بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه الثاني من سورة آل عمران
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ وأُولَٰئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ)( 10 )
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا}:
يخبر الله عزَّ وجلَّ أنَّ الكفار به وبرسله، الجاحدين
بدينه وكتابه، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم،
وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئًا، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي تردُ عليهم، ويقولون:
{ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
فكانوا يستدفعون بها.
لكن يوم القيامة، يبدو لهم من الله، ما لم يكونوا يحتسبون
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم
مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
وليس للأولاد والأموال قدرٌ عند الله، إنما ينفع
العبدَ إيمانُه باللهِ، وأعمالُه الصالحةُ.
كما قال تَعالَى:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}
و أخبر هنا أن الكفارَ
{هُمْ وَقُودُ النَّارِ}:
أي: حطبُها، الملازمون لها، دائمًا وأبدًا،
وهذه الحالُ التي ذكر الله تَعالَى، أنها لا تغني الأموال
ولا الأولاد عن الكفار شيئًا، سنتُه الجاريةُ في الأمم السابقة.
كما جرى لفرعون، ومن قبله، ومن بعده، من الفراعنةِ،
والطغاةِ، وأربابِ الأموالِ، والجنودِ،
لما كذبوا بآياتِ اللهِ، وجحدوا ما جاءت به الرسل، وعاندوا، أخذهم الله بذنوبهم، عدلًا منه لا ظلمًا،
والله شديد العقاب، على من أتى بأسبابِ العقابِ؛ وهو الكفرُ والذنوبُ على اختلاف أنواعِها، وتعدد مراتبها.
لما كذبوا بآياتِ اللهِ، وجحدوا ما جاءت به الرسل، وعاندوا، أخذهم الله بذنوبهم، عدلًا منه لا ظلمًا،
والله شديد العقاب، على من أتى بأسبابِ العقابِ؛ وهو الكفرُ والذنوبُ على اختلاف أنواعِها، وتعدد مراتبها.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ)( 11 )
إذن، عرفنا أنَّ زيادةَ الأموال والأولاد وكثرتهم، لا تغني من الله شيئًا.
ثم ضرب الله عزَّ وجلَّ مثلًا بآل فرعونَ، وهو معروفٌ
بكثرة العدةِ والعتادِ والمالِ، فقال:
{ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِم}:
مع أن عندهم مالٌ وولٌد، وعندهم
عدةٌ وعتادٌ، إلا أن اللهَ عزَّ وجلَّ، لما كذبوا أخذهم بذنوبهم.
{ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب}
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ
إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)( 12 )
{ قُل}:
يا مُحمَّدُ
{ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ
إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}:
وفي هذا إشارةٌ للمؤمنين، بالنصرِ، والغلبةِ، وتحذيرٌ
للكفار،
وقد وقع كما أخبر الله تَعالَى، فنصرَ اللهُ المؤمنين على
أعدائهم، من كفار قريشٍ المشركين، واليهود والنَّصارى.
و سيفعل هذا تَعالَى بعبادِه وجندِه المؤمنين، إلى يوم
القيامة،
ففي هذا عبرةٌ وآيةٌ من آيات القرآنِ، المشاهدة بالحس
والعيان
وأخبر تَعالَى أنَّ الكفار مغلوبون في هذه الدار، و
أنهم محشورون ومجموعون يوم القيامة لدار البوار،
{ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}:
وهذا هو الذي مهدوه لأنفسهم فبئس
المهاد مهادهم، وبئس الجزاء جزاؤهم.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ
فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم
مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ)( 13 )
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}:
أي: عبرةٌ عظيمةٌ
في من يا رب تلك العبرةُ العظيمةُ ؟
{فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا }:
وهذا يومُ بدرٍ.
{فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}:
وهم الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأصحابُه،
{وَ أُخْرَىٰ كَافِرَةٌ}:
أي: كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرًا وفخرًا ورئاءَ
الناس، ويصدون عن سبيل الله،
فجمع الله بين الطائفتين في بدرٍ،
وكان المشركون أضعاف المؤمنين،
فلهذا قال
{يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ}:
يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادةً كثيرةً، تبلغ
المضاعفة وتزيد عليها، يرونهم رأي العين، بوضوحٍ تامٍّ.
وأكد هذا بقوله
{رَأْيَ الْعَيْنِ}:
أي: رؤية واضحة
فنصر الله المؤمنين، وأيدهم بنصره، فهزموهم، وقتلوا
صناديدهم، وأسروا كثيرًا منهم،
وما ذاك إلا لأنَّ الله ناصرٌ من نصره، وخاذلٌ من كفر به،
{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ}:
ففي هذا عبرةٌ لأولي الأبصارِ، أصحاب البصائر النافذة، والعقول الكاملة، على أن
الطائفة المنصورة معها الحقُّ، والأخرى مبطلةٌ.
وإلا فلو نظر الناظرُ إلى مجرد الأسبابِ الظاهرةِ، والعددِ
والعدِة،
لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة، لتلك الفئة الكثيرة من أنواع المُحالات.
ولكن وراء هذا السبب المُشاهد بالأبصار، سببٌ أعظم منه،
لا
يدركه إلا أهلُ البصائر، والإيمان بالله، والتوكل على الله، والثقة بكفايته،
وهو
نصرُه وإعزازُه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)( 14 )
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ}
يخبر الله تَعالَى أنه زين للناس حبَّ الشهواتِ الدنيوية،
وخصَّ هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبعٌ لها، فأي شهوةٍ من شهوات الدنيا تتبع هذه الأصولَ.
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا }
فلما زُيِّنت لهم هذه المذكوراتُ، بما فيها من الدواعي
المثيرات، تعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم،
وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين:
قسم: جعلوها هي المقصود والغاية والهدف، فسعوا لها سعيًا
حثيثًا، فصارت أفكارُهم وخواطرُهم، وأعمالُهم الظاهرةُ والباطنةُ لها، فشغلتهم عما
خُلقوا لأجله، وصحبوها صحبةَ البهائمِ السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون
شهواتها، ولا يبالون على أيِّ وجهٍ حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها،
فهؤلاء كانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب،
هذا القسم الأول.
أما القسم الثاني: فيختلفون تماما عن القسم الأول، و هم
قسمٌ عرفوا المقصودَ منها، وأنَّ اللهَ جعلها ابتلاءً وامتحانًا لعباده، ليعلم من
يقدِّم طاعته ومرضاته، على لذاته وشهواته،
فجعلوها وسيلةً لهم، وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به، على وجه الاستعانة به على مرضاته،
قد صحبوها بأبدانِهم لكنهم فارقوها بقلوبِهم.
علموا أنها كما قال الله تَعالَى فيها:
{ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}:
فجعلوها معبرًا إلى الدار الآخرة، ومتجرًا يرجون بها
الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادًا إلى ربهم.
وفي هذه الآية تسليةٌ للفقراء، الذين لا قدرةَ لهم على هذه
الشهوات، التي يقدر عليها الأغنياءُ،
وتحذيرٌ للمغترين بها، وتزهيدٌ لأهل العقول النيِّرةِ بها،
فهذه الآية فيها تسليةٌ وتحذيرٌ: التسليةُ للفقراءِ، والتحذيرُ
للأغنياءِ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ
اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)( 15 )
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ ۚ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا }:
وتمام ذلك أن الله تَعالَى أخبر بعدها عن دار القرارِ،
ومصير المتقين الأبرارِ، وأخبر أنها خيرٌ من ذلكم المذكور،
{ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا }:
ألا وهي الجناتُ العالياتُ، ذات المنازلِ الأنيقةِ،
والغرفِ العاليةِ، والأشجارِ المتنوعةِ، المثمرةِ بأنواعِ الثمارِ، والأنهارِ
الجاريةِ، على حسبِ مرادِهم.
{ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ }:
والأزواج المطهرة من كل قذرٍ ودنسٍ وعيبٍ ظاهرٍ وباطنٍ،
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ }:
مع الخلودِ الدائمِ، الذي به تمامُ النعيم، مع الرضوانِ
من اللهِ، الذي هو أكبرُ نعيمٍ.
المؤمنُ اللبيبُ العاقلُ يقارن بينهما، ويعلم أيَّهما يعمل من أجله.
فقسْ هذه الدارَ الجليلةَ، بتلك الدارِ الحقيرةِ.
ثم اخترْ لنفسك أحسنَهما، واعرضْ على قلبِك المفاضلةَ بينهما.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}:
عالمٌ بما فيهم من الأوصاف الحسنة، والأوصاف القبيحة، وما
هو اللائق بأحوالهم، يوفق من يشاءُ، ويخذلُ من يشاء.
فالجنةُ التي ذكرَ اللهُ وصفَها ونعتَها بأكمل نعتٍ؛ وصفَ
اللهُ عزَّ وجلَّ أيضًا المستحقِّين لها؛
وهم الذين اتَّقوه بفعلِ ما أمرَ به، وتركِ ما نهَى عنه،
وكان من دعائهم أنهم قالوا:
{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
بإذن اللهِ عزَّ وجلَّ
في الوجه القادم.
سبحانَكَ اللهمَّ
وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ
اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا
معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى
اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق