بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه الثامن من سورة
آل عمران
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )( 53)
{ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ }:
أي: الشَّهادةُ النَّافعةُ،
وهي الشَّهادةُ بتوحيدِ اللهِ، وتصديقِ رسولِهِ، مع القيامِ بذلكَ،
فلمَّا قامُوا مع عيسَى
بنصرِ دينِ اللهِ، وإقامةِ شرعِهِ، آمنَتْ طائفةٌ من بني إسرائيلَ، وكفرَتْ طائفةٌ.
فاقتتلَتِ الطَّائفتَان،
فأيَّدَ اللهُ الذين
آمنُوا بنصرِهِم على عدوِّهِم، فأصبحُوا ظاهِرين.
ورُويَ عن ابنِ أبي
حاتمٍ، عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُ، في قولِهِ:
{ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ }:
قالَ: مع أمَّةِ
مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وهذا إسنادٌ جيدٌ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )( 54)
يخبرُ اللهُ تَعالَى عن
أنَّ اليهودَ همُّوا بقتلِ عيسَى عليهِ السَّلامُ، وأرادُوا الفتكَ بهِ، ووشَوا بهِ
إلى الملكِ.
ورمَوهُ ببعضِ الأمورِ،
منْها أنَّهُ كاذبٌ، وأنَّهُ ولدُ زنَا،
فلمَّا أحاطُوا بمنزلِهِ،
وظنَّوا أنَّهُم قد ظفرُوا بهِ،
نجَّاهُ اللهُ تَعالَى
منْهُم، ورفعَهُ من بيتِهِ إلى السَّماءِ، وألقَى اللهُ شبهَهُ على رجلٍ كان عندَهُ
في المنزلِ،
فلمَّا دخلَ أولئكَ،
اعتقدُوهُ في ظلمةِ اللَّيلِ عيسَى عليهِ السَّلامُ،
فأخذُوهُ وأهانُوهُ
وصلبُوهُ، ووضعُوا على رأسِهِ الشَّوكَ.
وكانَ هذا من مكرِ اللهِ
بهِم،
فإنَّهُ نجَّى نبيَّهُ،
ورفعَهُ من بين أظهُرِهِم، وتركَهُم في ضلالِهِم يعمهُون، يعتقدُون أنَّهُم قد ظفرُوا
ولهذا قالَ تَعالَى:
{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
{ وَمَكَرُوا }:
أي: أرادَ الكفَّارُ
قتلَ نبيَّ اللهِ، وإطفاءَ نورِهِ.
{ وَمَكَرَ اللَّهُ }:
بهِم، جزاءً لهُم على
مكرِهِم.
{ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ }:
ردَّ اللهُ كيدَهُم في
نحورِهِم، فانقلبُوا خاسِرِين.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )( 55)
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا }:
فرفعَ اللهُ عبدَهُ
ورسولَهُ عيسَى عليهِ السَّلامُ إليهِ، وألقَى شبهَهُ على غيرِهِ،
وهذا دليلٌ على عُلوِّ
اللهِ تَعالَى، واستوائِهِ على عرشِهِ حقيقةً،
كما دلَّتْ على ذلكَ
النُّصوصُ القرآنيَّةُ، والأحاديثُ النبويَّةُ، التي تلقَّاها أهلُ السَّنةِ
بالقبولِ والإيمانِ والتسليمِ.
وكانَ اللهُ عزيزًا قويًّا
قاهرًا،
ومن عزَّتِهِ أن كفَّ
بني إسرائيلَ، بعدَ عزمِهِم الجازمِ، وعدم المانعِ لهُم، عن قتلِ عيسَى عليهِ
السَّلامُ،
كما قالَ تَعالَى:
{ وَإِذْ كَفَفْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ }
وكانَ اللهُ حكيمًأ يضعُ
الأشياءَ مواضعَها،
ولهُ أعظمُ حكمةٍ في
إلقاءِ الشَّبهِ على بني إسرائيلَ، فوقعُوا في الشَّبهِ.
كما قالَ تَعالَى:
{ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا
اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا }
ثمَّ قالَ تعالى:
{ وَجَاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ }:
وتقدَّمَ أنَّ اللهَ أيَّدَ
المؤمِنين منْهُم على الكافِرين،
- وهو يؤيِّدُ المؤمِنين
على الكافِرين دائمًا سُبحانَهُ-
ثمَّ إنَّ النَّصارَى
المنتسبين لعيسَى عليهِ السَّلامُ، لم يزالُوا قاهِرين لليهودِ،
لكونِ النَّصارَى أقربُ
إلى اتِّباعِ عيسَى من اليهودِ،
حتى بعثَ اللهُ نبينا مُحَمَّدًا
صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فكانَ المسلمُون همُ المتَّبِعين لعيسَى حقيقةً،
فأيَّدَهُم اللهُ، ونصرَهُم
على اليهودِ والنَّصارَى، وسائرِ الكفَّارِ،
وإنَّ ما يحصلُ في بعضِ
الأزمانِ، من إدالةِ الكفَّارِ من النَّصارَى وغيرِهِم على المسلمِين،
حكمةٌ من اللهِ، وعقوبةٌ
على تركِهِم لاتِّباعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
{ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ }:
أي: مصيرُ الخلائقِ كلِّها
{ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }:
كلٌّ يدَّعِي أنَّ الحقَّ
معّهُ، وأنَّهُ المصيبُ، وغيرُهُ مخطئٌ،
وهذا مجرَّدُ دعاوَى،
تحتاجُ إلى برهانٍ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا
لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ )( 56)
ثمَّ أخبرَ عن حكمِهِ
بينَهُم بالقسطِ والعدلِ، فقالَ:
{ فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا }:
أي: باللهِ وآياتِهِ
ورسلِهِ،
{ فَأُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }:
أمَّا عذابُ الدُّنيا، فهو
ما أصابَهُم اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ من القوارعِ، والعقوباتِ المُشاهدةِ، والقتلِ
والذُّلِّ، وغيرِ ذلكَ، ممَّا هو نموذجٌ من عذابِ الآخرةِ،
وأما عذابُ الآخرةِ فهو
الطَّامةُ الكبرَى، والمصيبةُ العظمَى، ألا وهو عذابُ النَّارِ، وغضبُ الجبَّارِ،
وحرمانُهُم ثوابَ الأبرارِ.
{ وَمَا لَهُم مِّن
نَّاصِرِينَ }:
ينصرُونَهُم من عذابِ
اللهِ، لا من زعمُوا أنَّهُم شفعاءُ لهُم عندَ اللهِ، ولا ما اتَّخذُوهم أولياءَ
من دونِهِ، ولا أصدقائَهُم وأقربائَهُم، ولا أنفسَهُم ينصرُون.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ )( 57)
{ وَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا }:
باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ
ورسلِهِ، والبعثِ بعدَ الموتِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا أمرَ اللهُ بالإيمانِ بهِ.
{ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ }:
القلبيَّةَ والقوليَّةَ
والبدنيَّةَ، التي جاءَتْ بشرعِها المُرسَلون، وقصدُوا بها رضَا ربِّ العالَمين.
فماذا يُفعَلُ بهِم يا
ربِّ؟
{ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ }:
دلَّ ذلكَ على أنَّهُ
يحصلُ لهم في الدُّنيا، ثوابٌ لأعمالِهِم من الإكرامِ والإعزازِ والنَّصرِ والحياةِ
الطَّيبةِ،
وإنَّما توفيةُ الأجورِ
يومَ القيامةِ، يجدُون ما قدَّمُوه من الخيراتِ مُحضرًا مُوفَّرًا،
فيعطِي منْهُم كلَّ
عاملٍ، أجرَ عملِهِ، ويزيدَهُم من فضلِهِ وكرمِهِ.
{ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }:
بل يبغضُهُم، ويُحلُّ
عليهِم سخطَهُ وعذابَهُ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ )( 58)
{ ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ }:
وهذا منَّةٌ عظيمةٌ على
رسولِهِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعلى أمَّتِهِ،
حيثَ أنزلَ عليهِم هذا
الذِّكرَ الحكيمَ، المُحكَمَ المُتقَنَ، المُفصِّلَ للأحكامِ، والحلالِ والحرامِ،
وإخبارِ الأنبياءِ
الأقدَمين، وما أجرَى اللهُ على أيديهِم من الآياتِ البيِّناتِ، والمعجزاتِ
الباهراتِ.
فهذا القرآنُ يقصُّ
علينا كلَّ ما ينفعُنا من الأخبارِ والأحكامِ،
فيحصلُ فيها العلمُ
والعبرةُ وتثبيتُ الفؤادِ، ما هو من أعظمِ رحمةِ ربِّ العبادِ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ
عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ )( 59)
قولُ تَعالَى:
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ
عِندَ اللَّهِ }:
في قدرةِ اللهِ تَعالَى،
حيثُ خلقَهُ من غيرِ أبٍ،
{ كَمَثَلِ آدَمَ }:
فإنَّ اللهَ تَعالَى
خلقَهُ من غيرِ أبٍ ولا أمٍّ،
بلْ:
{ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }:
والذي خلق آدمَ، قادرٌ
على خلقِ عيسَى، بطريقِ الأولَى والأحرَى،
وإنْ جازَ ادِّعاءُ
البنوَّةِ في عيسَى، بكونِهِ مخلوقًا من غيرِ أبٍ، فجوازُ ذلكَ في آدمَ بالطَّريقِ
الأولَى،
ومعلومُ بالاتِّفاقِ أنَّ
ذلكَ باطلٌ،
فدعوَاها في عيسَى أشدُّ
بطلانًا، وأظهرُ فسادًا.
ولكنَّ الربَّ عزَّ
وجلَّ، أرادَ أنْ يُظهرَ قدرتَهُ لخلقِهِ،
حينَ خلقَ آدمَ، لا من
ذكرٍ ولا من أنثَى،
وخلقَ حواء من ذكر بلا
أنثى،
وخلقَ عيسَى من أنثَى
بلا ذكرٍ،
كما خلقَ بقيَّةَ البريَّةِ
من ذكرٍ وأنثَى.
يخبرُ اللهُ تَعالَى مُحتجًّا
على النَّصارَى الزَّاعِمين بعيسَى عليهِ السَّلامُ ما ليسَ لهُ بحقٍّ، بغيرِ
برهانٍ ولا شبهةٍ،
بلْ بزعمِهِم أنَّهُ
ليسَ لهُ والدٌ، استحقَّ بذلكَ أنْ يكونَ ابنَ اللهِ أو شريكًا للهِ في الربوبيَّةِ
- والعياذُ باللهِ-
تَعالَى اللهُ عن ذلكَ علوًّا كبيرًا!
وهذا ليسَ بشبهةٍ، فضلًا
أنْ يكونَ حُجَّةً،
لأنَّ خلقَهُ كذلكَ، من
آياتِ اللهِ الدَّالةِ على تفرُّدِ اللهِ بالخلقِ والتَّدبيرِ،
وأنَّ جميعَ الأسبابِ
طوعُ مشيئتِهِ، وتبعٌ لإرادتِهِ،
فهو على نقيضِ قولِهِم
أدلُّ، وعلى أنَّ أحدًا لا يستحقُّ المشاركةَ للهِ بوجهٍ من الوجوهِ أولَى.
ومع هذا، فآدمُ عليهِ
السَّلامُ خلقَهُ اللهُ من ترابٍ، لا من أبٍ ولا أمٍّ،
فإذا كانَ ذلكَ لا يوجبُ
لآدمَ ما زعمَهُ النَّصارَى في المسيحِ،
فالمسيحُ المخلوقُ من
أمٍّ بلا أبٍ، من بابِ أولَى وأحرَى،
فإنْ صحَّ ادِّعاءُ
البنوَّةِ والإلهيَّةِ في المسيحِ،
فادِّعاؤُها في آدمَ من
بابِ أولَى وأحرَى،
فلهذا قالَ تَعالَى:
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ
عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ }
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( الْحَقُّ مِن
رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ )( 60)
{ الْحَقُّ مِن
رَّبِّكَ }:
أي: هذا الذي أخبرْناكَ
بهِ من شأنِ المسيحِ عليهِ السَّلامُ،
هو الحقُّ الذي في أعلَى
رُتبِ الصِّدقِ،
لكونِهِ من ربِّكَ،
الذي من جملةِ تربيتِهِ
الخاصَّةِ لكَ ولأمَّتِكَ، أنْ قصَّ عليكُم ما قصَّ من أخبارِ الأنبياءِ عليهِم
السَّلامِ.
{ فَلَا تَكُن مِّنَ
الْمُمْتَرِينَ }:
أي: الشاكِّين في شيءٍ،
ممَّا أخبرَكَ بهِ ربُّكَ.
وفي هذه الآيةِ وما بعدَها،
دليلٌ على قاعدةٍ شريفةٍ:
وهو أنَّ ما قامَتْ
الأدلَّةُ على أنَّهُ حقٌّ، وجزمَ بهِ العبدُ من مسائلِ العقائدِ وغيرِها،
فإنَّهُ يجبُ أنْ يجزمَ
بأنَّ كلَّ ما عارضَهُ فهو باطلٌ، وكلَّ شبهةٍ توردُ عليهِ فهي فاسدةٌ.
قالَ تَعالَى:
{ فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ }
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا
وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )(
61)
أي:
{ فَمَنْ }:
جادلَكَ
{ حَاجَّكَ فِيهِ }:
في عيسَى عليهِ
السَّلامُ، وزعمَ أنَّهُ فوق منزلة العبودية، بل رفعه فوق منزلته
{ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }:
بأنَّهُ عبدُ اللهِ
ورسولِهِ،
وبيَّنْتَ لمَنْ جادلَكَ
ما عندَكَ من الأدلَّةِ الدَّالةِ على أنَّهُ عبدٌ، أنعمَ اللهُ عليهِ،
دلَّ على عنادِ من لم
يتَّبعْكَ في هذا العلمِ اليقينيِّ،
فلم يبقَ في مجادلتِهِ
فائدةٌ تستفيدُها، ولا يستفيدُها هو،
لأنَّ الحقَّ قد تبيَّنَ،
فجدالُهُ فيه جدالُ مُعاندٍ
مُشاقٍّ للهِ ورسولِهِ، قصدُهُ اتِّباعَ هوَاهُ، لا اتِّباعَ ما أنزلَ اللهُ،
فهذا ليسَ فيه حيلةٌ.
فأمرَ اللهُ نبيَّهُ أنْ
ينتقلَ إلى مباهلتِهِ وملاعنتِهِ:
{ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا
وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
}
فيدعُون اللهَ، ويبتهلُون
إليهِ، أنْ يجعلَ لعنتَهُ وعقوبتَهُ على الكاذبِ من الفريقَين، هو وأحبِّ النَّاسِ
إليه من الأولادِ والأبناءِ والنِّساءِ،
- أي: كلٌّ من الطَّرفَين
يدعُو على الكاذبِ، أيًّا كانَ هذا الكاذبُ، هو وأحبِّ النَّاسِ إليه من الأولادِ
والأبناءِ والنِّساءِ-
فدعاهُم النبيُّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إلى ذلكَ فتولَّوا وأعرضُوا ونكلُوا،
- لأنَّهُم يعرفُون أنَّهُم
على باطلٍ، وأنَّ الرَّسولَ عليهِ السَّلامُ على حقٍّ-
وعلمُوا أنَّهُم إنْ
لاعنوهُ، رجعُوا إلى أهليهِم وأولادِهِم، فلم يجدُوا أهلًا ولا مالًا، وعُوجِلُوا
بالعقوبةِ،
فرضَوا بدينِهِم، مع
جزمِهِم ببطلانِهِ،
وهذا غايةُ الفسادِ
والعنادِ.
هل النَّصارَى وأهلُ كلِّ دينٍ أو فكرٍ باطلٍ يعلمُون أنَّهُ
باطلٌ؟
نعمْ؛ يعلمُون أنَّهُ باطلٌ.
فلهذا قالَ تَعالَى:
{ فَإِن تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }:
فيعاقبَهُم على ذلكَ
أشدَّ العقوبةِ.
- سُبحانَهُ جلَّ وعَلا.
روى البخاريُّ، عن حذيفةَ رضيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: جاءَ
العاقبُ والسيِّدُ، صاحبَا نجرانَ،
- نَصارَى نجرانَ هم الذي كانَتْ مباهلةٌ بينَهُم وبين
الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-
يريدَان أنْ يُلاعِنَاهُ،
قالَ: فقالَ أحدُهُما لصاحبِهِ: لا تفعلْ، فواللهِ لئِنْ كانَ نبيَّاً،
فلاعنَّاهُ، لا نفلحُ نحنُ، ولا عقبُنا منْ بعدِنا،
قالَا: إنَّا نعطِيكَ ما سألْتَنا، وابعثْ معَنا رجلًا أمينًا،
ولا تبعثْ معَنا إلا أمينًا،
فقالَ :لَأبعثُ معَكُم رجلًا أمينًا، حقًّا أمينٌ.
فاستشرفَ لها أصحابُ رسولِ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
فقالَ:
" قمْ يا أبا عبيدةَ بن الجرَّاحِ"
فلمَّا قامَ، قالَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ:
" هذا أمينُ هذهِ الأمَّةِ".
وروَى البخاريُّ، عنْ أنسٍ، عنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، قالَ:
" لكلِّ أمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هذهِ الأمَّةِ أبو
عبيدةَ بن الجرَّاحِ".
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليك.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ
اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا
شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ
وباركَ على نبيّنا محمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق