بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
نبدأ، ونستعين بالله عزَّ وجلّ، في تدبّر سورة المائدة.
الوجه
الأول من سورة المائدة
يقولُ
الله تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا
يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ
يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ) ( 1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
ْ}:
هذا أمرٌ من اللهِ تَعالَى لعبادِهِ المؤمنين، بما
يقتضيهِ الإيمانُ بالوفاءِ بالعقودِ،
أي: بإكمالِها، وإتمامِها، وعدمِ نقضِها وقصِّها، ونقصِها.
أي: بإكمالِها، وإتمامِها، وعدمِ نقضِها وقصِّها، ونقصِها.
وهذا شاملٌ للعقودِ التي بينَ العبدِ وبينَ ربِّهِ، منْ
التزامِ عبوديَّتِهِ، والقيامِ بها أتمَّ قيامٍ، وعدمَ الانتقاصِ من حقوقِها شيئًا،
والتي بينَهُ وبينَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، بطاعتِهِ واتِّباعِهِ،
والتي بينَهُ وبينَ الوالدَين والأقاربِ، ببرِّهِم وصلتِهِم،
وعدمِ قطيعتِهِم.
والتي بينَهُ وبينَ أصحابِهِ منَ القيامِ بحقوقِ الصُّحبةِ
في الغنَى والفقرِ، واليسرِ والعسرِ،
والتي بينَهُ وبينَ الخلْقِ منْ عقودِ المعاملاتِ،
كالبيعِ والإجارةِ، ونحوِهِما، وعقودِ التَّبرُّعاتِ كالهبةِ ونحوِها،
بل والقيامُ بحقوقِ المسلِمِين التي عقدَها اللهُ بينَهُم،
في قولِهِ:
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }:
بالتَّناصرِ على الحقِّ، والتَّعاونِ عليهِ، والتآلفِ
بينَ المُسلمِين، وعدمِ التَّقاطعِ.
فهذا الأمرُ شاملٌ لأصولِ الدِّينِ وفروعِهِ،
فكلُّها داخلةٌ في العقودِ التي أمرَ اللهُ بالقيامِ
بها.
أيُّها الإخوةُ، الوفاءُ بالعقدِ ليس بالأمرِ السَّهلِ!
إذا كان بينَك وبينَ أحدٍ عقدٌ ما، أيُّ عقدٍ، عقدُ
زواجٍ، عقدُ عملٍ، عقدُ قرابةٍ، عقدُ صلةٍ، عقدُ صداقةٍ، عقدٌ بينَك وبينَ وليِّ
أمرِك، عقدٌ بينَك وبينَ زوجِك، عقدٌ بينَك وبينَ الوالدِ والوالدةِ،
أيُّ نوعٍ من العقودِ، فانتبِهُوا، الوفاءُ بالعقودِ
ليسَ أمرًا سهلًا.
نسألُ اللهَ أنْ يعينَنا ويوفِّقَنا، ويسدِّدَ أمرَنا، يا
ذا الجلالِ والإكرامِ!
ثمَّ قالَ اللهُ ممتنًّا على عبادِهِ:
{ أُحِلَّتْ لَكُمْ }:
أي: لأجلِكُم، رحمةً بكُم
{ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ }:
من الإبلِ والبقرِ والغنمِ،
بلْ ربَّما دخلَ في ذلكَ الوحشيُّ منْها، والظِّباءُ
وحمرُ الوحشِ، ونحوها منَ الصُّيودِ.
واستدلَّ بعضُ الصَّحابةِ بهذهِ الآيةِ على إباحةِ
الجنينِ الذي يموتُ في بطنِ أمِّهِ بعدما تُذبَحُ.
{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ }:
تحريمُهُ منْها،
في قولِهِ:
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنزِيرِ } إلى آخرِ الآيةِ.
فإنَّ هذهِ المذكوراتِ وإنْ كانَتْ منْ بهيمةِ الأنعامِ،
فإنَّها محرَّمةٌ.
ولمَّا كانَتْ إباحةُ بهيمةِ الأنعامِ عامَّةً في جميعِ
الأحوالِ والأوقاتِ،
استثنَى اللهُ منْها الصَّيدَ في حالِ الإحرامِ،
فقالَ:
{ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ }:
أي: أحلَّتْ لكُم بهيمةُ الأنعامِ في كلِّ حالٍ، إلا
حيثُ كنْتُم مُتَّصِفِين بأنَّكُم غيرُ محلِّي الصَّيدِ وأنتُم حرمٌ،
أي: متجرِّؤُون على قتلِهِ في حالِ الإحرامِ، وفي الحرمِ،
فإنَّ ذلكَ لا يحلُّ لكُم إذا كانَ صيدًا، كالظِّباءِ
ونحوِهِ.
والصَّيدُ: هو الحيوانُ المأكولُ المُتوحِّشُ.
{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }:
أي: فمهما أرادَهُ اللهُ تَعالَى، حكمَ بهِ حكمًا موافقًا
لحكمتِهِ جلَّ وعَلا،
كما أمركَمُ بالوفاءِ بالعقودِ لحصولِ مصالحِكِم، ودفعِ
المضارِّ عنْكُم.
وأحلَّ لكُم بهيمةُ الأنعامِ رحمةً بكُم،
وحرَّمَ عليكُم ما استثنَى منْها منْ ذواتِ العوارضِ،
من الميتةِ ونحوِها، صونًا لكم واحترامًا،
ومن صيدِ الإحرامِ احترامًا للإحرامِ، وإعظامًا.
عندما منعَنا اللهُ عزَّ وجلّ من الصَّيدِ عندَ الحرمِ،
ونحنُ محرِمُون، فهذا احترامٌ للإحرامِ، وتعظيمٌ لهُ.
يقولُ
الله تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ
وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن
رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( 2)
يقولُ تَعالَى:
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا
شَعَائِرَ اللَّهِ }:
أي: محرماتِهُ التي أمرَكُم اللهُ عزَّ وجلّ بتعظيمِها،
وعدمِ فعلِها،
والنَّهيُ يشملُ النَّهيَ عن فعلِها، والنَّهيَ عن
اعتقادِ حلِّها؛
فهو يشملُ النَّهيَ، عنْ فعلِ القبيحِ، وعنْ اعتقادِهِ.
ويدخلُ في ذلكَ النَّهيُ عنْ محرَّماتِ الإحرامِ، ومحرَّماتِ
الحرمِ.
ويدخلُ في ذلكَ ما نصَّ عليهِ، بقولِهِ:
{ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ }:
أي: لا تنتهكُوهُ بالقتالِ فيهِ، وغيرِهِ من أنواعِ الظُّلمِ.
لا يُنتهَكُ بيتُ اللهِ الحرامِ، بأيِّ نوعٍ من أنواعِ
الظُّلمِ، حتى ولو كان سهلًا أو عسيرًا.
كما قال تَعالَى:
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنفُسَكُمْ }
والجمهورُ من العلماءِ على أنَّ القتالَ في الأشهرِ
الحرمِ منسوخٌ، بقولِهِ تَعالَى:
{ فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }
وغير ذلك منَ العموماتِ، التي فيها الأمرُ بقتالِ الكفَّارِ
مطلقًا، والوعيدُ في التَّخلفِ عنْ قتالِهِم مطلقًا.
وبأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قاتلَ
أهلَ الطَّائفِ في ذي القعدةِ، وهو من الأشهرِ الحرمِ.
{ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ }:
أي: ولا تحِلُّوا الهَديَ الذي يُهدَى إلى بيتِ اللهِ
في حجٍّ أو عمرةٍ، أو غيرِهِما، من نِعَمٍ وغيرِها،
فلا تصدُّوهُ عن الوصولِ إلى محلِّهِ، ولا تأخذُوهُ
بسرقةٍ أو غيرِها،
ولا تقصروا بهِ، أو تحمِّلوه ما لا يطيقُ، خوفًا من تلفِهِ
قبلَ وصولِهِ إلى محلِّهِ،
بل عظِّمُوهُ وعظِّمُوا منْ جاءَ بهِ.
{ وَلَا الْقَلَائِدَ }:
هذا نوعٌ خاصٌّ من أنواعِ الهَديِ، وهو الهَديُ الذي
يفتلُ لهُ قلائدُ أو عُرَى،
فيُجعلَ في أعناقِهِ إظهارًا لشعائرِ اللهِ، وحملًا للنَّاسِ
على الاقتداءِ، وتعليمًا لهُم للسُّنَّةِ، وليُعرَفَ أنَّهُ هديٌ، فيُحترَمُ.
ولهذا كانَ تقليدُ الهَديِ منَ السَّننِ والشَّعائرِ
المسنُونةِ.
{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ}:
أي: قاصِدِين لهُ
{ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا }:
أي: من قصدَ هذا البيتَ الحرامَ، وقصدُهُ فضلَ اللهِ
بالتِّجارةِ والمكاسبِ المباحةِ،
أو قصدُهُ رضوانَ اللهِ بحجِّهِ وعمرتِهِ والطَّوافِ بهِ،
والصَّلاةَ، وغيرَها من أنواعِ العباداتِ،
فلا تتعرَّضُوا لهُ بسوءٍ، ولا تهينُوهُ، بلْ أكرِمُوهُ،
وعظِّمُوا الوافِدِين الزَّائرِينَ لبيتِ ربِّكُم.
ودخلَ في هذا الأمرِ، الأمرُ بتأمينِ الطُّرقِ الموصلةِ
إلى بيتِ اللهِ،
وجعلِ القاصِدِين لهُ مطمئِنِّين مستريحِين، غيرَ خائفِين
على أنفسِهِم من القتلِ فما دونَهُ، ولا على أموالِهِم من المكسِ والنَّهبِ ونحوِ
ذلكَ.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا }
فالمشرِكُ لا يُمَكَّنُ من الدُّخولِ إلى الحرمِ.
ولمَّا نهَاهُم عنِ الصَّيدِ في حالِ الإحرامِ، قالَ:
{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }:
أي: إذا حلَلْتُم منَ الإحرامِ بالحجِّ والعمرةِ، وخرجْتُم
منَ الحرمِ،
حلَّ لكُم الاصطيادُ، وزالَ ذلكَ التَّحريمُ.
والأمرُ بعدَ التَّحريمِ، يردُّ الأشياءَ إلى ما كانَتْ
عليهِ منْ قبلُ.
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا }:
أي: لا يحملَنَّكُم بغضُ قومٍ وعداوتُهُم واعتداؤُهُم
عليكُم، حيثُ صدُّوكُم عن المسجدِ،
على الاعتداءِ عليهِم، طلبًا للاشتفاءِ منْهُم،
فإنَّ العبدَ عليهِ أنْ يلتزمَ أمرَ اللهِ، ويسلكَ طريقَ
العدلِ،
ولو جُنِيَ عليهِ أو ظُلِمَ واعتُديَ عليهِ،
فلا يحلُّ لهُ أنْ يكذبَ على من كذبَ عليهِ، أو يخونَ
منْ خانَهُ.
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }:
أي: ليُعِنْ بعضُكُم بعضًا على البرِّ.
وهو: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّهُ اللهُ ويرضَاهُ، منَ
الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، منْ حقوقِ اللهِ وحقوقِ الآدمِيِّين.
والتَّقوَى في هذا الموضعِ:
اسمٌ جامعٌ لتركِ كل ما
يكرهُهُ اللهُ ورسولُهُ، منَ الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ.
وكلُّ خصلةٍ من خصالِ الخيرِ المأمورِ بفعلِها، أو خصلةٍ
من خصالِ الشَّرِّ المأمورِ بتركِها،
فإنَّ العبدَ مأمورٌ بفعلِها بنفسِهِ، وبمعاونةِ غيرِهِ
منْ إخوانِهِ المؤمِنِين.
التعاون مطلبٌ وقيمةٌ من القيمِ، التي لا بدّ من
التربية عليها، وزرعها في الجيل القادم، كقيمةٍ عظيمةٍ عندَهُ.
{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ }:
وهو التجرُّؤُ على المعاصِي، التي يأثمُ صاحبُها، ويحرجُ.
{ وَالْعُدْوَانِ ْ}:
وهو التَّعدِّي على الخَلْقِ، في دمائِهِم وأموالِهِم
وأعراضِهِم،
فكلُّ معصيةٍ وظلمٍ يجبُ على العبدِ كفُّ نفسِهِ عنْهُ،
ثمَّ إعانةُ غيرِهِ على تركِهِ.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }:
على منْ عصَاهُ، وتجرَّأَ على محارمِهِ،
فاحذرُوا المحارمَ لئلَّا يحلَّ بكُم عقابُهُ العاجلُ
والآجِلُ.
نسألُ اللهَ أنْ يعفوَ عنَّا ويغفرَ لنا، وأنْ لا يأخذَنا
بنقمةٍ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ!
اللَّهُمَ أيقِنْ قلوبَنا، في أحبِّ الأوقاتِ إليكَ، يا
ذا الجلالِ والإكرامِ!
اللَّهُمَ لا تأخذْنا بغفلةٍ منْ أمرِنا، يا ذا الجلالِ
والإكرامِ!
سبحانَكَ
اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ
اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا
معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى
اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق