بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه السابع من سورة
آل عمران
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ )( 46)
{ وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا }:
وهذا غيرُ التَّكليمِ
المعتادِ،
بل المرادُ: يكلمُ الناسَ
بما فيهِ صلاحُهُم وفلاحُهُم،
وهو تكليمُ المُرسَلين،
ففي هذا إرسالُهُ ودعوتُهُ
الخلقَ إلى ربِّهِم،
وفي تكليمِهِم في المهدِ،
آيةٌ عظيمةٌ من آياتِ اللهِ تَعالَى،
ينتفعُ بها المُؤمِنون،
وتكونُ حجةً على المُعانِدين، أنَّهُ رسولُ ربِّ العالَمين، وأنَّهُ عبدُ اللهِ،
وليكونَ نعمةً وبراءةً لوالدتِهِ ممَّا رُمِيَتْ بهِ.
{ وَمِنَ الصَّالِحِينَ }:
أي: يمنُّ عليهِ بالصَّلاحِ،
فيمَنْ منَّ اللهُ عليهِم، ويدخلُهُ في جملتِهِم،
وفي هذا عدَّةُ بشاراتٍ
لمريمَ، مع ما تضمَّنَ من التَّنويهِ بذكرِ المسيحِ عليهِ السَّلامُ.
روَى مُحَمَّدُ بن إسحاقَ،
عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ:
" ما تكلَّمَ مولودٌ في
صغرِهِ إلا عيسَى، وصاحبُ جُريجٍ".
وقالَ:
" لم يتكلَّمْ في المهدِ
إلا ثلاثةٌ، عيسَى، وصبيٌّ كانَ في زمنِ جُريجٍ، وصبيٌّ آخرُ".
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( قَالَتْ رَبِّ
أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن
فَيَكُونُ )( 47)
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي
وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ }:
والولدُ في العادةِ لا يكونُ
إلا من مسِّ البشرِ،
وهذا استغرابٌ منْها، لا شكٌّ
في قدرةِ اللهِ تَعالَى.
{ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن
فَيَكُونُ }:
فلمَّا سمعَتْ مريمُ بشارةَ
الملائكةِ لها بذلكَ، عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَتْ في مناجاتِها:
{ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ }:
تقولُ: كيفَ يوجدُ هذا الولدُ
منِّي، وأنا لسْتُ بذاتِ زوجٍ، ولا منْ عزمِي أن أتزوجَ، ولسْتُ بغيًّا؟
- حاشَا للهِ.
فقالَ لها الملَكُ، عنِ اللهِ
عزَّ وجلَّ، في جوابِ هذا السُّؤالِ:
{ كَذَٰلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ }:
أي: هكذا أمرُ اللهِ عظيمٌ،
لا يعجزُهُ شيءٌ.
وصرَّحَ هاهنا بقولِهِ:
{ يَخْلُقُ }
ولم يقلْ: " يفعلُ
" كما في قصَّةِ زكريَّا،
بل نصَّ هاهُنا على أنَّهُ
يخلقُ، لئلَّا يبقَى للمُبطلِ شبهةٌ،
وأكَّدَ ذلكَ بقولِهِ:
{إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
أي: فلا يتأخرُ شيئًا، بل
يوجدُ عُقيبَ الأمرِ بلا مهلةٍ،
كقولِهِ تعالَى:
{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا
وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }
أي: إنَّما نأمرُ مرةً واحدةً،
لا مثنويَّةَ فيها، فيكونُ ذلكَ الشيءُ سريعًا، كلمحٍ بالبصرِ.
فلا إلهَ إلا اللهُ!
{ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن
فَيَكُونُ }
فأخبرَها أنَّ هذا أمرٌ خارقٌ
للعادةِ، خلقَةُ من يقولُ لكلِّ أمرٍ أرادَهُ: { كُن فَيَكُونُ }
فمَنْ تيقَّنَ ذلكَ، زالَ عنْهُ
الاستغرابُ والتعجُّبُ،
ومن حكمةِ البارِي تَعالَى،
أنْ تدرَّجَ بأخبارِ العبادِ من الغريبِ إلى ما هو أغربُ منْهُ،
فَذكرَ وجودَ يَحيَى بن زَكريَّا
بين أبوَين أحدُهُما كبيرٌ، والآخرُ عاقرٌ،
ثمَّ ذكرَ أغرَبَ من ذلكَ
وأعجَبَ، وهو وجودُ عيسَى عليهِ السَّلامُ من أمٍّ بلا أبٍ،
ليدلَّ عبادَهُ دلالةً
صريحةً، أنَّهُ الفعَّالُ لما يريدُ- سُبحانَهُ، وأنَّهُ ما شاءَ كانَ، وما لم
يشأْ لم يكُنْ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ )( 48)
ثمَّ أخبرَ اللهُ تَعالَى عنْ منَّتِهِ العظيمةِ على عبدِهِ ورسولِهِ
عيسَى عليهِ السَّلامُ، فقالَ:
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ }:
يُحتملُ أن يكونَ المرادُ: جنسَ الكتابِ،
فيكونُ ذكرُ التَّوراةِ والإنجيلِ تخصيصًا لهُما،
لشرفِهِما وفضلِهِما، واحتوائِهِما على الأحكامِ والشَّرائعِ، التي
يحكمُ بها أنبياءُ بنِي إسرائيلَ
والتعليمَ، لذلكَ يدخلُ فيه تعليمُ ألفاظِهِ ومعانيهِ،
ويُحتملُ أن يكونَ المرادُ بقولِهِ:
{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ }:
أي: الكتابةَ، لأنَّ الكتابةَ من أعظمِ نعمِ اللهِ على عبادِهِ،
ولهذا امتنَّ تَعالَى على عبادِهِ، بتعليمِهِم بالقلمِ، في أوَّلِ
سورةٍ أنزلَهَا، فقالَ:
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ( 1 ) خَلَقَ الْإِنسَانَ
مِنْ عَلَقٍ( 2 ) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ( 3 ) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ( 4 ) }
والمرادُ بالحكمةِ معرفةُ أسرارِ الشَّرعِ، ووضعُ الأشياءِ مواضَعَها،
فيكونُ ذلكَ امتنانًا على عيسَى عليهِ السَّلامُ، بتعليمِهِ
الكتابةَ والعلمَ والحكمةَ، وهذا هو الكمالُ للإنسانِ في نفسِهِ.
يقولُ تَعالَى مخبرًا عن تمامِ بشارةِ الملائكةِ لمريمَ،
بابنِها عيسَى عليهِ السَّلامُ، أنَّ اللهَ يعلِّمُهُ:
{ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }:
والظاهرُ أنَّ المرادَ بالكتابِ: الكتابةُ، والحكمةِ:
الكلامُ.
{ وَالتَّوْرَاةَ
وَالْإِنجِيلَ }:
فالتَّوراةُ: هو الكتابُ
الذي أنزلَهُ اللهُ على موسَى بن عمرانَ.
والإنجيلُ: الذي أنزلَهُ
اللهُ على عيسَى بنِ مريمَ عليهِما السَّلامُ،
وقد كانَ عيسَى عليهِ
السَّلامُ، يحفظُ كليهِما.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَرَسُولًا إِلَىٰ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ
طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي
الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ )( 49)
ثمَّ ذكرَ لهُ كمالًا آخرَ، وفضلًا زائدًا على ما أعطاهُ
اللهُ من الفضائلِ،
فقالَ:
{ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ }:
فأرسلَهُ اللهُ إلى هذا الشَّعبِ الفاضلِ، الذين هم
أفضلُ العالَمين في زمانِهِم، يدعُوهُم إلى اللهِ،
وأقامَ لهُ من الآياتِ، ما دلَّهُم أنَّهُ رسولُ اللهِ
حقًّا، ونبيُّهُ صدقًا،
ولهذا قالَ:
{ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ }:
طيرًا، أي: أصوِّرُهُ على شكلِ الطَّيرِ،
{ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
}:
أي: طيرًا له روحٌ، يطيرُ بإذنِ اللهِ.
{ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ }:
وهو الذي يولدُ أعمَى
{ وَالْأَبْرَصَ }:
بإذنِ اللهِ.
{ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ
وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }:
وأيُّ آيةٍ أعظمُ من جعلِ الجمادِ حيوانًا، وإبراءِ ذوي
العاهاتِ التي لا قدرةَ للأطباءِ في معالجتِها، وإحياءِ الموتَى، والإخبارِ
بالأمورِ الغيبيَّةِ!
فكلُّ واحدةٍ من هذه الأمورِ، آيةٌ عظيمةٌ بمفردِها،
فكيفَ بها إذا اجتمعَتْ، وصدَّقَ بعضُها بعضًا؟
فإنَّها موجبةٌ للإيقانِ، وداعيةٌ للإيمانِ.
( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ):
أي: ويجعلُهُ رسولًا إلى بني إسرائيلَ،
قائلًا لهُم:
{ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ
اللَّهِ }
وكذلكَ كانَ يفعلُ:
يصوِّرُ من الطِّينِ شكلَ طيرٍ، ثمَّ ينفخُ فيهِ، فيطيرُ
عيانًا، بإذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، الذي جعلَ هذا معجزةً لهُ، تدلُّ على أنَّ اللهَ
أرسلَهُ.
{ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ }:
هو الذي يولدُ أعمَى.
وهذا المعنَى أبلغُ في المعجزةِ، وأقوَى في التَّحدي.
{ وَالْأَبْرَصَ }:
معروفٌ.
{ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ }:
قالَ كثيرٌ من العلماءِ:
بعثَ اللهُ كلَّ نبيٍّ من الأنبياءِ، بمعجزةٍ تناسبُ
أهلَ زمانِهِ،
فكانَ الغالبُ على زمانِ موسَى عليهِ السَّلامُ، السِّحُر
وتعظيمُ السَّحرةِ، فبعثَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بذلك.
وأمَّا عيسَى عليهِ السَّلامُ، فبُعثَ في زمنِ الأطبَّاءِ،
وأصحابِ علمِ الطَّبيعةِ،
فجاءَهُم من الآياتِ بما لا سبيلَ لأحدٍ إليهِ، إلا أن
يكونَ مؤيَّدًا من الذي شرعَ الشَّريعةَ.
فمِنْ أينَ للطَّبيبِ قدرةٌ على إحياءِ الجمادِ، أو على
مداواةِ الأكمَهِ والأبرصِ، وبعثِ من هو في قبرِهِ رهينًا إلى يومِ التَّنادِ؟
وكذلك مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، بعثَهُ اللهُ
في زمنِ الفصحاءِ والبلغاءِ،
فأتاهُم بكتابٍ من اللهِ عزَّ وجلَّ، لو اجتمعَتِ الإنسُ
والجنُّ على أنْ يأتُوا بمثلِهِ، ما استطاعُوا أبدًا.
{ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ ْ}:
تدلُّ على صدقِي، فيما جئْتُكُم بهِ.
{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(وَمُصَدِّقًا لِّمَا
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ )( 50)
{ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ }:
أي: أتيْتُ بجنسِ ما جاءَتْ به التَّوراةُ، وما جاءَ به
موسَى عليهِ السَّلامُ،
وعلامةُ الصَّادقِ، أن يكونَ خبرُهُ من جنسِ خبرِ الصَّادِقين،
يخبرُ بالصِّدقِ، ويأمرُ بالعدلِ، من غيرِ تخالفٍ ولا
تناقضٍ،
بخلافِ من ادَّعَى دعوَى كاذبةً، خصوصًا أعظمُ الدَّعاوَى،
وهي دعوَى النبوَّةِ،
فالكاذبُ فيها، لابدَّ أن يظهرَ لكلِّ أحدٍ كذبُ صاحبِها،
وتناقضُهُ، ومخالفتُهُ لأخبارِ الصَّادِقين، وموافقتُهُ لأخبارِ الكاذِبين،
وهذا موجبُ السُّننِ الماضيةِ، والحكمةِ الإلهيَّةِ،
والرحمةِ الربانيَّةِ بعبادِهِ،
إذ لا يشتبهُ الصَّادقُ بالكاذبِ، في دعوَى النبوَّةِ
أبدًا،
فمن المستحيلِ أن يشتبهَ بهِ أحدٌ، هل هو نبيٌّ أم لا؟!
بل النبوَّةُ أمرُها عظيمٌ، فلذلكَ يتبيَّنُ الصِّدقُ
منها مباشرةً،
ويترتَّبُ على النبوَّةِ هدايةُ الخلقِ أو ضلالُهُم، سعادتُهُم
أو شقاؤُهُم،
ومعلومٌ أنَّ الصَّادقَ فيها، من أكملِ الخَلقِ خلقًا.
قالَ تَعالَى:
{ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
}:
فدلَّ ذلكَ على أنَّ أكثرَ أحكامِ التَّوراةِ، لم ينسخْها
الإنجيلُ، بل كانَ مُتمِّمًا لهَا، ومُقرِّرًا.
{ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ }:
تدلُّ على صدقِي، ووجوبِ اتِّباعِي،
وهي ما تقدَّمَ من الآياتِ.
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ }:
بفعلِ ما أمرَ بِهِ، وتركِ ما نهَى عنهُ.
{ وَأَطِيعُونِ }:
وأطيعونِي، فإنَّ طاعةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، طاعةٌ للهِ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )( 51)
{ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ }:
استدلَّ في هذه الآيةِ، بتوحيدِ
الربوبيَّةِ، الذي يقرُّ بهِ كلُّ أحدٍ على توحيدِ الألوهيَّةِ، الذي ينكرُهُ المُشرِكون،
- فالمشرِكُون كانوا يُنكِرُون
توحيدَ الألوهيَّةِ، ولا يُنكِرُون توحيدَ الربوبيَّةِ-
فكما أنَّ اللهَ هو الذي خلقَنا
ورزقَنا وأنعمَ علينا نعمًا ظاهرةً وباطنةً،
فليكُنْ هو معبودُنا الذي نحبُّهُ
ونخافُهُ ونرجُوهُ وندعُوهُ ونستعينُ بهِ، ونصرفُ جميعَ أنواعِ العبادةِ لهُ.
وفي هذا ردٌّ على النَّصارَى،
القائِلين بأنَّ عيسَى إلهٌ أو ابنُ اللهِ،
وهذا إقرارُهُ عليهِ السَّلامُ بأنَّهُ
عبدٌ مُدبَّرٌ مخلوقٌ،
كما قالَ:
{ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا }
آتَانِيَ الْكِتَاب، ولم أخلقْهُ
أو أدبِّرْه،
فهناكَ مُدبِّرٌ لعيسَى عليهِ
السَّلامُ.
وقالَ تَعالَى:
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن
دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ }
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي
إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )( 52)
{ فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ }:
أي: رأَى منْهُم عدمَ
الانقيادِ لهُ، وقالوا هذا سحرٌ مبينٌ، وهمُّوا بقتلِهِ، وسعَوا في ذلكَ،
{ قَالَ مَنْ أَنصَارِي
إِلَى اللَّهِ }:
من يعاونُنِي، ويقومُ
معي بنصرةِ دينِ اللهِ؟
{ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ }:
وهمُ الأنصارُ،
{ نَحْنُ أَنصَارُ
اللَّهِ }:
أي: انتدبُوا معَهُ،
وقامُوا بذلكَ.
وقالوا:
{ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
قولُهُ تَعالَى:
{ فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ }:
أي: استشعرَ منْهُم التَّصميمَ على الكفرِ، والاستمرارَ
على الضَّلالِ
قالَ:
{ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ }:
قالَ مجاهدُ: أي من يتبعُنِي إلى اللهِ؟
والظَّاهرُ أنَّهُ أرادَ:
من أنصارِي في الدَّعوةِ إلى اللهِ ؟
كما كانَ النبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يقولُ في مواسمِ الحجِّ، قبلَ أن يهاجرَ:
" من رجلٌ يُؤوينِي
على أنْ أبلِّغَ كلامَ ربِّي، فإنَّ قريشًا قد منعُونِي أنْ أبلِّغَ كلامَ ربِّي "
حتى وجدَ الأنصارَ، فآوَوهُ
ونصرُوهُ، وهاجرَ إليهِم، فآسوهُ ومنعُوهُ من الأسودِ والأحمرِ، رضيَ اللهُ عنْهُم
وأرضاهُم.
وهكذا عيسَى بنُ مريمَ
عليهِ السَّلامُ، انتدبَ له طائفةٌ من بني إسرائيلَ، فآمنُوا بهِ، وآزرُوهُ، ونصرُوهُ،
واتَّبعُوا النُّورَ الذي أُنزِلَ معهُ.
ولهذا قالَ تَعالَى مخبرًا
عنْهُم:
( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ( 52 )
( رَبَّنَا آمَنَّا
بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( 53
)
الحواريُّون: قيلَ:
كانوا قصارييِّن،
والصَّحيحُ أنَّ
الحواريَّ: النَّاصرُ،
كما ثبتَ في الصَّحيحَين،
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لمَّا ندبَ الناسَ يومَ الأحزابِ،
فانتدبَ الزُّبيرُ، ثمَّ ندبَهُم، فانتدبَ الزُّبيرُ رضيَ اللهُ عنْهُ، ثمَّ ندبَهُم
فانتدبَ الزُّبيرُ،
فقالَ النبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
" إنَّ لكلِّ نبيٍّ
حواريًّا، وحوارييَّ الزُّبيرُ".
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )( 53)
{ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ }:
أي: الشَّهادةُ النَّافعةُ،
وهي الشَّهادةُ بتوحيدِ اللهِ، وتصديقِ رسولِهِ، مع القيامِ بذلكَ،
فلمَّا قامُوا مع عيسَى
بنصرِ دينِ اللهِ، وإقامةِ شرعِهِ، آمنَتْ طائفةٌ من بني إسرائيلَ، وكفرَتْ طائفةٌ.
فاقتتلَتِ الطَّائفتَان،
فأيَّدَ اللهُ الذين
آمنُوا بنصرِهِم على عدوِّهِم، فأصبحُوا ظاهِرين.
ورُويَ عن ابنِ أبي
حاتمٍ، عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُ، في قولِهِ:
{ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
}:
قالَ: مع أمَّةِ
مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وهذا إسنادٌ جيدٌ.
( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليك.
اللهمَّ اجعلْ هذا
الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا
تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ
وباركَ على نبيّنا محمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق