعضِ الأفهامِ، غيرُ المرادِ منْها.

فالحاصلُ أنَّ منْها آياتٌ بينةٌ واضحةٌ لكلِّ واحدٍ، وهى الأكثرُ التي يرجعُ إليها،
ومنهُ آياتٌ تشكلُ على بعضِ الناسِ، فالواجبُ في هذا أن يُردَّ المتشابهُ إلى المحكمِ، والخفيُّ إلى الجليِّ، فبهذهِ الطريقةِ، يصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، ولا يحصلُ فيه مناقضةٌ ولا معارضةٌ.

ولكنَّ الناسَ انقسموا الى فرقتين:
{فَأَمَّا الَّذينَ في قُلوبِهِم زَيغٌ }:
أي: ميلٌ عن الاستقامةِ، بأن فسدَتْ مقاصدُهُم، وصارَ قصدُهم الغيُّ والضلالُ وانحرفَتْ - ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ -  قلوبُهُم عن طريقِ الهدى والرشادِ.

{فَيَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ }:
أي: يتركون المحكمَ الواضحَ، ويذهبون إلى المتشابهِ، ويعكسون الأمرَ، فيحملون المحكم َعلى المتشابهِ.

فالأصلُ أننا نرجعُ المتشابهَ الى المحكمِ، بينما هم يعملون بالعكسِ.

ما هو مقصدُهم وغايتُهم وهدفُهم؟
{ ابتِغاءَ الفِتنَةِ }:
لمن يدعونَهم لقولِهم، فإن المتشابهَ تحصلُ به الفتنةُ بسببِ الاشتباهِ الواقعِ فيهِ .

وهذا ما هو حاصلٌ الآنَ، نلاحظُ منْ يأخذُ الدليلَ، ويلويهِ على ما يريدُ، وما يريدُهُ هواهُ، ونفسُهُ،
و إلَّا، فالمحكمُ الصريحُ ليسَ محلًا للفتنةِ، لوضوحِ الحقِّ فيهِ،  لمن قصدَهُ واتبعَهُ.

{ وَابتِغاءَ تَأويلِهِ وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلَّا اللَّهُ }:
للمفسِّرين في الوقوفِ على { اللَّهُ ِ}، من قولِهِ: { وَما يَعلَمُ تَأويلَهُ إِلَّا اللَّهُ ِ} قولانِ:
- جمهورُهُم يقفون عندَها،
- وبعضُهُم يعطفُ عليها { وَالرّاسِخونَ فِي العِلمِ}،
وذلك كلُّهُ محتملٌ.

- التفسيرُ الأولُ، فإنَّ التأويلَ إنْ أريدَ به علمُ حقيقةِ الشيءِ، وكنهِهِ، كانَ الصوابُ الوقوفَ على { إِلَّا اللَّهُ }

لأنَّ المتشابهَ الذى استأثرَ اللهُ بعلمِ كنهِهِ وحقيقتِهِ، نحو حقائقِ صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ وكيفيَّتِها، وحقائقِ أوصافِ ما يكونُ في اليومِ الآخرِ، ونحوِ ذلك، فهذهِ لا يعلمُها إلا اللهُ عزَّ وجلَّ، ولا يجوزُ التعرُّضُ للوقوفِ عليها، لأنَّه تعرُّضٌ لما لا يمكنُ معرفتُهُ.


كما سُئِلَ الإمامُ مالكُ رحمَهُ اللهُ عن قولِهِ: { الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ }، فقالَ السائلُ: كيف استوَى؟
فقالَ مالكُ: الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ .

فهكذا يقالُ في سائرِ صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لمن سألَ عن كيفيتِها، كما قالَ الإمامُ مالكُ، تلك الصفةُ معلومةٌ، وكيفيتُها مجهولةٌ، والإيمانُ بها واجبٌ، والسؤالُ عنها بدعةٌ، وقد أخبرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ بها، ولم يخبرْنا بكيفيتِها .

فيجبُ علينا الوقوفُ على ما حُدَّ لنا، فأهلُ الزيغِ يتبِعُون هذه الأمورَ المشتبهاتِ، تعرُّضًا لما لا يعني، وتكلفًا لما لا سبيلَ لهم إلى علمِهِ، لأنَّه لا يعلمُها إلا اللهُ،

وأمَّا الراسخون في العلمِ، فيؤمنون بها، ويكلُون المعنى إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، فيسلِمُون ويسلَمُون.

- أما التفسير الثاني، فإن أريدَ بالتأويلِ: التفسيرُ والكشفُ والإيضاحُ، كان الصوابُ عطفَ { الرّاسِخونَ } علَى { اللَّهُ }،
فيكونُ اللهُ قد أخبرَ أنَّ تفسيرَ المتشابهِ وردِّهِ الى المحكمِ، و إزالةِ ما فيهِ من الشُّبهِ لا يعلمُها إلا هو سُبحانَهُ وتَعالَى.

والراسِخون في العلمِ يعلمون أيضًا، فيؤمنون بها، ويردُّونَها للمحكمِ، ويقولون: { كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنا }

إذن من الذى يقول هذا؟
الراسخون يقولون: كلٌّ من المحكمِ و المتشابهِ { مِن عِندِ رَبِّنا }

وما كان من عندِهِ، فليسَ فيه تعارضٌ ولا تناقضٌ، بل هو متفقٌ يصدقُ بعضُهُ بعضًا ويشهدُ بعضُهُ لبعضٍ،

وفيه تنبيهٌ على الأصلِ الكبيرِ، وهو أنَّهم إذا علموا أنَّ جميعَهُ من عندِ اللهِ، وأشكلَ عليهم مجملُ المتشابهِ علمُوا يقينًا أنَّهُ مردودٌ إلى المحكمِ، و إنْ لم يفهموا وجهَ ذلك .

ولما رغَّبَ  تَعالَى في التسليمِ و الإيمانِ بأحكامِهِ، وزجرَ عن اتباعِ المتشابهِ،
قالَ: {وَما يَذَّكَّرُ}
أي: ما يتعظُ بمواعظِ اللهِ، ويقبلُ نصحَهُ وتعليمَهُ.

{ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }:

أي: أهلُ العقولِ الرزينةِ، لبُّ العالمِ، وخلاصةُ بني آدمَ، يصلُ التذكيرُ إلى عقولِهم، فيتذكَّرُون ما ينفعُهم فيفعلونَهُ، وما يضرُّهُم فيتركونَهُ،

وأمَّا من عداهم فهم القشورُ، التي لا حاصلَ لها، ولا نتيجةَ تحتَها، لا ينفعُهُم الزَّجرُ والتذكيرُ، لخلوِّهم من العقولِ النافعةِ.




يقولُ اللهُ تَعالَى:

( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)( 8 )


ثم أخبرَ اللهُ تَعالَى عن الراسخينَ في العلمِ، أنَّهم يدعون اللهَ عزَّ وجلَّ ويقولون:

{ رَبَّنا لا تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَنا }

الهدايةُ من أعظمِ النعمِ، وأجملِها، بل من أرسخِ النِّعمِ، وأقواها، وأعظمِها.

{ رَبَّنا لا تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَناُ }
هديتنا إلى الحقِّ، و دللتنا إليهِ، وأعلمتَنا الصراطَ المستقيمَ، وجعلتَ قلوبَنا من أولِي الألبابِ، أي: لا تُمِلْها عن الحقِّ، جهلًا وعنادًا منَّا.

فغالبًا الذى يميلُ عن الحقِّ، إمَّا جهلًا أو عنادًا،
بل اجعلْنا مُستقيمين هادِين مُهتدِين، فثبتْنا على هدايتِكَ، وعافِنا ممَّا ابتليتَ به الزائِغِين.

{ وَهَب لَنا مِن لَدُنكَ رَحمَةً }:
أي: عظيمةً، توفِّقُنا بها للخيراتِ، وتعصمُنا بها من المنكراتِ.

{إِنَّكَ أَنتَ الوَهّابُ}:
واسعُ العطايَا والهباتِ، كثيرُ الإحسانِ، الذي عمَّ جودُكَ جميعَ البريَّاتِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) ( 9 )

{ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَومٍ لا رَيبَ فيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخلِفُ الميعادَ }:
فيجازيهم بأعمالِهم، حسنِها و سيِّئِها.

وقد أثنَى اللهُ  تَعالَى على الراسخينَ في العلمِ،
اللهُمَّ اجعلنا منهم، بمنِّكَ وكرمِكَ وجودِكَ وفضلِكَ واحسانِكَ،  يا ذا الجلالِ والإكرامِ!

لقد أثنى اللهُ تَعالَى على الراسخين في العلمِ، بسبعِ صفاتٍ، هي عنوانُ سعادةِ العبدِ:

أما إحداها: العلمُ الذى هو الطريقُ الموصلُ الى اللهِ، المبينُ لأحكامِهِ وشرائعِهِ.

- وأنتم كونُكم تلتحقون بهذا البرنامجِ، وبهذا المشروعِ، فأنتم تطلبون أعظمَ علمٍ لأعظمِ كتابٍ،
أسألُ اللهَ أن تكونوا من الراسخين في العلمِ، فالصفةُ الأولى هي العلمُ -

الصفةُ الثانيةُ: الرسوخُ في العلمِ، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجردِ العلمِ،
فان الراسخَ في العلمِ يقتضي أن يكونَ عالمًا محققًا، وعارفًا مدققًا، قد علَّمَهُ اللهُ ظاهرَ العلمِ وباطنَهُ، فرسخَتْ قدمُهُ في أسرارِ الشريعةِ، علمًا وحالًا وعملًا.

أما الصفةُ الثالثةُ: أنَّه وصفَهُم بالإيمانِ، بجميعِ كتابِهِ، وردِّ المتشابهِ الى المحكمِ، بقولِهِ:
{ يَقولونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّناِ }

الرابعةُ: أنَّهم سألوا اللهَ العفوَ والعافيةَ، مما ابتُليَ به الزائِغُون المنحرِفُون.

الخامسةُ: اعترافُهم بمنَّةِ اللهِ تَعالَى عليهِم، بالهدايةِ وذلك قولُهُ: { رَبَّنا لا تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَنا }

السادسةُ: أنَّهم مع هذا سألوهُ رحمتَهُ، المتضمنةَ حصولَ كلِّ خيرٍ، واندفاعَ كلِّ شرٍّ، وتوسَّلوا إليهِ باسمِهِ الوهَّابِ

{ رَبَّنا لا تُزِغ قُلوبَنا بَعدَ إِذ هَدَيتَنا ُوَهَب لَنا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهّابُ }



السابعةُ: أنَّه أخبرَ عن إيمانِهِم، وإيقانِهِم بيومِ القيامةِ، وخوفِهِم منْهُ، وهذا هو الموجبُ للعملِ الرادعِ عن الزللِ.



نسألُكَ يا اللهُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ أن تجعلَنَا منهم.



سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.

اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ










































ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق