الأحد، يوليو 10، 2016

تفريغ سورة آل عمران من آية 30 إلى آية 37

























بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



الوجه الخامس من سورة آل عمران



 يقولُ اللهُ تَعالَى:

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )( 30)

‏‏هذه آيةٌ عظيمةٌ،
يوم القيامة سنجدُ كلَّ أعمالِنا ‏في صحائفِنا، وسنحاسبُ عليها،

نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ!

نسألُ اللهَ أنْ يعفوَ عنَّا، وأنْ يغفرَ لنا، وأنْ يرحمَنا يا حيُّ يا قيُّومُ!


{يَومَ }‏:

يقصدُ يومَ القيامةِ،


{ كُلُّ نَفسٍ}:
كلُّ نفسٍ: ‏مؤمنةٍ، كافرةٍ، تقيةٍ، صالحةٍ، ‏عاصيةٍ، مذنبةٍ.


{ما عَمِلَت مِن خَيرٍ}:
بدأ الله عزَّ وجلَّ بالخيرِ، مبينًا لنا فضلَهُ وجودَهُ وكرمَهُ ‏وإحسانَهُ ورحمتَهُ، وأنَّ الأصلَ في البشريةِ الخيرُ،

وأنَّ القلوبَ مجبولةٌ على الفطرةِ، ‏

{يَومَ تَجِدُ كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت مِن خَيرٍ مُّحْضَرًا }:
كاملاً موفَّراً لم ينقص مثقالُ ذرةٍ.

أيَّ خيرٍ، سواءً كان خيرًا عن طريقِ الفعلِ، أو خيرًا عن طريق القولِ‏،

أو ابتسامةً، أو كلمةً طيبةً قدَّمتها لأحدٍ، ونسيتها، ‏كلُّ هذا ستجدْهُ يومَ القيامةِ.


و‏الخيرُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يقرِّب إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ‏من الأعمالِ الصالحةِ، صغيرِها وكبيرِها،

‏كما أنَّ السُّوءَ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما ‏يُسخط اللهَ تَعالَى من الأعمالِ السَّيئةِ، صغيرِها وكبيرِها.

{وَما عَمِلَت مِن سوءٍ }؛ هذا الطرفُ الآخرُ من الآية

{وَما عَمِلَت مِن سوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَها وَبَينَهُ أَمَدًا بَعيدًا}:

ما هو هذا الذي بينها وبينه؟
أي: عمل السوء.

{أَمَدًا بَعيدًا}:

مسافةً بعيدةً، ‏تتمنَّى أنَّ بينَهُ وبينَها مسافةً بعيدةً، ‏لعظمِ أسفِها، وشدةِ حزنِها.

فاعملْ على نفسِك الآنَ،

وليحذرِ العبدُ ‏من أعمالِ السُّوءِ، التي ‏لابدَّ أن يحزنَ عليها أشدَّ الحزنِ، عند الموتِ، ‏وفي القبر،

ويوم القيامةِ ستتألمُ وتندمُ،

علينا أن نعملَ الآنَ، ونَجِدْ و نجتهد‏،
حتى لا نكثرَ من الندمِ ‏يومَ القيامةِ، ولا يكثرَ الحزنُ علينا، ولا نتألَّمَ.

اتركْها قدرَ الإمكانِ، قبل أن تقولَ:

{يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ }.

{يَومَئِذٍ يَوَدُّ الَّذينَ كَفَروا وَعَصَوُا الرَّسولَ لَو تُسَوّى بِهِمُ الأَرضُ}

فواللهِ! لتركُ كلِّ شهوةٍ ولذةٍ، وإنْ عَسُرَ تركُها على النفسِ في هذه الدارِ، أيسرُ من معاناةِ تلكَ الشدائدِ، واحتمال ِتلك الفظائعِ،

ولكنَّ العبدَ - بعضَ الأحيان- بسبب ظلمِهِ وجهلِهِ وغفلتِهِ، لا ينتبهُ لهذا، فلنحذرْ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)( 31)

{قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعوني}:

هذه الآيةُ فيها وجوبُ محبةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعلاماتُها، ونتيجتُها، وثمراتُها.

فقال: {قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعوني}:

أي ادَّعيْتُم هذه المرتبةَ العاليةَ،
هذه المرتبةُ عاليةٌ جداً، ولا يمكنُ لأيِّ شخصٍ أن يصلَ هذه المرتبةَ،

فلنطلبْها جميعاً، ‏ولنسعَى إليها.


ماهي هذه المرتبة ؟
{قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعوني يُحبِبكُمُ اللَّهُ}

ليسَتِ المسألةُ مجرَّدَ مسألةِ دعوىٍ، بل لا بدَّ من الصدقِ في هذا،

حتى تصدُقَ مع اللهِ عزَّ وجلَّ لا بدَّ أنْ تقدِّم الأعمالَ،

علاماتُ الصِّدقِ إتباعُ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ‏في جميعِ أحوالِهِ، وفي أقوالِهِ وأفعالِهِ، وفي أصولِ الدينِ وفروعِهِ الظاهرةِ والباطنةِ.
فمن اتَّبَع الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، دلَّ على صدقِ دعواهُ ‏محبةَ اللهِ تَعالَى،

وأحبَّهُ اللهُ عزَّ وجلَّ وغفرَ له ذنبَهُ، ‏ورحمَهُ، وسدَّدَهُ وسدَّدَ حركاتِهِ وسكناتِهِ، والعكس.

يقولُ اللهُ تَعالَى:

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )( 32)

{قُل أَطيعُوا اللَّهَ وَالرَّسولَ}:
من الصِدقِ في المحبةِ، طاعةُ اللهِ عزَّ وجلَّ، والرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.


{قُل أَطيعُوا اللَّهَ وَالرَّسولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرينَ}:
وهذا أمرٌ من اللهِ تَعالَى لعبادِهِ بأعمِّ ‏الأوامرِ،
وهو طاعتُهُ وطاعةُ رسولِهِ، التي يدخلُ ‏بها الإيمانُ والتوحيدُ، ‏وما هو من فروعِ ذلك من الأعمالِ، والأقوالِ الظاهرةِ والباطنةِ.


بل ويدخل في طاعتِهِ، وطاعةِ رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،

‏اجتنابُ ما نهَى عنهُ، ‏لأنَّ اجتنابَهُ امتثالٌ لأمرِ اللهِ ‏عزَّ وجلَّ.

{فَإِن تَوَلَّوا}:
يعني أعرضُوا عن طاعةِ اللهِ سُبحانَهُ  وتَعالَى ورسولِهِ،
فليسَ ثمَّةَ أمرٍ يرجعون إليهِ، إلا الكفرَ وطاعةَ كلِّ شيطانٍ مريدٍ.
والعياذُ بالله.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )( 33)

{إِنَّ اللَّهَ اصطَفى آدَمَ وَنوحًا وَآلَ إِبراهيمَ}:
يخبرُ اللهُ تَعالَى باختيارِ من اختارَهُ من أولياءِهِ وأصفيائِهِ وأحبابِهِ،

فأخبرَ أنَّهُ اصطفَى آدمَ،
أي اختارَهُ على سائرِ المخلوقاتِ،
فخلقَهُ ‏بيدِهِ، ونفخَ فيه ‏من روحِهِ، ‏وأمرَ الملائكةَ بالسجودِ لهُ، ‏وأسكنَهُ جنتَهُ، ‏وأعطاهُ من العلمِ ‏والحلمِ والفضلِ ‏ما فاقَ به سائرَ المخلوقاتِ،

ولهذا فضَّل الله بنيه، ‏فقال:

{وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ}
واصطفَى نوحاً، فجعلَهُ أولَ رسولٍ إلى ‏أهلِ الأرضِ، حين عبدَتْ أهلُ الأرضِ الأوثانَ‏،

ووفقَهُ من الصَّبرِ والاحتمالِ ‏والشُّكرِ، والدَّعوةِ إلى الله في جميع ‏الأوقاتِ، ما أوجبَ اصطفاءَهُ واجتباءَهُ،

وأغرقَ أهلَ الأرضِ بدعوتِهِ، ‏ونجَّاهُ ومن معه في الفلكِ المشحونِ،

‏وجعلَ ذريتَهُ هم الباقِين،
‏وترك عليه ثناءً ‏يُذكرُ في جميع الأحيانِ ‏والأزمانِ.

واصطفَى آلَ إبراهيمَ،

وهو إبراهيمُ خليلُ الرحمن، الذي اختصَّه اللهُ عزَّ وجلَّ بِخِلَّتِه،

‏وبذلَ نفسَهُ للنِّيرانِ، ‏وولدَهُ للقربانِ، ‏ومالَهُ للضِّيفانِ،
‏ودعا إلى ربِّهِ ليلاً ونهارًا، ‏وسرًّا وجهارًا،
وجعلَهُ اللهُ سُبحانَهُ ‏أُسوةً يَقتدي به مَن بعدَهُ،
‏وجعلَ في ذريَّتِهِ النبوَّةَ والكتابَ،

ويدخلُ في آلِ إبراهيمَ ‏جميعُ الأنبياءِ ‏الَّذين بُعِثوا من بعدِهِ، ‏لأنَّهم من ذرِّيتِه.
وقد خصَّهُم بأنواعِ الفضائلِ ‏ما كانوا به صفوةً على العالَمين،
ومنهُم سيِّدُ ولدِ آدمَ مُحَمَّدٌ‏ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
واصطفَى آلَ عمرانَ، وهو والدُ مريمَ ابنة عمرانَ، أو والدُ ‏موسَى ابن عمرانَ.
فهذه البيوتُ التي ذكرَها اللهُ عزَّ وجلَّ ‏هي صفوتُهُ من العالَمين،

‏و تسَلْسَل الصَّلاحُ والتَّوفيقُ ‏بذُرِّيَّاتِهم،


يقولُ اللهُ تَعالَى:

( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )( 31)

{ذُرِّيَّةً بَعضُها مِن بَعضٍ}:
‏أي حصلَ التناسبُ والتشابهُ بينَهم، ‏في الخلقِ والأخلاقِ الجميلةِ.

كما ذَكر جملةً من الأنبياءِ الدَّاخلين في ‏ضمن هذه البيوتِ الكبارِ ‏

{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
{وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ}:
يعلم من يستحقُّ الإصطفاءَ فيصطَفيهُ، ‏ومن لا يستحقُّ ذلك فيخذلَهُ ‏ويُردِيهُ،
ودلَّ هذا على أنَّ هؤلاءِ اختارَهم ‏لمَّا علمَ من أحوالِهِم ‏الموجِبةِ لذلك ‏فضلاً منْهُ وكرمًا.
ومن الفائدةِ والحكمةِ في قَصِّه ‏علينا أخبارَ هؤلاءِ الأصفياءِ، ‏
أنْ نحبَّهم و نقتديَ بهم، ‏
ونسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يوفِّقَنا لما وفَّقَهم،
‏وأنْ لا نزال نزريَ أنفسَنا‏ بتأخُّرِنا عنهم، ‏وعدمَ اتِّصافِنا بأوصافِهِم ‏ومزايَاهم الجميلةِ،
‏وهذا أيضًا من لطفِهِ بهِم، ‏وإظهارِهِ الثناءَ عليهِم ‏في الأوَّلِين والآخِريِن، والتنويه بشرفهم. ‏

والله عزَّ وجلَّ ذو الفضلِ العظيمِ‏،

فللَّه ما أعظمَ جودَهُ ‏وكرمَهُ، ‏وأكثرَ فوائدَ معاملتِهِ،

‏لو لم يكنْ لهم من الشَّرفِ إلا أنَّ ‏اللهَ عزَّ وجلَّ جعلَ ذكرَهُم مُخَلَّدًا، ‏ومناقبَهم مؤبَّدةً،  لكفَى بذلك فضلًا.

يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )( 35)

ولمَّا ذكرَ فضائلَ هذه البيوتِ الكريمةِ، ‏ذكرَ ما جرَى لمريمَ والدةِ عيسَى، ‏وكيفَ لطفَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها في تربيتِها ونشأتِها، فقالَ:

{ إِذ قالَتِ امرَأَتُ عِمرانَ }:
ماذا قالَتْ والدةُ مريمَ عندما حملَتْ؟

- ‏نحن نقولُ: في أيِّ مستشفى سنلدُ؟ ‏وكيف تكونُ الولادةُ؟ ‏وماذا سننجبُ؟ و‏أمورًا أخرَى ننشغلُ بها -

هي ماذا قالَتْ؟

قالَتْ:
{ رَبِّ إِنّي نَذَرتُ لَكَ ما في بَطني مُحَرَّرًا }:
‏جعلْتُ ما في بطنِي خالصًا  لوجهِكَ الكريمِ، محرَّرًا لخدمتِكَ وخدمةِ بيتِكَ،

{ فَتَقَبَّلْ مِنِّي }:
‏ هذا العملَ المباركَ ‏العظيمَ،

{ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }:
‏تسمعُ دعائِي، وتعلمُ نيَّتِي وقصدِي.

وهذا وهي في البطنِ قبلَ وضعِها‏،
- كلُّ هذا الجهدِ والإجتهادِ من أمِّ مريمَ، ‏ قبلَ أن تلدَ مريمَ-


يقولُ اللهُ تَعالَى:

(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)( 36)

{ فَلَمّا وَضَعَتها قالَت رَبِّ إِنّي وَضَعتُها أُنثى }:  ‏
كأنَّها تشوَّفَت أنْ يكونَ ذكرًا، ‏ليكون أقدرَ على الخدمةِ، ‏وأعظمَ موقعًا،

‏ففي كلامِها نوعُ عذرٍ من ربِّها.

{فَلَمّا وَضَعَتها قالَت رَبِّ إِنّي وَضَعتُها أُنثى}

‏كأنها تعتذرُ من اللهِ ‏عزَّ وجلَّ،
‏كأنها كانت تتوقَّعُ بأنه ذكرٌ، ‏وأنَّه سيكون خادمًا في المسجدِ.

نظرتُها هي النظرةُ البشريَّةُ القاصرةُ،

إلا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ‏عليمٌ حكيمٌ واسعُ المغفرةِ يدبِّرُ الأمرَ -سُبحانَهُ ‏جلَّ وعَلا.

‏فولدَتْ مريمَ عليها السَّلامُ،
{وَاللَّهُ أَعلَمُ بِما وَضَعَت}:
لا يحتاجُ إلى إعلامِها، ‏بل علمُهُ متعلقٌ بها قبلَ أن تعلمَ.

{وَلَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثى وَإِنّي سَمَّيتُها مَريَمَ}:
‏فيه دلالةٌ على تفضيلِ الذَّكرِ على الأنثَى،
وعلى ‏التَّسميةِ وقتَ الولادةِ،
‏وعلى أنَّ للأمِّ تسميةُ الولدِ ‏إذا لمْ يكرَهْ ‏الأبُ.

لما ولدتها قالت:
{وَإِنّي أُعيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ}

دعَتْ لهَا ولذريَّتِها ‏أنْ يعيذَهم اللهُ عزَّ وجلَّ ‏من الشَّيطانِ الرجيمِ،
هذا عملٌ عظيمٌ، ‏فهي بعد الولادةِ دعَتْ لها، ‏ولذريّتِها أيضًا.
ثم من ولدت؟
ولدَتْ مريمَ ‏عليها السَّلامُ

أحيانًا نشتكي من أمورٍ‏، نُرَبِّي ولا نجد ‏ذاك الأثرَ،
لم نكنْ نقدمُها خالصةً،
الله عزَّ وجلَّ ‏لا يردُّ عملاً خالصًا.

‏انظروا ماذا فعلَتْ أمُّ مريمَ، ‏لما وجد ما في قلبِها من حسرةٍ وألمٍ، تريدُ ‏أن تلدَ ولداً ذكراً حتَّى يخدمَ ‏بيتَ المقدسِ،

‏فلمَّا ولدَتْ مريمَ تحسَّرَتْ،‏هذه نظرتُها البشريةُ.

لكنَّ ‏الله عزَّ وجلَّ ‏سُبحانَهُ أعطَاها رزقاً عظيمًا، ‏أعطَاها مريمَ، ‏

ومريمُ تلكَ أنجبَتْ عيسَى عليه السَّلامُ ،
علينا أن لا نكرهَ ‏الأمورَ إذا لم تأتِ كيفما نريدُ، ‏
فالله ‏أرحم بك، سُبحانَهُ!


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )( 37)

{فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبولٍ حَسَنٍ}:
جعلها نذيرةً مقبولةً، وأجارَها وذريَّتَها من الشَّيطانِ،

{ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا }:
نبتت نباتاً حسنًا، في بدنِها وخَلقها وأخلاقِها، ‏

لأنَّ اللهَ ‏تَعالَى قيَّض لها زكريَا عليه السَّلامُ، ‏

{ وَكَفَّلَهَا }:
إيَّاه

وهذا من رفق ربِّها بها، ‏ليربِّيَها على أكملِ الأحوالِ،

‏فنشأَتْ في عبادةِ ربِّها، ‏وفاقَتِ النساءَ، ‏وانقطعَتْ لعبادةِ ربِّها، ‏ولزمَتْ محرابَها (مصلَّاها)،

فكان { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا }:
‏من غير كسبٍ ولا تعبٍ،
‏بل رزقٌ ساقَهُ اللهُ إليها، ‏وكرامةٌ أكرمَها اللهُ بها،


فيقولُ لها زكريَا:
{ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا }:

قالَتْ:
{ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ }:
‏فضلًا وإحسانًا،‏
- هي تعرفُ من هو اللهُ-

{ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }:
‏من غير حسبانٍ من العبدِ ولا كسبٍ.

قال تَعالَى:
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ}‏

يامن أصابَتْكَ الهمومُ والأحزانُ!

وفي هذه الآية دليلٌ على إثباتِ كراماتِ الأولياءِ ‏الخارقةِ للعادةِ،
‏كما قد تواترَتِ الأخبارُ بذلك خلافًا لمن نفَى ذلك،

فلمَّا رأَى زكريَا عليه السَّلامُ ‏ما منَّ اللهُ به على مريمَ،

‏وما أكرمَها بهِ من رزقِهِ ‏الهنيءِ، الذي أتَاها بغيرِ سعيٍ منْها ‏ولا كسبٍ، طمعَتْ نفسُهُ بالولدِ.



سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليك.

اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.

وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ.


ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق