الوجه الثالث والعشرون من سورة ال عمران
قال تعالى:
(وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ )
(وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)
أي فراركم بين يدي عدوكم، وقتلهم لجماعة منكم، وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء الله وقدره، وله الحكمة في ذلك
(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ )
أي : الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا ، أن ما اصابهم
(يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)
أي: جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد من الهزيمة، أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، لا مرد له، ولا بد من وقوعه ، و أن الأمر القدري إذا نفذ ، لم يبق إلا التسليم له ، وأنه قدره لحكم عظيمة ، وفوائد جسيمة ، وأنه يتبين بذلك المؤمن من المنافق
الذين لما أمروا بالقتال،
(وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
أي: ذبا عن دين الله، وحماية له، وطلبا
لمرضاة الله
(أَوِ ادْفَعُوا )
أي : عن محارمكم وبلدكم، إن يكن لكم نية صالحة
فأبوا ذلك واعتذروا، بأن قالوا
(لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ )
أي : لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم قتال لاتبعناكم ، وهم كذبة في هذا، وقد علموا وتيقنوا، وعلم كل أحد أن هؤلاء المشركين قد ملئوا من الحنق والغيظ على المؤمنين ، بما أصابوا منهم ، وأنهم قد بذلوا أموالهم وجمعوا ما يقدرون عليه من الرجال والعدد، وأقبلوا في جيش عظيم ، قاصدين المؤمنين في بلدهم.
فمن كانت هذه حالهم ؛ فكيف يتصور أنهم لا يصير بينهم وبين المؤمنين قتال أبدا؟!
خصوصاً وقد خرج المسلمون من المدينة وبرزوا لهم، هذا من المستحيل ولكن المنافقين ظنوا أن هذا العذر يمر على المؤمنين،
قال تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ)
أي في تلك الحال التي تركوا فيها الخروج مع المؤمنين
(أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ)
(يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )
هم للكفر بتصرفهم هذا التصرف أقرب للكفر من الإيمان وهذه خاصة بالمنافقين يظهرون بكلامهم وفعالهم ما يبطنون ضده في قلوبهم وسرائرهم
ومنه قوله تعالى : (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ)
فإنهم قد علموا وقوع القتال ،
ويستدل بهذه الآية على قاعدة عظيمة: وهي ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما ، وفعل أدنى المصلحتين للعجز عن أعلاهما
لأن المنافقين أمروا أن يقاتلوا للدّين ، فإن لم يفعلوا ذلك فللمدافعة عن العيال والأوطان، إذن فالقتال يكون أولاً للمدافعة عن الدين أولا، فإن لم يفعلوا ذلك فللمدافعة عن العيال والأوطان
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)
فيهديه لعباده المؤمنين ويعاقبهم عليه سبحانه
إذن ؛ قوله تعالى:
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا )
أي هناك سببان للقتال : إما القتال في سبيل الله عز وجل،
أو الدفاع عن الأولاد والعيال.
(قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ )
وكأنهم لا يعلمون عن القتال وتجاهلوا ذلك
(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ)
في هذا الوقت هم للكفر
(أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ )
(يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )
أي: يخفون شيئا في قلوبهم ويقولون بأفواههم قولا آخر
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)
لكن الله عز وجل أعلم سبحانه بما يكتمونه في صدورهم
ثم قال تعالى:
(الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوتَ إِن كُنتم صَادِقين)
(الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا )
أي: جمعوا بين التخلف عن الجهاد وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره
قال الله رادا عليهم:
(قُلْ فَادْرَءُوا)
أي: ادفعوا
(عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوتَ إِن كُنتم صَادِقين)
ونحن كذلك نرد بهذا الرد على من يقول بقانون الجذب وأن الإنسان يستطيع أن يجذب أقداره ، فنقول لهم أنكم شابهتم المنافقين بهذه المقولة ، و نرد على كل من يقول بهذا أن ادفع عن نفسك الموت إن كنت صادق ، مثل ما قال الله عز وجل
للمنافقين ، أنهم لو أطاعوكم ما قتلوا ، لا تقدرون على ذلك ولا تستطيعونه
وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة من النفاق، و خصلة من الكفر، و خصلة من الإيمان وقد يكون إلى أحداهما أقرب منه إلى الأخرى ،
أي قد يكون مسلم ولديه خصال من الكفار، و لديه خصال من
المنافقين
ثم يقول الله تعالى:
(وَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا )
هذه الآيات الكريمة فيها فضيلة الشهادة وكرامتها، وما من
الله عليهم به من فضله وإحسانه ومن ضمنها تسلية الأحياء عن قتلاهم، وتعزيتهم وتنشيطهم للقتال في سبيل الله، والتعرض للشهادة.
فقال : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
أي: في جهاد أعداء الدين ، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله سبحانه
وتعالى
(أَمْوات)
أي : لا يخطر ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفُقدوا، وذهبت عنهم لذة هذه الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها، الذي يحذر من فواته ، كمن خاف من القتال وزهد في الشهادة بل قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون فهم
(أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ)
فالله سبحانه يجازي بالمكافأة، فهم لما قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله تعالى ، جعلهم أحياء في الجنة ، فبمثل ما قدموا جازاهم الله عز وجل وكافأهم،
ولا شك ان الحياة الآخرة و الجنة، لا شك أنها تختلف تماما عن الحياة الدنيا
فهم أحياء عند ربهم في دار كرامته ، فالدنيا فيها حزن، الدنيا فيها ألم الدنيا تختلف تماما عن الدار الآخرة، فالآخرة فيها جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
(عِنْدَ رَبِهِم)
يقتضي على درجتهم وقربهم من ربهم
(يُرْزَقُونَ)
من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه إلا من أنعم به عليهم
ومع هذا كله
(فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ )
مغتبطين بذلك، قد قرت به عيونهم وفرحت به نفوسهم، وذلك لحسنه وكثرته وعظمته ، وكمال اللذة في الوصول إليه ، وعدم وجود المنغص ؛ فالدنيا فيها منغصات ولكن الآخرة
ليس فيها منغصات
فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق ، ونعيم القلب و الروح بالفرح
(بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)
فتم لهم النعيم والسرور
و جعلوا
(يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ)
أي : يبشر بعضهم بعضا بوصول إخوانهم الذين لم
يلحقوا بهم، وأنهم سينالون ما نالوا،
اللهم أجعلنا منهم يا حي يا قيوم
(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
أي : يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم، المستلزم كمال السرور
(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)
(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)
أي: يهنئ بعضهم بعضا بأعظم مهنأ، وهو نعمة ربهم وفضله وإحسانه ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، بل ينميه ويشكره، ويزيده من فضله مالا يصل إليه سعيهم؛
وفي هذه الآيات إثبات نعيم البرزخ، وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم، وفي تلاقي أرواح أهل الخير وزيارة بعضهم
بعضا وتبشير بعضهم بعضا
وهذا فيه دلالة على أن المؤمنين يتباشرون فيما بينهم، وأنهم يزور بعضهم بعضا،
و فيه دلالة على تلاقي أرواح أهل الخير، و إثبات نعيم البرزخ وأنه يوجد من المؤمنين من ينعمون في البرزخ،
اللهم اجعلنا منهم يا حي يا قيوم، اللهم يا ذا الجلال والإكرام
اجعلنا منهم
ثم يقول تعالى:
(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)
لما رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من أحد إلى المدينة، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين، قد همّوا بالرجوع إلى المدينة، ندب أصحابه إلى لخروج فخرجوا، على ما أصابهم من الجراح استجابة لله و لرسوله وطاعة لله ورسوله
و كانت الجراح فيهم و الدماء لم تتوقف، والجراح تنزف دما، وكانوا متعبين جداً من غزوة أحد ، وحزينين لأن الكثير من الصحابة قتلوا في هذه الغزوة، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد شج في رأسه، وكسرت رباعيته كانوا في أشد الالم،
وطلب الله عز وجل منهم وندب الرجوع إلى معركة أخرى، مع ما معهم من التعب، و ما فيهم من المشقة، و ما فيهم من الجراح، و دماؤهم لم تبرأ بعض، وحتى جراح قلوبهم على أصحابهم لم تنطفئ ومع ذلك يأمرهم الله عز وجل بغزوة أخرى ، فيرجعون.
ووصلوا إلى حمراء الأسد ، وجاءهم من جاءهم وقال لهم:
(إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)
وهموا باستئصالكم، تخويفا لهم وترهيبا، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه سبحانه.
(وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ)
كافينا الله عن كل ما أهمنا،
(وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
نعم المفوض إليه تدبير عباده والقائم بمصالحهم.
روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال : (ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا ، إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة) . انفرد به مسلم.
(ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا) أي: لا أحد يموت وله عند الله خير يرغب أن يرجع للدنيا
وكذلك في حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن أرواح الشهداء أرواح في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا.
ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا ربنا نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى , فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( لما أصيب إخوانكم في أحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب المشرب وطيب المأكل وحسن المنقلب، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، و لا ينكلوا عن الحرب.
فقال الله عز وجل: إني أبلغهم عنكم،
فأنزل الله تعالى قوله:
(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعا مرحوما و اجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما و لا تجعل معنا شقيا و لا محروما
و صل اللهم و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق