الأحد، يوليو 10، 2016

تفريغ سورة أل عمران من آية 62 إلى آية 70





بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



الوجه التاسع من سورة آل عمران



 يقولُ اللهُ تَعالَى:

(إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  )( 62)

بعد آياتِ المُلاعنةِ، علمُوا أنَّهم إنْ لاعنُوه، رجِعوا إلى أهليهِم وأولادِهِم، فلم يجدُوا أهلًا ولا مالًا، وعُوجِلوا بالعقوبةِ،

فرضَوا بدينِهِم مع جزمِهِم ببطلانِهِ، وهذا غايةُ الفسادِ والعناِد،

فلهذا قال تَعالَى:

{ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ }
فيعاقبهم على ذلك أشدَّ العقوبةِ.

أخبرَ تَعالَى:
{ إِنَّ هَٰذَا }:
الذي قصَّه اللهُ على عبادِهِ هو:

{ الْقَصَصُ الْحَقُّ }:
وكل قصصٍ يُقصُّ عليهِم، مما يخالفُهُ ويناقضُهُ فهو باطلٌ.

{ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ }:
فهو المألوهُ المعبودُ حقًّا، الذي لا تنبَغِي العبادةُ إلا لهُ، ولا يستحقُّ غيرُهُ مثقالَ ذرَّةٍ من العبادةِ.


{ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }:
الذي قهرَ كلَّ شيءٍ، وخضعَ لهُ كلُّ شيءٍ


{ الْحَكِيمُ }:
الذي يضعُ الأشياءَ مواضَعَها، ولهُ الحكمةُ التامَّةُ في ابتلاءِ المؤمِنينَ بالكافِرينَ، يقاتلُونَهم ويجادلُونَهم ويجاهدُونَهم بالقولِ والفعلِ، وهذا أعظمُ جهادٍ.



يقولُ اللهُ تَعالَى:
 (فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ  )( 63)



يقولُ اللهُ تَعالَى:
 (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)( 64)


{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ }:

أي: قل يا مُحَمَّد لأهل الكتاب من اليهود والنَّصارَى


{ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }:
أي: هلمُّوا نجتمع عليها،

ما هي هذه الكلمة؟
وهي الكلمةُ التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، ولم يخالفْها إلا المعانِدون والضالُّون،

ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل مشتركة بيننا وبينكم، - أي بين أهلِ الكتابِ وبينَ أمَّةِ مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،

وهذا من العدلِ في المقالِ، والإنصافِ في الجدالِ،

ثمَّ فسَّرها بقولِهِ:

{ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا }:
فنفردَ اللهَ عزَّ وجلَّ بالعبادةِ، ونخصُّهُ بالحبِّ والخوفِ والرجاءِ ولا نشركَ به نبيًّا ولا ملكًا ولا وليًّا ولا صنمًا ولا وثنًا ولا حيوانًا ولا جمادًا.

{ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ }:
بل تكونُ الطاعةُ كلُّها للهِ ولرسلِهِ، فلا نطيعُ المخلوقِينَ في معصيةِ الخالقِ،

لأنَّ ذلك جعلٌ للمخلوقِينَ في منزلةِ الرُّبوبيةِ،

فإذا دُعِيَ أهلُ الكتابِ أو غيرُهم إلى ذلك،

فإنْ أجابُوا كانُوا مثلَكم،مثل امة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لهُم ما لكُم، وعليهِم ما عليكُم،


{ فَإِن تَوَلَّوْا }:
فهم معانِدون، متَّبِعون أهواءَهم


{ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }:
فاشهدوهُم أنَّكم مسلِمُون،

ولعلَّ الفائدةَ في ذلك، أنَّكم إذا قلتُم لهم ذلك، وأنتُم أهلُ العلمِ على الحقيقةِ، كان ذلك زيادةً على إقامةِ الحجةِ عليهِم، كما استشهدَ تعالى بأهلِ العلمِ حجةً على المعانِدينَ،

وأيضًا فإنَّكم إذا أسلمْتُم أنتُم، وآمنْتُم فلا يعبأُ اللهُ سُبحانَهُ بعدمِ إسلامِ غيرِكُم لعدمِ زكائِهِم، ولخبثِ طويَّتِهم،

كما قال تَعالَى:
{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا }

وأيضًا فإن فيه ردٌّ على الشُّبهاتِ.



يقولُ اللهُ تَعالَى:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)( 65)

لمَّا ادَّعى اليهودُ أنَّ إبراهيمَ كانَ يهوديًّا، والنَّصارَى أنَّه نصرانيًّا، وجادلوا على ذلك، ردَّ تعالى محاجتَهُم ومجادلتَهُم من ثلاثةِ أوجهٍ:


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)( 66)

- فالوجهُ الأولُ: أنَّ جدالَهُم في إبراهيمَ، جدالٌ في أمرِ ليس لهًم بهِ علمٌ، فلا يمكنُ لهُم ولا يسمحُ لهُم، أن يحتجُّوا ويجادِلُوا في أمرٍ هم أجانبٌ عنْهُ،

وهم جادَلُوا في أحكامِ التَّوراة والإنجيلِ، سواءً أخطأُوا أم أصابُوا، فليسَ معهم المحاجةُ في شأنِ إبراهيمَ، إذن جدالهم في إبراهيمَ في أمر ليس لهم به علم.

- الوجهُ الثَّاني: أنَّ اليهودَ ينتسبون إلى أحكامِ التَّوراةِ، والنَّصارَى ينتسبون إلى أحكامِ الإنجيلِ،

والتَّوراةُ والإنجيلُ ما أُنزِلا إلا من بعد إبراهيمَ، فكيف ينسِبُون إبراهيمَ إليهم، وهو قبلَهم متقدمٌ عليهِم، فهل هذا يعقلُ؟!


فلهذا قالَ:
{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }:
أي: فلو عقلتُم ما تقولون، لمْ تقولوا ذلك.


يقولُ اللهُ تَعالَى:

( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)( 67)

- الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ اللهَ تَعالَى برَّأَ خليلَهُ من اليهودِ والنَّصارَى والمُشرِكينَ، وجعله حنيفًا مسلمًا،


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)( 68)

وجعلَ الله أولى الناسِ بابراهيمَ من آمنَ بهِ من أمَّتِهِ، وهذا النبيِّ، وهو مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ومن آمنَ معَهُ،

فهم الذين اتَّبعُوه، وهم أولَى بهِ من غيرِهِم، واللهُ تَعالَى وليُّهُم وناصرُهُم ومؤيِّدُهُم،

وأما من نبذَ ملَّتَهُ وراءَ ظهرِهِ، كاليهودِ والنَّصارَى والمُشرِكينَ، فليسوا من إبراهيمَ، وليسَ منهُم،

ولا ينفعُهُم مجرَّدُ الانتسابِ الخالي من الصَّوابِ.

- وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على النَّهيِ عن المُحاجَّةِ والمجادلةِ بغير علمٍ، وأنَّ من تكلَّم بذلكَ فهو متكلمٌ في أمرٍ لا يمكنُ منه، أي لا يعرفُهُ، ولا يسمحُ لهُ فيه،

قد تجادلُ في بعضِ الأحيانِ، و ليس لديكَ العلمُ الكافي بذلكَ،

وفي النهايةِ تخرجُ دونَ نتيجةٍ، ويكونُ في الأنفسِ ما فيها، لأنَّكَ تتحدَّثُ بدون علمٍ، حيث أنَّ الإنسانَ لا يضعُ نفسَهُ موضعَ من لا يعلمُ غالباً،
وهذا الشيءُ يدلُّ على نقصٍ في الشَّخصِ نفسِهِ.

لابدَّ أن تعرفَ نفسكَ، فإذا كنت أصلًا ليس لديك علمٌ، فليس هناك مشكلةٌ، قلْ ليس لدي علمٌ بهذا الموضوعِ، ولا تجادلْ ولا تناقشْ في أمورٍ لم تصلْ لديك المعرفةُ الكافيةُ لمناقشتِها.

- وفيها أيضًا حثٌّ على علمِ التَّاريخِ، وأنه طريقٌ لردِّ كثيرٍ من الأقوالِ الباطلةِ والدَّعاوَى التي تخالفُ ما عُلِمَ من التَّاريخِ.

فاللهُ عز وجل حتى يقنعَ اليهودَ والنَّصارَى أنَّ إبراهيمَ ليس منهُم رجعهم للتَّاريخِ، وقالَ: إنَّ إبراهيمَ كان قبلكم أصلاً، فكيف تقولون أنَّهُ يهوديٌّ أو نصرانياٌّ؟!

وهو لم يكن موجوداً عند نزولِ التوراةِ أصلًا، بل كانَ ابراهيمُ عليه السَّلامُ قد ماتَ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:

( وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)( 69)

{ وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ }:
يودُّون أي: يريدون ذلك،

يحذِّر تَعالَى عبادَهُ المؤمنين عن مكرِ هذهِ الطائفةِ الخبيثةِ من أهلِ الكتابِ، وأنهم يودُّون أنْ يضلُّوكُم،

كما قال تَعالَى:
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم }

وهذا ما نراهُ اليومَ- أيَّها الإخوةُ-  فكلُّ شرٍّ أو بلاءٍ على المُسلمينَ أساسُهُ اليهودُ.

ومن المعلومِ أنَّ من ودَّ شيئًا، سعَى بجهدِهِ على تحصيلِ مرادِهِ، فهذه الطائفةُ تسعَى وتبذلُ جهدَها في ردِّ المُؤمنينَ، وإدخالِ الشُّبَهِ عليهِم، بكلِّ طريقٍ يقدِرُون عليهِ،

ولكن من لطفِ اللهِ أنَّه لا يحيقُ المكرُ السيئُ إلا بأهلِهِ، وهذا لطفٌ عجيبٌ منه سُبحانَهُ جلَّ وعَلا، دائمًا يرجع المكرُ إلى صاحبِهِ.

فلهذا قال تَعالَى:
{ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ }:

فسعيُهُم في إضلالِ المُؤمِنينَ، زيادةٌ في ضلالِ أنفسِهِم، وزيادةُ عذابٍ لهُم،

قالَ تَعالَى:
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ }

{ وَمَا يَشْعُرُونَ }:
بذلك أنَّهُم يسعَون في ضررِ أنفسِهِم، وأنَّهُم لا يضرُّونَكُم شيئًا.

فكثيرًا ما نسعَى إلى ضررِ أنفسِنا، ونحن لا نشعرُ ولا نعلمُ بذلكَ.

لكنهم لا يضرُّون المُؤمِنينَ الصَّالِحينَ الذين لديهِم يقينٌ بالله عزَّ وجلَّ وباليومِ الآخرِ، وبالموتِ والقبرِ، وبالجزاءِ والحسابِ، الذين لديهم تحملٌ كبيرٌ، ومسؤوليةٌ عظيمةٌ تجاه هذا.

{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }


 يقولُ اللهُ تَعالَى:
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ)( 70)

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ }:
أي: ما الذي دعاكم إلى الكفرِ بآياتِ اللهِ،

{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }:
مع علمِكُم بأنَّ ما أنتم عليهِ باطلٌ، وأن ما جاءَكُم بهِ مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو الحقُّ، الذي لا تشكُّون فيه، بل تشهدون بهِ، ويُسِرُّ بهِ بعضُكُم إلى بعضٍ في بعضِ الأوقاتِ،
فهذا نهيُهُم عن ضلالِهِم.




سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليك.

اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.

وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ.





ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق