الوجه الثامن عشر من سورة آل
عمران
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( وَسَارِعُوا إِلَىٰ
مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )( 133)
يندبُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى
فعلِ الخيراتِ، وحصولِ الجنَّاتِ، يندبُنا إلى المبادرةِ إلى فعل الخيراتِ،
والمسارعةِ إلى نيلِ القُرُباتِ،
فقالَ: { وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ }
أي : كما أُعِدَّتِ
النارُ للكافِرين.
قالَ: { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ }
تنبيهًا
على اتساعِ طولِها،
كما قالَ في صفةِ فرشِ الجنَّةِ:
{ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ
بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ }
أي: فما ظنُّكَ
بالظَّهائرِ؟
وقيلَ: بلْ عرضُها كطولِها،
لأنَّها قبةٌ تحتَ العرشِ، والشيءُ المقبَّبُ والمستديرُ، عرضُهُ كطولِهِ .
وقدْ دلَّ على ذلكَ ما ثبتَ
في الصحيحِ:
"إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ
، فَإِنَّهَا أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفَجَّرُ
أَنْهَارُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ ".
اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ
الفردوسَ منَ الجنَّةِ!
{ سَابِقُوا إِلَىٰ
مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
}
روَى البزَّارُ، عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنْهُ قالَ: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقالَ: أرأيتَ قولَهُ تَعالَى: { جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } فأينَ النارَ؟ قالَ: " أرأيتَ الليلَ إذا جاءَ لَبِسَ كُلَّ شَيءٍ، فأينَ النَّهَارَ؟ " قالَ : حيثُ شاءَ اللهُ. قَالَ: " وكذلكَ النَّارُ تكونُ حيثُ شاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ " .
يطالبُنا سُبحانَهُ جلَّ وعلَا
بالمُسارعةِ إلى مغفرتِهِ، وإدراكِ جنتِهِ، التي عرضُها السماواتُ والأرضُ، فكيفَ
بطولِها، التي أعدَّها اللهُ عزَّ وجلَّ للمتَّقِين، فهم أهلُها، وأعمالُ
التَّقْوَى هي الموصلةُ إليها.
فعليكُم بتَقْوَى اللهِ، والتَّحلِّي بصفاتِ المُتَّقِين، عليكُم
بأهلِ التَّقْوَى، وأعمالِ المُتَّقِين، فهي الموصلةُ إلى الجنَّاتِ.
تَقْوَى اللهِ: الخوفُ من اللهِ، العملُ بما
يأمرُ اللهُ، والانتهاءُ عمَّا ينهَى اللهُ.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )( 134)
ثمَّ وصفَ اللهُ المُتَّقِين وأعمالَهُم،
حسنا يا ربِّ! نحنُ نريدُ هذهِ الجنَّةَ، ومكانًا في الجنَّةِ،
فكيفَ نجدُها؟
من رحمتِهِ وكرمِهِ وفضلِهِ وجودِهِ
وإحسانِهِ، أن أخبرَنا تعالَى عن كيفيةِ الوصولِ إلى هذهِ الجنَّةِ؛
فيقولُ:
- أوَّلُ صفةٍ لهُم:
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
}
يُنفِقُون في كلِّ الأحوالِ، أي: في حالِ عُسرِهِم ويُسرِهِم، إنْ أيسَرُوا
أكثَرُوا منَ النَّفقَةِ، وإنْ أعسَرُوا لم يحتَقِروا من المعروفِ شيئًا، ولو
قليلًا.
هم يُنفِقُون في جميعِ الأحوالِ: سِرًا وجَهارًا، ليلًا ونهارًا،
غِنىً وفَقرًا.
يعطُون في حالِ الضَّنكِ، في حالِ الشدَّةِ،
في حالِ الفقرِ، في حالِ الغنَى، يعطُون في كلِّ الأحوالِ، ينفقُون على
المؤمِنينَ، سواءً من الأموالِ، أو من العلمِ أو من أعمالِ الخيرِ، يقدِّمُونها
للمسلِمينَ، أيًا كانَتْ هذهِ الأعمالُ.
انتهَينا
من الصفةِ الأولَى.
- ثمَّ يقولُ اللهُ بعدَها: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}
وهذهِ
صفةٌ عاليةٌ،
صفةٌ لمَنْ؟ صفةٌ للمُتَّقِينَ.
هيَ الصفةُ الثانيةُ من صفاتِ المُتَّقِينَ،
هيَ الصفةُ الثانيةُ للذين يسارعُون إلى مغفرةٍ من ربِّهِم وجنَّةٍ،
ألا تريدُ أن تسارعَ إلى مغفرةٍ من ربِّكَ،
وجنَّةٍ عرضُها السَّمواتُ والأرضُ؟!
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ }
أي: إذا حصلَ لهُم من غيرِهِم أذيةٌ توجبُ غيظَهُم - وهو امتلاءُ قلوبِهِم
من الحنقِ، المُوجبِ للانتقامِ بالقولِ والفعلِ- هؤلاءِ لا يعملُون بمُقتضَى
الطِّباعِ البشريَّةِ،
الإنسانُ
الطبيعيُّ يَغضبُ عندما يُغضبُ، طبيعيٌّ جدًا.
لكنَّ هؤلاءِ لا يعملُونَ
بمُقتضَى الطِّباعِ البشريَّةِ،
فهُمْ
يتعاملُون مع اللهِ، يتسابقُون إلى الجنَّاتِ، يتسابقُون إلى المغفرةِ، يقدِّمُون
كلَّ ما يستطيعُونَ.
بلْ يكظمُونَ ما في القلوبِ من الغيظِ، ويصبِرونَ عن مقابلةِ المُسيءِ إليهِم.
قد يقولُ أحدُهُم: لا أستطيعُ ذلكَ، فنجيبُ: أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتَعالَى، لم يأمرْنا إلَّا بما نستطيعُ، لكنَّ النَّفسَ تحتاجُ إلى ترويضٍ، روِّضْ نفسَكَ، عوِّدْها، وتتعوَّد،
هذهِ منزلةٌ عاليةٌ،
{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }
اللهُمَّ اجعلْنا منْهُم، يا حيُّ
يا قيُّومُ!
يصبِرُون على المُسيءِ، لا يقابِلُون
الإساءةَ باﻹساءةِ .
- { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }
ويدخلُ في العفوِ عن النَّاسِ: العفوُ عن كلِّ من أساءَ إليكَ بقولٍ أو
فعلٍ، فلا يكونَ في القلبِ شيءٌ.
والعفوُ أبلغُ من الكظمِ، وهذه مرحلةٌ أعلَى,
في حالةِ
كظمِ الغيظِ، الإنسانُ يكظمُ فقطْ، لكنْ قدْ يكونُ في القلبِ ما يكونُ، أمَّا في
حالةِ العفوِ، فلا يكون في القلبِ شيءٌ.
لأنَّ العفوَ تركُ المؤاخذةِ، مع السَّماحةِ عن المُسيءِ، وهذا إنَّما يكونُ ممَّنْ تحلَّى بالأخلاقِ الجميلةِ، وتخلَّى عن الأخلاقِ الرَّذيلةِ، وممَّنْ تاجرَ مع اللهِ، وعفَا عنْ عبادِ اللهِ رحمةً بهِم، وإحسانًا إليهِم، وكراهةً لحصولِ الشرِّ عليهِم، ويكون أجرُهُ على ربِّهِ الكريمِ، لا علَى العبدِ الفقيرِ،
كمَا قالَ تَعالَى: { فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
كيفَ نتحلَّى بالأخلاقِ الجميلةِ؟ بترويضِ النَّفسِ
وطاعةُ اللهِ ورسولِهِ من أسبابِ حصولِ
الرَّحمةِ.
روِّضْ
نفسَكَ، عوِّدْها على كظمِ الغيظِ، والعفوِ عنِ الناسِ،
حتَّى يعفوَ اللهُ عنكَ، لابدَّ
منَ العفوِ عن الناسِ،
- ثمَّ ذكرَ اللهُ حالةً أعمَّ
من غيرِها، وأحسنَ وأعلَى وأجلَّ، وهي الإحسانُ،
هذهِ المرحلةُ أعظمُ المراحلِ،
ذكرنا أنَّ أوَّلَ صفةٍ من صفاتِ
المُتَّقِينَ هيَ الإنفاقُ في السرَّاءِ والضرَّاءِ، وهذا الإنفاقُ: صدقةُ المالِ.
والآن نتحدَّثُ عن صدقةِ العِرضِ:
- المرحلةُ الأولَى، من صفاتِ صدقةِ العرضِ، ألا وهيَ كظمُ الغيظِ:
{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } واذا كنتَ ممَّن لا يستطيعُ أبدًا أنْ يكظمَ غيظَه،
فعليكَ أنْ تعوِّد نفسَكَ على كظمِ الغيظِ.
- المرحلةُ الثانيةُ، والأصعبُ، من صدقةِ العرضِ هيَ: العفوُ عنِ
الناسِ { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }.
- المرحلةُ الثالثةُ، وهي الأكثرُ صعوبةً، وهي: الإحسانُ { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
والإحسانُ هوَ: أن تحسنَ لمنْ أساءَ إليكَ، وهذهِ مرحلةٌ عاليةٌ، {
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ }.
وأنا أقولُ لك رويدًا رويًدا على نفسِك:
-تعوَّد على كظمِ الغيظِ أولًا،
-ثم تعوَّد على العفوِ عن الناسِ،
-ثم تعوَّد على الإحسانِ إلى الناسِ الذين
أساؤُوا إليكَ، وهذهِ مرحلةٌ ليسَتْ سهلةً أبدًا - كما سبقَ القولُ-
قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ :" مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ مِنْ جَرْعَةٍ أَفْضَلَ أَجْرًا مِنْ جَرْعَةِ غيظٍ كَظَمَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعالَى".
رواه ابن ماجه.
روَى الإمامُ أحمدُ، عن سهلٍ بن معاذٍ بن أنسَ، عن أبيهِ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: " مَنْ كظَمَ غَيظاً وهُو قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دعاهُ اللهُ علَى رُؤوسِ الخَلائِقِ، حتَّى يُخَيِّرَهُ من أيِّ الحُورِ شَاءَ. "
رواهُ أبو داودُ والترمذيُ وابنُ
ماجه.
وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، وَقَاهُ
اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ
ثَلَاثًا، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ
الْفِتَنَ، وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا
عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ
إِيمَانًا" .
وفي الحديثِ: " ثَلاثٌ أَقْسَمَ اللهُ عَلَيْهِنَّ: ما نَقَصَ مَالٌ من صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمن تَوَاضَعَ لِلّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ " .
إذن بعدَ العفوِ، درجةُ الإحسانِ، وهي درجةٌ
عاليةٌ جدًا، وهي بذلُ النَّدَى، كفُّ الأذَى، احتمالُ الأذَى.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ
مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ )( 135)
فقالَ: { وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ }
أي: صدرَ منهُمْ أعمالٌ سيئةٌ كبيرةٌ، أو ما دونَ
ذلكَ، بادرُوا إلى التوبةِ والاستغفارِ، وذَكَرُوا ربَّهُم، وما توعَّدَ به
العاصِينَ، ووعدَ بهِ المُتَّقِينَ، فسألوهُ المغفرةَ لذنوبِهِم، والسترَ لعيوبِهِم،
مع إقلاعِهِم عنْها، وندمِهِم عليْها،
فلهذا قالَ: { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ
مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
وهذهِ - أيُّها الإخوةُ- صفةٌ
عظيمةٌ جدًا من صفاتِ الصَّالِحينَ، الذينَ قلوبُهُم حيَّةٌ، نظيفةٌ، تستنكرُ
مباشرةً أيَّ فعلٍ سيءٍ.
لماذا قالَ: { أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } ؟
لأنَّ الأصلَ أنَّ الإنسانَ إذا
أذنبَ، فهوَ يظلمُ نفسَهُ، يحرِمُ نفسَهُ من أمورٍ عظيمةٍ، يحرِمُ نفسَهُ من فضلِ
اللهِ، ورحمتِهِ، وتوفيقِهِ، ومن عطايا عظيمةِ، من صحَّةٍ في بدنِهِ، ومن بركةٍ في
مالِهِ وذريَّتِهِ.
لذلك قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ : {
أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ }
لأنَّهُم لا يظلِمُونَ اللهَ، فاللهُ عزَّ وجلَّ
غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتِنا، لا تضرُّهُ معصيتُنا أبدًا.
روَى الإمامُ أحمدُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ رَجُلًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ، إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا، فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ عزَّ وجلَّ: " عَبْدِي عَمِلَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي". ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: رَبِّ، إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:" عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي". ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: رَبِّ، إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ: " عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي". ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: رَبِّ، إِنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي. قالَ عزَّ وجلَّ:" عَبْدي عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ: أُشهِدُكم أني قد غَفَرْتُ لِعَبْدي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ"
أخرجَهُ في الصَّحيح.
اللهُ أكبر!
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ }
استغفَرُوا مباشرةً، قلوبٌ حيةٌ.
يُقالُ أنَّ إبليسَ لمَّا سمعَ هذهِ الآيةَ بكَى.
{ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلَّا اللَّهُ } لا يغفرُها أحدٌ سواهُ.
طبعًا، هؤلاءِ ليسَ من صفاتِهِم الإصرارُ على الذنبِ،
{ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا }
الإصرارُ على الذنبِ مشكلةٌ،
حتَّى لو كانَ صغيرًا،
فاللهُ عزَّ وجلَّ نفَى عنهُم صفةَ الإصرارِ،
قالَ : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
تابُوا عن ذنوبِهِم، ورجِعُوا إلى اللهِ عن قريبٍ، لم يستمرُّوا على معصيةٍ، ولم
يصرُّوا علَيها، ولو تكرَّرَ منهُم الذنبُ تابُوا مباشرةً،
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
فقلوبُهُم حيةٌ نظيفةٌ، يعلمُون أنَّ الله سُبحانَهُ وتَعالَى توابٌ.
عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أنَّهُ قالَ: " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، اغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .
اللهُمَّ اغفرْ لنا ذنوبَنا،
وإسرافَنا في أمرِنا، وثبِّتْ أقدامَنا، وانصُرْنا على القومِ الكافرينَ.
فليسَتِ المسألةُ أنَّهُم لا
يُذنبونَ، بلْ همْ يُذنِبُون، لكنَّهُم يبادِرُون بالتوبةِ، ولا يُصرُّون على
ذنوبِهِم أبدًا.
فما جزاؤهم يا ربِّ؟!
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم
مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )( 136)
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ )( 137)
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ
سُنَنٌ }
وهذه الآياتُ الكريماتُ، وما بعدَها في
قصةِ "أُحُدٍ" يُعزِّي تَعالَى عبادَهُ المؤمنينَ ويسلِّيهِم،
ويخبرُهُم أنَّه مضَى قبلَهم أجيالٌ وأممٌ كثيرةٌ، امتُحِنوا، وابتُلِي المؤمنُون
منْهُم بقتالِ الكافِرين، فلم يزالُوا في مداولةٍ ومجاولةٍ، حتَّى جعلَ اللهُ
العاقبةَ للمُتَّقِينَ، - فالصبرَ الصبرَ يا عبادَ اللهِ!- والنصرَ لعبادِهِ
المُؤمِنينَ، وآخرُ الأمرِ حصلَتِ الدولةُ على المُكذِّبين، وخذلَهُم اللهُ بنصرِ
رسلِهِ وأتباعِهِم.
{ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
}
بأبدانِكُم وقلوبِكُم
{ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }
فإنَّكُم لا تجدونَهم إلَّا مُعذَّبِينَ بأنواعِ
العقوباتِ الدنيويةِ، قد خوَتْ ديارُهُم، وتبيَّنَ لكلِّ أحدٍ خسارُهُم، وذهبَ
عزُّهُم وملكُهُم، وزالَ بذخُهُم وفخرُهُم، أفليسَ في هذا أعظمُ دليلٍ، وأكبرُ
شاهدٍ على صدقِ ما جاءَتْ به الرسلُ؟ وحكمةُ اللهِ التي يمتحنُ بها عبادَهُ،
ليبلوَهُم ويتبيَّنَ صادقَهُم من كاذبِهِم.
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( هَٰذَا بَيَانٌ
لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ )( 138)
{ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ
}
أي: دلالةٌ ظاهرةٌ، تبيِّنُ للناسِ الحقَّ من الباطلِ، وأهلَ السعادةِ من
أهلِ الشقاوةِ، وهو الإشارةُ إلى ما أوقعَ اللهُ تَعالَى بالمكذِّبِينَ.
{ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }
لأنَّهم همُ المنتفعُون بالآياتِ، فتهديَهم إلى سبيلِ
الرَّشادِ، وتعظُهُم وتزجُرُهم عن طريقِ الغيِّ،
هذا بيانٌ للنَّاسِ عمومًا،
وهدىً وموعظةً للمتَّقِين خصوصًا.
يقولُ الله تَعالَى:
( وَلَا تَهِنُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )( 139)
إخوتَنا في سُوريا، وفي اليمنِ، وفي العراقِ، ومصرَ، وتونسَ، وفي كلِّ مكانٍ!
هذا خطابُ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى لك أنت:
{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
إنْ كنْتُم
مؤمِنِينَ باللهِ حقَّ الإيمانِ، وعندَكم يقينٌ عظيمٌ، فأنتُمُ الأعْلَونَ عندَ
اللهِ، حتَّى لو بِتُّمْ في هذه الدُّنيا من الناسِ الذينَ لا يُنظرُ إليهم، ولا
يُلتفتُ لهُم، لكنَّكم عندَ اللهِ لكُم مكانةٌ عظيمةٌ.
يقولُ تَعالَى مُشجِّعًا لعبادِهِ المُؤمنينَ، ومُقوّيًا لعزائِمِهِم، ومُنهِضًا لهمَمِهِم:
{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا
تَحْزَنُوا }
أي: ولا تهِنُوا وتضعفُوا في أبدانِكُم، ولا تحزَنُوا في
قلوبِكُم، عندما أصابتْكُم المصيبةُ، وابتُليتُم بهذهِ البلوَى، فإنَّ الحزنَ في
القلوبِ، والوهنَ على الأبدانِ، زيادةُ مصيبةٍ عليكُم، وعونٌ لعدوكِّم عليكُم، بلْ
شجِّعوا قلوبَكم وصبِّرُوها، وادفعُوا عنْها الحَزَنَ, وتصلَّبوا على قتالِ
عدوِّكم،
وذكرَ تَعالَى أنَّهُ لا ينبَغي
ولا يليقُ بالمؤمنينَ الوهنُ والحَزَنُ، وهمُ الأعلَون في الإيمانِ، ورجاءِ نصرِ
اللهِ وثوابِهِ، فالمؤمنُ المُتَيقِّنُ ما وعدَهُ اللهُ من الثَّوابِ الدُّنيويِّ
والأُخرَويِّ، لا ينبغِي منْهُ ذلكَ، ولهذا قالَ تَعالَى: { وَأَنتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
يقولُ اللهُ تَعالَى :
( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ
شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )( 140)
ثم سلَّاهُم بما حصلَ لهُم من
الهزيمةِ، وبيَّن الحِكَمَ العظيمةَ المترتبةَ على ذلكَ،
فقالَ:
{ إِن يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ }
إذا حصلَ لأبنائِكُم
ورجالِكُم ما حصلَ،
فكذلكَ الكفَّارُ - أيَّها
الإخوةُ - حتَّى لو لمْ تظهرْ وسائلُ الإعلامِ ذلكَ، لكنَّهُم يصيبُهُم ما
أصابَكُم، كذلكَ إخواننا في فلسطينَ، في غزَّةَ،
فأنتُم وإيَّاهُم قد تساويتُم في
القَرحِ، أي في الجَرحِ، ولكنَّكُم ترجُون من اللهِ ما لا يرجُون،
فاحمَدوا ربَّكُم، فلكُم ربٌّ
يعفُو عنْكُم، ويغفرُ لكَم، اللهُ مولاكُم، ينصرُكُم، يثبِّتُكُم.
{ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ }
{ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }
ومن الحِكَمِ في ذلكَ، أنَّ هذهِ الدارَ يعطي
اللهُ منها المؤمنَ والكافرَ، والبَرَّ والفاجرَ، فيداولُ اللهُ الأيامَ بين
الناسِ في الدُّنيا، يومٌ لهذهِ الطائفةِ، ويومٌ للطائفةِ الأخرَى؛ لأنَّ هذهِ
الدارَ الدُّنيا منقضيةٌ فانيةٌ، ليسَتْ هي الدَّار التي يحبُّها اللهُ تَعالَى،
وهذا بخلافِ الدَّارِ الآخرةِ، فإنَّها خالصةٌ للذينَ آمنُوا.
ألا تريدونَ الآخرةَ!
{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا }
هذا أيضًا من الحِكَمِ، أنَّهُ اللهَ يبتلي عبادَهُ
بالهزيمةِ والابتلاءِ، ليتبيَّنَ المؤمنَ من المنافقِ؛ لأنَّهُ لو استمرَّ النصرُ
للمُؤمنينَ في جميعِ الوقائعِ، لدخلَ في الإسلامِ من لا يريدُهُ، فإذا حصلَ في
بعضِ الوقائعِ بعضُ أنواعِ الابتلاءِ، تبيَّنَ المؤمنُ حقيقةً الذي يرغبُ في
الإسلامِ، في الضرَّاءِ والسرَّاءِ، واليُسرِ والعُسرِ، ممَّنْ ليس َكذلكَ.
{ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ }
وهذا أيضًا من بعضِ الحِكَمِ، لأنَّ الشهادةَ عندَ اللهِ تعالَى من أرفعِ
المنازلِ، ولا سبيلَ لنيلِها إلَّا بما يحصلُ من وجودِ أسبابِها، فهذا من رحمتِهِ
بعبادِهِ المُؤمنينَ، أنْ قيَّض لهُم من الأسبابِ ما تكرهُهُ النُّفوسُ، ليُنيلَهم
ما يحبُّونَ من المنازلِ العاليةِ، والنَّعيمِ المقيمِ.
{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }
الذين ظلمُوا أنفسَهُم، وتقاعَدُوا عن القتالِ في سبيلِهِ،
وكأنَّ في هذا تعريضًا بذمِّ
المُنافِقِين، وأنَّهُم مُبْغَضُون للهِ تعالَى،
ولهذا ثبِّطَهَم عن القتالِ في سبيلِهِ، لأنَّ اللهَ لا يريدُ خروجَهُم إلَى القتالِ أصلًا
ولهذا ثبِّطَهَم عن القتالِ في سبيلِهِ، لأنَّ اللهَ لا يريدُ خروجَهُم إلَى القتالِ أصلًا
{ لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ }
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ
اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا
شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على
نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق