الوجه السابع عشر من
سورة آل عمران
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِذْ
هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )( 122)
روَى البخاريُّ، عن جابرٍ بن عبدِ اللهِ، قالَ:
فينا نزلَتْ:
{
إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
قالَ: نحنُ الطَّائفتان، بنو
حارثةَ وبنو سلمةَ.
وكذا رواهُ مسلمُ من حديثِ سفيانَ بن عيينةَ.
ولا شكَّ أنَّ هذا من
لطفِهِ - سُبحانَهُ- بهِم، وإحسانِهِ إليهم،
لمَّا قالَ: {
هَمَّت طَّائِفَتَانِ }
من المؤمنينَ بالفشلِ، وهم بنُو سلمةَ، وبنُو حارثةَ،
كما تقدَّمَ، ثبَّتَهُما اللهُ تَعالَى نعمةً عليهِما، وعلَى سائرِ المؤمنينَ.
ولا شكَّ أنَّ الثباتَ
نعمةٌ عظيمةٌ، من نعمِ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، يمنُّ اللهُ عزَّ وجلَّ، بها على
من يشاءُ من عبادِهِ
فلهذا
قالَ { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا }
أي: بولايتِهِ الخاصةِ، التي هي لطفُهُ
بأوليائِهِ، وتوفيقُهُم لما فيه صلاحُهُم، وعصمتُهُم عمَّا فيه مضرَّتُهُم،
فمنْ تولَّاهُ اللهُ
عزَّ وجلَّ، حَفِظَهُ من الذنوبِ العظيمةِ الكبيرةِ.
ولا شكَّ أنَّ الفشلَ
والفرارَ، عن الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ذنبٌ كبيرٌ.
لذلكَ يقولُ اللهُ
تَعالَى:
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ }
ثم قالَ { وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
ففيها الأمرُ بالتوكُّلِ.
ما هو التوكُّلُ
يا ربِّ؟!
التوكُّلُ: هو اعتمادُ
القلبِ على اللهِ، في جلبِ المنافعِ,، ودفعِ المضارِّ، مع الثقةِ باللهِ،
وليسَ الاعتمادُ على
الأسبابِ، وهذا يخالفُ التوكُّلَ، فنحنُ نفعلُها لأنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى
أمرَنا بها، لكنَّنا لا نعتمدُ علَيها، بل نتوكَّلُ على اللهِ
فأذكارُ الصباحِ
والمساءِ تُعتَبَرُ سببًا للحفظِ، لكنْ لا نعتمدُ علَيها، بل نعتمدُ على اللهِ
سُبحانَهُ وتَعالَى، ونثقُ بهِ.
وأنَّهُ بحسبِ إيمانِ
العبدِ يكونُ توكُّلُهُ، وأنَّ المؤمنينَ أولَى بالتوكُّلِ على اللهِ تَعالَى من
غيرِهِم، وخصوصًا في مواطنِ الشدةِ والضعفِ والقتالِ، فإنَّهُم مضطرُّون إلى
التوكُّلِ، والاستعانةِ بربِّهِم والاستنصارِ لهُ، والتبرِّي من حولِهِم وقوتِهِم،
والاعتمادِ على حولِ اللهِ تَعالَى وقوتِهِ، فبذلكَ ينصرُهُم، ويدفعُ عنْهُمُ
البلَايا والمحنَ.
ثم يقولُ اللهُ تَعالَى
:
( وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )( 123)
وهذا امتنانٌ منهُ على
عبادِهِ المؤمنينَ، وتذكيرٌ لهم بما نصرَهُم بِهِ، يومَ بدرٍ، وهمْ أذِلَّةٌ.
وهذا يدلُّ على أنَّ
الأسبابَ قد لا تُغني ولا تنفعُ، إذا نزلَ أمرُ اللهِ تَعالَى،
مع أنَّ عَددَ
المؤمنينّ، وعدَّتَهُم، كان قليلًا يومَ بدرٍ فقد انتصَرُوا، بخلافِ الكفارِ الذين
كان عَددُهُم كبيرًا، وعُدَّتَهُم وتجهيزَهُم جيدًا، ومع ذلكَ لم ينتصِرُوا،
فالنصرُ والتيسيرُ
والتوفيقُ من اللهِ.
ولهذا يمتنُّ اللهُ على
عبادِهِ المؤمنينَ، ويذكِّرُهُم بأنَّهُ هو الناصرُ سُبحانَهُ وتعالَى، فذكَّرَهُم
بحدثٍ عظيمٍ، حيثُ رأَوا بأنفسِهِم هذا النصرَ، بما نصرَهُم بهِ يومَ بدرٍ، وهمْ
أذِلَّةٌ، في قلةِ عَددِهِم، وعُدَدِهِم، مع كثرةِ عَددِ عدوِّهِم وعُدَّتِهِم،
ومع ذلكَ انتصَرُوا،
وكانَتْ وقعةُ بدرٍ في
السنةِ الثانيةِ من الهجرةِ، خرجَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، من
المدينةِ بثلاثِ مئة وبضعة عشر من أصحابِهِ، ولم يكنْ معَهُم إلَّا سبعون بعيرًا
وفَرَسان، لطلبِ عيرِ لقريشَ، فسمعَ به المشرِكُون فتجهَّزُوا، وخرجُوا في زهاءِ
ألفِ مقاتلٍ، مع العدةِ الكاملةِ، والسِّلاحِ العامِّ، والخيلِ الكثيرةِ،
فالتَقُوا هُم والمسلمونَ، في ماءٍ يقالُ لهُ "بدرٌ" بينَ مكةَ
والمدينةَ، فاقتتَلُوا، ونصرَ اللهُ عزَّ وجلَّ المسلمينَ نصرًا عظيمًا، هل كانَ
نصرُهُم بالعدةِ والعتادِ؟ كلَّا.
فقتَلُوا من المشركينَ
سبعينَ قتيلًا، من صناديدِ المشركينَ وشجعانِهِم، وأسَرُوا سبعينَ، واحتَوَوا على
معسكَرِهِم بكاملِهِ،
وهذا يدلُّ على أنَّ
أمرَ اللهِ وقضاءَهُ إذا نزلَ، فلا يردُّهُ شيءٌ.
فلهذا قالَ: {
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
لأنَّ من اتَّقَى ربَّهُ فقدْ
شكرَهُ، ومن تركَ التقوَى فلمْ يشكرْهُ،
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( إِذْ
تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ
آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ )( 124)
{ إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ }
إذْ تقولُ يا مُحَمَّدُ، للمؤمنينَ يومَ بدرٍ مبشرًا لهُم
بالنصرِ:
{ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ
الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ }
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( بَلَىٰ
ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ )( 125)
{ بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا }
أي: من
مقصَدِهِم هذا، وهو وقعةُ بدرٍ،
{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ }
أي:
معلَّمِين بعلامةِ الشجعانِ،
فشرطُ اللهِ عزَّ وجلَّ
لإمدادِهِم، ثلاثةُ شروطٍ: الصبرُ، والتقوَى، وإتيانُ المشركينَ من فورِهِم هذا،
فهذا الوعدُ بإنزالِ
الملائكةِ المذكورينَ، وإمدادِهِم بهِم،
وأمَّا وعدُ النصرِ،
وقمعُ كيدِ الأعداءِ، فشرطُ اللهِ لهُ، الشرطَين الأوَّلَين، كما تقدَّمَ في
قولِهِ:
{ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ
شَيْئًا }
فالشَّرطَان
الأوَّليان: الصبرُ والتقوَى, هما شرطَا النصرِ، بشكلٍ عامٍ.
تريدُ أنْ تنتصرَ، على أيِّ عدوٍ كانَ، فعليكَ بهذَين الشرطَين: الصبرُ والتقوَى.
أيَّ ضررٍ تخافهُ، أو
كيدٍ تخشَى منْهُ، عليكَ بالصبرِ والتقوَى.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ )( 126)
{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ }
أي: إمدادُهُ لكُم بالملائكةِ
{ إِلَّا بُشْرَىٰ }
تستبشِرون بها، وتفرحُون، وتستأنسُون بها.
{ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ }
فالنصرُ إذا
نزلَ، لا يحتاجُ حتَّى إلى ملائكةٍ تنزلُ، لكنَّ الملائكةَ تنزلُ للاستئناسِ، حتى
يستأنسَ الصحابةُ، ويستأنسَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
فلا تعتمِدُوا على ما معَكم من الأسبابِ، بل الأسبابُ فيها طمأنينةٌ لقلوبِكُم،
وأمَّا النصرُ الحقيقيُّ الذي لا معارضَ لهُ، فهو مشيئةُ اللهِ لنصرِ من يشاءُ من عبادِهِ، فإنَّهُ إنْ شاءَ نصرَ من معَهُ الأسبابُ، كما هي سُنَّتُهُ في خلقِهِ، وإن شاءَ نصرَ المستَضعَفين الأذلِّين -الذين ليسَ معهُم أسبابٌ- ليبيِّنَ لعبادِهِ أنَّ الأمر َكلَّهُ بيدهِ، ومرجعُ الأمورِ إليهِ،
ولهذا قالَ {
عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ }
فلا يمتنعُ عليهِ مخلوقٌ، بلِ الخلقُ كلُّهم
أذلَّاءُ مُدَبَّرون، تحتَ تدبيرِهِ وقهرِهِ.
{ الْحَكِيمِ }
الذي يضعُ الأشياءَ مواضعَهَا - سُبحانَهُ -
ولهُ الحكمةُ في
إدالةِ الكفارِ في بعضِ الأوقاتِ على المسلِمِين،
قالَ تَعالَى:
{ ذَٰلِكَ
وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم
بِبَعْضٍ } فلو شاءَ اللهُ لانتصرَ من المشرِكِين دائمًا، ولكنْ ليبلوَ بعضَكُم
ببعضٍ.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( لِيَقْطَعَ
طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ )(
127)
يخبرُ تَعالَى أنَّ نصرَهُ عبادَهُ المؤمِنِينَ، لأحدِ أمرَين: ما هما؟
- الأمرُ الأوَّلُ: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }
إمَّا أنْ يقطعَ طرفًا
من الذين كفرُوا، أي: جانبًا منهُم, وركنًا من أركانِهِم، إمَّا بقتلٍ، أو أسرٍ،
أو استيلاءٍ على بلدٍ، أو غنيمةِ مالٍ، فيقوَى بذلكَ المؤمنُون، ويذلَّ الكافرُون،
وذلكَ لأنَّ مقاومتَهُم
ومحاربتَهُم للإسلامِ، تتألفُ من أشخاصِهِم، وسلاحِهِم، وأموالِهِم، وأرضِهِم،
فبهذهِ الأمور تحصلُ منهُم المقاومةُ والمقاتلةُ، فقطعُ شيءٍ من ذلكَ ذهابٌ لبعضِ قوَّتِهِم، ولا شكَّ أنَّ هذا يضعِفُهُم،
ولذلكَ يقولُ اللهُ تَعالَى: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا }
ما هو هذا الطَّرَفُ؟
قدْ يكونُ شخصًا عظيمًا، أو بلدًا، أو مكانًا، أو سلاحًا، أيَّ أمرٍ فيهِ قطعٌ
لهُم.
- الأمرُ الثَّاني: { أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ }
أنْ يريدَ
الكفَّارُ بقوتِهِم وكثرتِهِم، طمعًا في المسلِمِينَ، ويُمَنُّوا أنفسَهَم ذلكَ،
ويحرِصُوا عليهِ غايةَ الحرصِ، ويبذِلُوا قِوَاهُم، وأموالَهَم في ذلكَ، فينصرَ
اللهُ المؤمِنِينَ عليهِم، ويردَّهُم خائِبِينَ، لم ينالُوا مقصودَهُم، بلْ
يرجِعُون بخسارةٍ وغمٍّ وحسرةٍ،
وإذا تأمَّلْتَ الواقعَ رأيْتَ نصرَ اللهِ
لعبادِهِ المؤمنِينَ دائرًا بين هذَينِ الأمرَينِ، غيرَ خارجٍ عنهُما، إما
نصرٌ عليهِم أو خذلٌ لهُم.
{ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ }
أي: يُخمِدُهُم، يكسِرُ شوكتَهُم، يرجِعُوا بخسارةٍ
عظيمةٍ، وغمٍّ، وحسرةٍ.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( لَيْسَ
لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ )( 128)
لمَّا جرَى يومُ "أحدٍ" ما جرَى، وجرَى على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مصائبُ، رفعَ اللهُ بها درجتَهُ، فشُجَّ رأسُهُ, وكُسِرَتْ رُباعيتُهُ، قالَ "كيفَ يُفلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم" وجعلَ يدعُو على رؤساءٍ من المشركٍيٍن َمثل أبي سفيانَ بن حربٍ، وصفوان بن أميَّةَ, وسُهَيل بن عَمْرو، والحارِث بن هشامٍ، أنزلَ اللهُ تَعالَى على رسولِهِ نهيًا لهُ عن الدعاءِ عليهِم، باللعنةِ والطردِ عن رحمةِ اللهِ،
فقالَ: { لَيْسَ
لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }
إنَّما عليكَ البلاغُ، وإرشادُ الخلقِ، والحرصُ
على مصالحِهِم، وإنَّما الأمرُ للهِ تَعالَى، هو الذي يدبِّرُ الأمورَ، ويهدِي من
يشاءُ، ويضلُّ من يشاءُ، فلا تدعُ عليهِم، بل أمرُهُم راجعٌ إلى ربِّهِم،
إنْ اقتضَتْ حكمتُهُ
ورحمتُهُ أنْ يتوبَ عليهِم، ويمُنَّ عليهِم بالإسلامِ فعلَ،
وإن اقتضَتْ حكمتُهُ
إبقاءَهُم على كفرِهِم، وعدمَ هدايتِهِم، فإنَّهُم هُم الذينَ ظلمُوا أنفسَهُم،
وضرُّوها، وتسبَّبُوا بذلكَ، فعلَ.
وقدْ تابَ اللهُ على
هؤلاءِ المعنِيينَ وغيرِهم، فهداهُم للإسلامِ، رضيَ اللهُ عنهُم.
وفي هذهِ الآيةِ مما
يدلُّ على أنَّ اختيارَ اللهِ عزَّ وجلَّ، غالبٌ على اختيارِ العبادِ، وأنَّ
العبدَ وإنْ ارتفعَتْ درجتُهُ، وعلَا قدْرُهُ، قد يختارُ شيئًا، وتكونُ الخيرةُ
والمصلحةُ في غيرِهِ،
حتَّى لو كانَ قدْرُهُ
كبيرًا، مثل النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقد يختارُ شيئًا، وتكونُ
المصلحةُ في غيرِهِ.
وأنَّ الرسولَ صلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ليسَ لهُ من الأمرِ شيءٌ
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ }
فإذا قيلَتْ هذهِ
المقولةُ للأنبياءِ والصالحِينَ، فغَيْرُهُم من بابِ أولَى.
فقالَ { أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }
ليدلَّ ذلكَ على كمالِ عدلِ اللهِ
وحكمتِهِ، حيث وضعَ العقوبةَ موضعَهَا، ولم يظلمْ عبدَهُ، بل العبدُ هو الذي ظلمَ
نفسَهُ.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( وَلِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ
مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )( 129)
ولمَّا نفَى عن
رسولِهِ، أنَّهُ ليسَ له من الأمرِ شيءٌ، قرَّرَ من الأمرُ لهُ فقالَ:
{ وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }
من الملائكةِ، والإنسِ، والجنِّ،
والحيواناتِ، والأفلاكِ، والجماداتِ كلِّها، وجميعِ ما في السماواتِ والأرضِ،
الكلُّ ملكٌ للهِ عزَّ وجلَّ، مخلوقُون مدبَّرُون مُتَصَرَّفٌ فيهِم تصرُّفُ
المماليكِ، فليسَ لهُم مثقال ذرةٍ من الملكِ، وإذا كانوا كذلك، فهم دائِرونَ بين
مغفرتِهِ وتعذيبِهِ.
فـَ { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ }
بأن يهديَهُ للإسلامِ، فيغفرُ شِركَهُ، ويمُنَّ عليه بتركِ العصيانِ،
فيغفرَ لهُ ذنبَهُ،
{ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ }
بأنْ يكِلَهُ إلى نفسِهِ الجاهلةِ الظالمةِ المُقتَضيةِ لعملِ
الشرِّ، فيعملَ الشرَّ، ويعذبَّهُ على ذلك،
وأعظمُ الذنوبِ،
وأكبرُها، أنْ يكِلَنا اللهُ عزَّ وجلَّ إلى أنفسِنا.
ثم ختم الآيةَ باسمين كريمين :
{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
ففيها أعظمُ بشارةٍ بأنَّ
رحمتَهُ غلبَتْ غضبَهُ، ومغفرتَهُ غلبَتْ مؤاخذَتَهُ،
فالآيةُ فيها الإخبارُ عن حالةِ الخلقِ، وأنَّ منهُم من يغفرُ اللهُ لهُ، ومنهُم من يعذِّبُهُ، فختمَها باسمَين كلَيْهِما يدلُّ على الرحمةِ،
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )( 130)
{ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا }
نهى اللهُ عزَّ وجلَّ في هذهِ
الآيةِ عن أكلِ الرِّبَا، وهذا ذنبٌ عظيمٌ.
وفي قولِهِ: {
أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً }
تنبيهٌ على شدةِ شناعتِهِ بكثرتِهِ، وتنبيهٌ
لحكمةِ تحريمِهِ،
وأنَّ تحريمَ الرِّبَا،
حكمتُهُ أنَّ اللهَ تعالَى منعَ منهُ، لما فيهِ من الظلمِ.
وذلكَ أنَّ اللهَ أوجبَ
إنظارَ المُعسِرِ، وبقاءَ ما في ذمَّتِهِ، من غيرِ زيادةٍ،
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
و الفلاحُ متوقفٌ على التَّقوَى.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( وَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )( 131)
{ وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
بتركِ ما يوجبُ دخولَها، من الكفرِ
والمعاصِي، على اختلافِ درجاتِها، فإنَّ المعاصيَ كلَّها - وخصوصًا المعاصِي
الكِبار- تجرُّ إلى الكفرِ، بل هيَ من خصالِ الكفرِ، الذي أعدَّ اللهُ النارَ
لأهلِهِ، فتركُ المعاصِي يُنجِي من النارِ، ويقِي من سَخَطِ الجبَّارِ، وأفعالُ
الخيرِ، والطاعةُ، توجبُ رضَا الرحمَنِ، ودخولَ الجنانِ، وحصولَ الرحمةِ - بإذنِ
اللهِ-
نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن نكونَ من أهلِ اللهِ وخاصَّتِهِ، يا أرحمَ الرَّاحِمينَ!
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )( 132)
لما ذكرَ اللهُ
الرحمةَ، وأنَّها خاصةٌ بالمُتَّقِينَ، قالَ:
{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ }
بفعلِ الأوامرِ امتثالًا، واجتنابِ النَّواهِي.
{ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ }
فطاعةُ اللهِ وطاعةُ رسولِهِ، من أسبابِ حصولِ الرحمةِ،
كما
قالَ تَعالَى:
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }
روَى البخاريُّ، عن
سالمٍ، عن أبيهِ، أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا رفعَ رأسَهُ من
الركوعِ، في الركعةِ الثانيةِ من الفجرِ، يقولُ: "اللهُمَّ العنْ فلانًا
وفلانًا " بعدما يقولُ: " سمعَ اللهُ لمنْ حمِدَهُ، ربَّنَا ولكَ
الحمدُ" فأنزلَ اللهُ تَعالَى ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ )
رواه النسائيُّ
وروَى الإمامُ أحمدُ،
عن سالمٍ، عن أبيهِ، قالَ : سمعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقولُ:
" اللهُمَّ العنْ فلانًا، اللهُمَّ العنْ الحارثَ بنِ هشام، اللهُمَّ العنْ
سُهَيلَ بنِ عمْرو، اللهُمَّ العنْ صفوانَ بنِ أمية." فنزلَتْ هذهِ الآيةُ
: ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ).
وقالَ البخاريُّ أيضًا، عن أبي هريرةَ، رضيَ اللهُ عنهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كانَ إذا أرادَ أن يدعوَ على أحدٍ - أو يدعوَ لأحدٍ - قنتَ بعدَ الركوعِ، وربَّما قالَ - إذا قالَ: " سمعَ اللهُ لمنْ حمِدَهُ، ربَّنَا ولكَ الحمدُ : "اللهُمَّ أنجِ الوليدَ بنِ الوليدِ، وسلمةَ بنِ هشامٍ، وعياشَ بنِ أبي ربيعةَ، والمستضعَفِينَ من المؤمنينَ، اللهُمَّ اشدُدْ وطأتَكَ على مُضَرَ، واجعلْها عليهِم سنينَ كَسِنِيَّ يوسُفَ" . يجهرُ بذلكَ، وكانَ يقولُ - في بعضِ صلاتِهِ في صلاةِ الفجرِ-: "اللهُمَّ العنْ فلانًا وفلانًا " لأحياءَ من أحياءِ العربِ، حتَّى أنزلَ اللهُ ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ )
وقالَ البخاريُّ، عن
أنسٍ بنِ مالكٍ: شُجَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ, يومَ أحدٍ، فقالَ:
"كيفَ يفلحُ قومٌ شَجُّوا نبيَّهُم؟". فنزلت :( لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ )
وروَى الإمامُ أحمدُ، عن أنسٍ، رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كُسِرَتْ رُباعيتُهُ يومَ أحدٍ، وشُجَّ في جبهتِهِ، حتَّى سالَ الدمُ على وجهِهِ، فقالَ: " كيفَ يفلحُ قومٌ فعلُوا هذا بنبيِّهِم، وهوَ يدعُوهُم إلى ربِّهم، عزَّ وجلَّ". فأنزلَ اللهُ تَعالَى :( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ )
رواهُ مسلمُ
طبعًا ذكرَ اللهُ
عزَّ وجلَّ في قوله: ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
أنَّهُ هوَ الذي يدبِّرُ الأمرَ سُبحانَهُ وتَعالَى، وأنَّ الخيرةَ فيما يختارُهُ
سُبحانَهُ وتَعالَى، فلا بدَّ من الإيمانِ بقضاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ وقدرِهِ,
وأنَّ ما أصابَنا، لم
يكنْ ليُخطِئَنا، وما أخطَأَنا لمْ يكنْ ليُصيبَنا،
وأنَّ اللهَ سُبحانَهُ
وتَعالَى لا يُقَدِّرُ لنا إلَّا الخيرَ، حتَّى لو ظهرَ لنَا في نظرتِنا البشريةِ
القاصرةِ أنَّهُ شرٌّ.
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا
الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا
تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق