بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه الثالث عشر من سورة آل عمران
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( لَن
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن
شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( 92 )
روِى وكيع في تفسيرِهِ عن
عمرو بن ميمون، قالَ:
{ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ }:
يعني الجنَّةَ
وروَى الإمامُ أحمدُ عن أنسٍ
بن مالكَ، كان أبو طلحةَ أكثرَ أنصاريٍّ في المدينةِ مالاً، وكان أحبَّ أمواله
اليه بيرحاءُ - وكانت مستقبلةً المسجدَ،
وكان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيِّبٍ -
قالَ أنس: فلما نزلَتْ: {
لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }
قالَ أبو طلحةَ يا رسولَ
اللهِ، إنَّ اللهَ يقولُ: { لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ }، وإنَّ أحبَّ أموالي إلي بيرحاءُ، وإنَّها صدقةٌ للهِ، أرجو برَّها
وذخرَها عند اللهِ عزَّ وجلَّ، فضعْها يا رسولَ اللهِ حيث أراكَ اللهُ.
فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: "بخٍ بخٍ ذاك مالٌ رابحٌ، ذاك مالٌ رابحٌ، وقد سمعْت، وأنا
أرَى أنْ تجعلَها في الأقربِين."
فقالَ أبو طلحة: أفعلُ يا
رسولَ الله، فقسمَها أبو طلحةَ في أقاربِهِ، وبني عمِّهِ.
ولهذه الحادثةِ دلالاتٌ
عدةٌ:
فالأمرُ الأوَّلُ: مبادرةُ
الصَّحابةِ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ، وأنَّهُم يعلمون أنَّ هذا القرآنَ أُنزِلَ
إليهم،
فكما هم يعلمون، فاعلم أنت
أنَّهُ أُنزِلَ إليك كذلك.
فعندما نزلَتْ هذه الآيةُ
بادرَ أبو طلحةَ مباشرةً، وجسَّدَ هذه الآيةَ في قوله أنَّ أفضلَ أموالِهِ هي
بيرحاءُ.
الأمرُ الثَّاني: هذا يدلُّ
على الفهمِ العميقِ للصَّحابةِ.
الأمرُ الثَّالثُ: أنَّ لديهِم
السُّرعةَ وعدمَ التَّراخي والتَّسويفِ في أعمالِ الخيرِ.
الأمرُ الرَّابعُ: مشاورةُ النَّبيِّ
صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأخذ رأيهِ، والعمل بما يقولُ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
الأمرُ الخامسُ: قولُ النَّبيِّ
لأبي طلحةَ: أرَى أن تجعلَها في الأقرَبِين، وهذا يدلُّ على فضلِ الصَّدقةِ على الأقرَبِين
يقولُ اللهُ تَعالَى:
(
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ
فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )( 93
)
روى الإمامُ أحمدُ، عن ابن عباسٍ رضيَ اللهُ عنْهُ، قالَ:
حضرت عصابةٌ من اليهودِ نبيَّ اللهِ
صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
قالُوا: حدِّثْنا عن خِلالٍ نسألُكَ
عنهُنَّ لا يعلمُهُنَّ إلا نبيٌّ.
قالَ:" سلُوني عما شئْتُم، ولكن اجعلُوا لي ذمَّةَ اللهِ،
وما أخذَ يعقوبُ على بنيهِ، لئِنْ أنا حدَّثْتُكُم شيئًا فعرفتمُوهُ لتُتَابعُنِّي
على الإسلامِ."
قالُوا: فذلك لكَ.
قالَ: " فسَلُوني
عمَّا شئْتُم "
قالُوا: أخبرْنَا عن أربعِ خِلالٍ:
- أخبرْنا أيّ الطَّعامِ حرَّمَ
إسرائيلُ على نفسِهِ؟
- وكيف ماءُ المرأةِ وماءُ الرَّجلِ؟ وكيف يكونُ الذَّكرُ منْهُ والأنْثَى؟
- وكيف هذا النَّبيُّ الأميُّ في
النَّومِ؟
- ومن وليُّهُ من الملائكةِ؟
فأخذَ عليهُم العهدَ، لئِنْ أخبرَهُم
ليُتَابعُنَّهُ،
وقالَ: "أُنْشِدُكُم بالذي أنزلَ التَّوراةَ على موسَى: هل تعلمُون أنَّ
إسرائيلَ مرضَ مرضًا شديدًا وطالَ سقمُهُ، فنذرَ للهِ نذْرًا لئِنْ شفَاهُ اللهُ
عزَّ وجلَّ من سقمِهِ، ليُحرِّمَنَّ أحبَّ الشَّرابِ إليهِ وأحبَّ الطَّعامِ إليهِ،
وكانَ أحبُّ الطَّعامِ إليهِ لحمَ الإبلِ، وأحبُّ الشَّرابِ إليهِ ألبانَها"
فقالُوا: اللَّهُمَّ نعمْ.
قالَ: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عليهم."
وقالَ: "أُنْشِدُكُم باللهِ
الذي لا إلهَ إلا هوَ، الذي أنزل التَّوراةَ على موسَى: هل تعلمُون أنَّ ماءَ
الرجلِ أبيضُ غليظٌ، وماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ، فأيُّهُما علَا كان لهُ الولدُ
والشَّبَهُ بإذنِ اللهِ، إنْ علَا ماءُ الرَّجلِ ماءَ المرأةِ كانَ ذكرًا بإذنِ
اللهِ، وإنْ علَا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجلِ كانَ أنثَى بإذنِ اللهِ."
قالُوا: نعمْ.
قالَ: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عليهِم."
وقالَ: " أُنْشِدُكُم بالذي أنزلَ التَّوراةَ على موسَى: هل تعلمُون أنَّ
هذا النَّبيِّ الأمي تنامُ عينَاه ولا ينامُ قلبُهُ."
قالُوا: اللَّهُمَّ نعمْ.
قالَ: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ."
قالُوا: وأنتَ الآن فحدِّثْنَا
من وليُّكَ من الملائكةِ؟ فعندَها نجامِعُكَ أو نفارِقُكَ.
قالَ: " إنَّ ولييَّ جبريلُ، ولم يبعثِ اللهُ عزَّ وجلَّ نبيًّا قطْ إلا
وهو وليُّهُ ."
قالُوا: فعندَها نفارقُكَ، ولو كانَ
وليُّكَ غيرَهُ لتابعنَاكَ.
فعندئذٍ قالَ الله تَعالَى:
( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى
وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ )
[ البقرة: 97 ]
( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن
تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ )
وهذا ردٌّ على اليهودِ لزعمِهِم
الباطلِ بأنَّ النَّسخَ غيرُ جائزٍ.
من الطَّائفةُ التي أنكرَتِ
النَّسخَ؟
هم اليهودُ، وكذلك كفرُوا
بعيسَى و مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
لأنَّهُما قدْ أتيَا بما
يخالفُ بعضَ أحكامِ التَّوراةِ بالتَّحليلِ والتَّحريمِ،
فمِنْ تمامِ الإنصافِ في
المجادلةِ، إلزامُهُم بما في كتابِهِم التَّوراةِ منْ أنَّ جميعَ أنواعِ الأطعمةِ
محللةٌ لبنِي إسرائيلَ،
إلا ما حرَّمَ إسرائيلُ على
نفسِهِ، وهو يعقوبُ عليهِ السَّلامُ،
أي من غيرِ تحريمٍ من اللهِ تَعالَى،
بل حرَّمهُ على نفسِهِ، لمَّا أصابَهُ المرضُ الذي ذكرنَاهُ.
إذن منْ هو إسرائيلُ؟
هو يعقوبُ.
لذلك لا نقولُ بني إسرائيلَ
الآنَ، بل نقولُ اليهودَ.
( فَبِظُلْمٍ مِّنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا )
[ النساء: 160 ]
وأمرَ اللهُ رسولَهُ إنْ
أنكرُوا ذلكَ أنْ يأمرَهُم بإحضارِ التَّوراةِ، فاستمرُّوا بعد هذا على الظُّلمِ
والعنادِ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )( 94 )
طالبَهُم الرَّسولُ صلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أن يأتُوا بالتَّوراةِ، بطلبٍ من اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى،
ويتلُوها إنْ كانُوا صادقِين، ويستخرجُوا التَّحريمَ، لكنَّهُم أبَوا ذلكَ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )(
95 )
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ }:
أي قلْ يا مُحَمَّدُ، صدقَ
اللهُ بما أخبرَ بهِ، وبما شرَعَهُ في القرآنِ.
{ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ }:
التي شرَعَها اللهُ في
القرآنِ، على لسانِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فإنَّهُ الحقُّ الذي لا شكَّ
فيهِ ولا مِريَةَ، وهي الطَّريقةُ التي لم يأتِ نبيٌّ بأكملَ منْها ولا أبينَ، ولا
أوضحَ، ولا أتمَّ.
كما قالَ:
( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي
رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
[ الأنعام: 161]
( ثُمَّ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ )
[ النحل: 123]
قلْ صدقَ اللهُ فيما أخبرَ
بهِ، وحكمَ،
وهذا أمرٌ من اللهِ لرسولِهِ
ولمَنْ يتَّبعُه أنْ يقولُوا بألسنتِهِم صدقَ اللهُ،
مُعتقدِين بذلك في قلوبِهِم
عن أدلَّةٍ يقينيَّةٍ، مُقيمِين هذه الشَّهادةَ على من أنكرَها.
ومن هنا نعلمُ أنَّ
أعظمَ النَّاسِ تصديقًا للهِ تَعالَى، هم أعظمُهُم علمًا ويقينًا بالأدلَّةِ التَّفصيليَّةِ،
السَّمعيَّةِ والعقليَّةِ.
ثمَّ أمرَهُم باتِّباع ملَّةِ
أبيهِم ابراهيمَ عليهِ السَّلامُ، بالتَّوحيدِ وتركِ الشِّركِ، الذي هو مدارُ السَّعادةِ،
وبتركِهِ حصولُ الشَّقاوةِ.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ
اليهودَ وغيرَهُم ممَّنْ ليسُوا على ملَّةِ ابراهيمَ مُشرِكون، غيرُ موحِّدِين.
ولمَّا أمرَهُم باتِّباعِ ملَّةِ
ابراهيمَ بالتَّوحيدِ وتركِ الشِّركِ، أمرَهُم باتِّباعِهِ بتعظيمِ بيتِهِ الحرامِ
بالحجِّ.
إذن هناك علاقةٌ بين البيتِ
الحرامِ وبينَ ابراهيمَ عليهِ السَّلامُ،
من الذي بنَى البيتَ
الحرامَ؟
لذلك ذكرَ اللهُ تَعالَى ملَّةَ
ابراهيمَ، ثمَّ ذكرَ البيتَ الحرامَ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )( 96 )
روَى الإمامُ أحمدُ، عن أبي ذرٍّ، رضيَ
اللهُ عنْهُ، قالَ:
قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ
وُضِعَ في الأرضِ أوَّلًا؟
قالَ: " المسجدُ الحرامُ."
قلْتُ: ثمَّ أيُّ؟
قالَ: " المسجدُ الأقصَى."
قلْتُ: كم بينَهُما؟
قالَ: " أربعُون سنةً."
قلْتُ: ثمَّ أيُّ؟
قالَ: ثمَّ حيثُ أدركْتَ الصَّلاةَ
فصلِّ، فكلُّها مسجدٌ."
أخرجَهُ البخاريُّ، ومسلمُ.
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ }:
وقِيلَ بكَّةَ من أسماءِ مكَّةَ على المشهورِ،
وقِيلَ سُمِّيَتْ بذلك لأنَّها
تبكُّ أعناقَ الظَّلمةِ والجبابرةِ، بمعنى: أنَّهُم يُذلُّون بها، ويخضعُون عندَها.
وقِيلَ: لأنَّ النَّاسَ
يتباكَون فيها، أي: يزدحمُون.
وقد ذكرُوا لمكَّةَ أسماءَ
كثيرةً:
مكَّةَ، وبكَّةَ، والبيتَ
العتيقَ، والبيتَ الحرامَ، والبلدَ الأمينَ، والمأمونَ، وأمَّ رحِمٍ، وأمَّ القُرَى،
وصلاحَ، والعَرْشَ على وزنِ بَدْرَ، والقادِسَ، لأنَّها تطهِّرُ من الذُّنوبِ،
والمقدَّسةِ، والحاطِمةِ، والنَّساسةِ، والرأسِ، والبلدةِ، والكعبةِ.
كلُّ هذهِ الأسماءِ ذكرَها
ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ.
{ مُبَارَكًا }:
أي فيه الكثيرُ من البركةِ في المنافعِ الدينيَّةِ
والدنيويَّةِ
يخبرُ اللهُ تَعالَى عن شرفِ هذا البيتِ الحرامِ، وأنَّهُ
أوَّلُ بيتٍ وُضِعَ للنَّاسِ، يتعبَّدُون فيهِ لربِّهِم، فتُغفَرُ أوزارُهُم، وتُقالُ
عثارُهُم، ويحصلُ لهم بهِ من الطَّاعاتِ والقُرُباتِ ما ينالُون بهِ رضَى ربِّهِم،
والفوزَ بثوابِهِ والنَّجاةَ من عقابِهِ.
{
وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}:
الهُدَى
نوعان:
الهُدَى
في المعرفةِ، وهُدىً في العملِ.
- فالهُدَى
في العملِ ظاهرٌ، وهو ما جعلَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهِ من أنواعِ التَّعبداتِ
المختصَّةِ.
- وأمَّا
هُدَى العلمِ: بما يحصلُ لهُم من العلمِ بالحقِّ، بسببِ الآياتِ البيِّناتِ التي
ذكرَها اللهُ تَعالَى في قولِهِ:
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ
وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِين )( 97 )
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ }:
يقصدُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهِ
البيتَ الحرامَ
أي: دلالاتٌ ظاهرةٌ أنَّهُ من بناءِ
إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ، وأنَّ اللهَ تَعالَى عظَّمَهُ وشرَّفَهُ.
{ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ }:
أي من الآياتِ البيِّنَاتِ مقامُ
ابراهيمَ،
الذي لما ارتفعَ البناءُ استعانَ بهِ
على رفعِ القواعدِ منْهُ والجدرانِ، هذا هو المقامُ،
حيثُ كانَ يقفُ عليهِ، ويناولُهُ
ولدُهُ إسماعيلُ،
وقد كانَ ملتصقًا بجدارِ البيتِ،
حتى أخَّرَهُ عمرُ بنُ الخطَّابِ، رضيَ اللهُ عنْهُ، في إمارتِهِ إلى ناحيةِ الشَّرقِ،
بحيثُ يتمكَّنُ الطُّوافُ، ولا يُشوِّشُون على المصلِّين عندَهُ بعد الطَّوافِ،
لأنَّ اللهَ تَعالَى قد أمرَنا
بالصَّلاةِ عندَهُ حيثُ قالَ:
( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )
[ البقرة: 125 ]
{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا }:
يعني حرمُ مكَّةَ اذا دخلَهُ الخائفُ يأمنُ من كلِّ
سوءٍ، وكذلك كانَ الأمرُ في الجاهليَّةِ.
ونحن عندنا يقينٌ تامٌّ، أي نتيقَّنُ ونؤمنُ بأنَّ
الحرمَ آمنٌ، حتى لو حصلَ ما فيه ما حصلَ ،فهو آمنٌ.
وهو نعمةٌ من اللهِ عزَّ وجلَّ.
{
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ }:
أدلَّةٌ
واضحةٌ، وبراهينُ قاطعةٌ على أنواعٍ من العلومِ الإلهيَّةِ والمطالبِ العاليةِ،
كالأدلَّةِ
على توحيدِهِ ورحمتِهِ وحكمتِهِ وعظمتِهِ وجلالِهِ وكمالِ علمِهِ وسعةِ جودِهِ،
وما منَّ بهِ على أوليائِهِ وأنبيائِهِ.
فمن
الآياتِ مقامُ إبراهيمَ، وهو أثرُ قدمِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ،
وهو
أمرٌ خارقٌ للعادةِ، أن يبقَى أثر قدمِ ابراهيمَ عليهِ السَّلامُ، وهو دليلٌ على
عظمةِ اللهِ سُبحانَهُ جلَّ وعَلَا.
وفي
الصَّحيحين من لفظٍ لمسلمٍ عن ابن عباسٍ، قالَ:
قالَ
رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومَ فتحِ مكَّةَ:
" لا هجرةَ، ولكن
جهادٌ ونيةٌ، وإذا استُنْفرتم فانفروا."
وقال
يومَ فتحِ مكةَ: " إنَّ هذا البلدَ حرَّمَهُ اللهُ يوم خلقَ السَّماواتِ
والأرضَ، فهو حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يومِ القيامةِ، وإنَّهُ لم يَحِلّ القتالُ
فيهِ لأحدٍ قبلي، ولم يَحِلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ،
فهو حرامٌ بحرمَةِ اللهِ إلى
يومِ القيامةِ، لا يُعْضَدُ شوكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صيدُهُ، ولا يُلْتَقُطُ لقطتُهُ
إلا من عرَّفها، ولا يُخْتَلَى خلاهُ."
فقال
العباسُ: يا رسولَ اللهِ، إلا الإذخرُ، فإنَّهُ لِقَيْنِهِمْ ولبيوتِهِم،
قال : "
إلا الإذخرُ ".
{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا }:
روى
الإمامُ أحمدُ عن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ، قالَ:
خطبَنَا
رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: "أيها الناسُ، قد فُرِضَ
عليكم الحجُّ فحُجُّوا.
فقالَ
رجلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟
فسكتَ،
حتى قالَها ثلاثًا.
فقالَ
رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لو قلتُ نعَم، لوجبَتْ، ولما استطعْتُم،
ثمَّ
قالَ: ذَرُوني ما تركتُكم، - أي لا تسألوني عن هذه الأمورِ-
فإنَّما
هلكَ من كانَ قبلُكم بكثرةِ سؤالِهِم، واختلافِهِم على أنبيائِهِم، فإذا أمرْتُكم
بشيءٍ فأْتُوا منْهُ ما استطعتُم، وإذا نهيتُكُم عن شيءٍ فدَعُوه."
وإذا
أمرتُكُم بشيءٍ فأتُوا منهُ ما استطعْتُم:
هذه
قاعدةٌ من قواعدِ الشَّريعةِ، فلا تسألْ عن كلِّ شيءٍ، حيث لامَ الرَّسولُ الرجلَ على سؤالِهِ: أكُلَّ
عامٍ؟
فخذْ
ظاهرَ حديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لم يقلْ كلَّ عامٍ.
ولا
تسألْ سؤالًا لم يأتِ به الصَّحابةُ، ولا السَّلفُ الصَّالحُ.
كثرةُ
الأسئلةِ والتشدُّقُ في هذا الأمرِ ليس بالأمرِ الحسنِ
"
فإذا أمرْتُكم بشيءٍ فأْتُوا منْهُ ما استطعتُم، وإذا نهيتُكُم عن شيءٍ
فدَعُوه."
أمَّا
الاستطاعةُ فأقسامٌ:
تارةً
يكون الشَّخصُ مُستطيعًا بنفسِهِ، وتارةً يكون بغيرِهِ.
كما روَى
أبو عيسَى، أنَّ رجلًا قالَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من الحاجُّ يا
رسولَ اللهِ؟
قالَ: الشَّعْثُ
التَّفِلُ.
فقامَ
آخرٌ فقالَ: فأيُّ الحجِّ أفضلُ يا رسولَ اللهِ؟
قالَ: العجُّ
والثَّجُّ.
فقامَ
آخرٌ فقالَ: وما السَّبيلُ يا رسولَ اللهِ؟
قالَ: الزَّادُ
والرَّاحلةُ.
فقد
اختلفَتْ إجاباتُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من شخصٍ إلى آخرَ.
{
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ }
قيلَ ما
السَّبيلُ يا رسولَ اللهِ؟
قال: الزَّادُ
والرَّاحلةُ.
إلا أن
المرأة تزيد بشرطٍ، وهو المُحرمُ.
وقيلَ
صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ، ولم يخرِّجَاه
وروَى الإمامُ
أحمدُ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
"
من أرادَ الحجَّ فليتعجَّلَ."
رواهُ
أبو داوود.
{
وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }:
أي:
ومن أنكرَ الحجَّ فقد كفرَ.
قالَ
ابنُ عباسٍ ومجاهدٍ: أي ومن جحدَ فريضةَ الحجِّ فقد كفرَ، واللهُ سُبحانَهُ
وتَعالَى غنيٌّ عنْهُ.
وقد
ذُكرَ عن عمرٍ بن الخطَّابِ، أنَّهُ قالَ: من أطاقَ الحجَّ فلم يحجّ، فسواءً عليه
يهوديًّا ماتَ أو نصرانيًّا.
وهذا
إسنادٌ صحيحٌ إلى عمرٍ بن الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنْهُ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ )( 98 )
هذا تعنيفٌ منَ اللهِ تَعالَى لكفَرَةِ
أهلِ الكتابِ، على عنادِهِم للحقِّ، وكفرِهِم بآياتِ اللهِ، وصدِّهِم عن سبيلِهِ
من أرادَهُ من أهلِ الإيمانِ بجهدِهِم وطاقتِهِم،
مع علمِهِم بأنَّ ما جاءَ به الرَّسولُ
صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حقٌّ منَ اللهِ،
بما عندَهُم من العلمِ عن الأنبياءِ
الأقدمِين، والسَّادةِ المُرسَلين، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِم أجمعِين،
وما بُشِّرُوا بهِ ونُوِّهُوا، من
ذكرِ النَّبيِّ الأميِّ الهاشميِّ العربيِّ المكِّيِّ، سيِّدِ ولدِ آدمَ، وخاتمِ
الأنبياءِ، ورسولِ ربِّ الأرضِ والسَّماءِ.
كلُّ هذا مذكورٌ في كتبِهِم، فهُم يعرفُون الكتابَ، ويعرفُون
أوصافَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كما أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لم يأتِ بجديدٍ عن بقيَّةِ الشَّرائعِ،
اختلفَتْ
فقط الشَّرائعُ، لكنَّ الأصلَ باقٍ، والإسلامُ باقٍ.
وقد توعَّدَهُم اللهُ تَعالَى على ذلك بأنَّهُ شهيدٌ
على صنيعِهِم ذلك بما خالفُوا ما بأيديهِم عن الأنبياءِ، ومقابلتِهِم الرَّسولَ
المُبشَّرَ بالتَّكذيبِ والجحودِ والعنادِ،
{
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ }:
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ
شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )( 99 )
يخاطبُ اللهُ أهلَ الكتابِ على سعيِهِم لصدِّ منْ آمنَ
باللهِ.
{ تَبْغُونَهَا عِوَجًا }:
بتحريفِها
{ وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ }:
فالمشكلةُ أنَّكُم أنتُم الشُّهداء على النَّاسِ، على
العربِ، وأنتُم أهلُ الكتابِ.
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }:
وأخبرَ تَعالَى أنَّهُ ليسَ بغافلٍ
عمَّا يعملُون، أي: وسيجزيهِم على ذلك يومَ لا ينفعُهُم مالٌ ولا بنونٌ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ )( 100 )
انتقلَ اللهُ تَعالَى من
خطابِ أهلِ الكتابِ، وتعنُّتِهِم، وسبِّهِم، ونصيحتِهِم، وذمِّهِم، إلى خطابِ
المؤمنِين من إطاعتِهِم:
يحذِّرُ تَعالَى عبادَهُ المؤمنِين
من أن يطيعُوا طائفةً من الذين أوتُوا الكتابَ، الذين يحسدُون المؤمنِين على ما
آتاهُم اللهُ من فضلِهِ، وما منحَهُم بهِ من إرسالِ رسولِهِ.
كما قالَ تَعالَى:
( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم
مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ )
[ البقرة: 109 ]
نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يميتَنا
على الإسلامِ!
سبحانَكَ اللَّهُمَّ
وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللَّهُمَّ اجعلْ هذا
الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا
تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ
على نبيِّنا مُحَمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق