الاثنين، أغسطس 08، 2016

تفريغ سورة المائدة من آية 3 إلى آية 5





الوجه الثاني من سورة المائدة


يقولُ الله تَعالَى:
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( 3)

ماذا يقصد الله عزَّ وجلَّ في قولِهِ في الوجه السَّابق:
{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ}؟

هذا هو تفسيرُها، وهذا الذي حوَّلَنا اللهُ عليهِ، في قولِهِ:
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ْ}

واعلمْ أنَّ اللهَ تباركَ وتَعالَى لا يحرِّمُ ما يحرِّمُ، إلا صيانةً لعبادِهِ، وحمايةً لهُم من الضَّررِ الموجودِ في المحرَّماتِ،
وقد يبيِّنُ للعبادِ ذلكَ، وقد لا يبيِّنُ حكمتَهُ من ذلكَ.

فأخبرَ أنَّهُ حرَّمَ:

{ الْمَيْتَةُ }:
والمرادُ بالميتةِ: ما فُقِدَت حياتُهُ بغير ذكاةٍ شرعيَّةٍ،
فإنَّها تُحرَّمُ لضررِها، وهو احتقانُ الدَّمِ في جوفِها، ولحمِها المُضِرِّ بآكلِها.

وكثيرًا ما تموتُ بعلَّةٍ، تكونُ سببًا لهلاكِها، فتضُرُّ بالآكِلِ.
ويُستثنَى منْ ذلكَ مَيتةُ الجرادِ والسَّمكِ، فإنَّهُ حلالٌ.

{ وَالدَّمُ }:
أي: المسفوحُ،

{ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ }:
وذلك شاملٌ لجميعِ أجزائِه،

وإنَّما نصَّ اللهُ عليهِ منْ بينِ سائرِ الخبائثِ من السِّباعِ،
لأنَّ طائفةً منْ أهلِ الكتابِ منَ النَّصارَى، أجازتْهُ يزعمُون أنَّ اللهِ أحلَّه لهُم.

{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ْ}:
أي: ذُكِرَ عليهِ اسمُ غيرِ اللهِ تَعالَى،
منَ الأصنامِ والأولياءِ والكواكبِ وغيرِ ذلكَ من المخلُوقِين.

انظرْ إلى آثارِ الشِّركِ باللهِ، فحتى الذَّبيحة تتضرَّر إذا لم يُذكرْ اسمُ اللهِ عليها،
وهذا من شناعةِ الشِّركِ باللهِ تَعالَى!

{ وَالْمُنْخَنِقَةُ }:
أي: الميِّتةُ بخنقٍ، بيدٍ أو حبلٍ، أو إدخالُها رأسَها بشيءٍ ضيِّقٍ، فتعجزُ عن إخراجِهِ، حتى تموتَ.

{ وَالْمَوْقُوذَةُ }:
أي: الميِّتةُ بسببِ الضَّربِ بعصًا أو حصىً أو خشبةٍ، أو هدم شيءٍ عليها، بقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ.

{ وَالْمُتَرَدِّيَةُ }:
أي: السَّاقطةُ من علوٍّ، كجبلٍ أو جدارٍ أو سطحٍ ونحوِهِ، فتموتُ بذلكَ.

{ وَالنَّطِيحَةُ }:
وهي التي تنطحُها غيرُها فتموتُ.

{ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ }:
من ذئبٍ أو أسدٍ أو نمرٍ، أو من الطُّيوِر التي تفترسُ الصُّيودَ،
فإنَّها إذا ماتَت بسببِ أكلِ السَّبعِ لها، فإنَّها لا تحلُّ.

وقولُهُ:
{ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ْ}:
راجعٌ لهذه المسائلِ، من منخنقةٍ، وموقوذةٍ، ومتردِّيةٍ، ونطيحةٍ، وأكيلةِ سبعٍ،
إذا ذكيَتْ، وفيها حياةٌ مستقرَّةٌ لتتحققَ الذَّكاةُ فيها.

ولهذا قال َالفقهاءُ: لو أبانَ السَّبعُ أو غيرُهُ حشوتَها، أو قطعَ حلقومَها،
كان وجودُ حياتِها كعدمِهِ، لعدمِ فائدةِ الذَّكاةِ فيها.

{ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ْ}:
أي: وحرَّمَ عليكُم الاستقسامَ بالأزلامِ.

ومعنى الاستقسامِ: طلبُ ما يقسَمُ لكم، ويقدَّرُ بها،
وهي قِداحٌ ثلاثةٌ، كانت تُستعملُ في الجاهليَّةِ، مكتوبٌ على أحدِها "افعلْ"، وعلى الثَّاني "لا تفعلْ"، والثَّالث غفلَ لا كتابةَ فيهِ.

فإذا هَمَّ أحدُهُم بسفرٍ أو عرسٍ أو نحوِهِما، أجالَ تلكَ القِداحَ المتساويةَ في الجرمِ، ثم أخرجَ واحدًا منْها،

فإنْ خرجَ المكتوبُ عليهِ "افعلْ"، فعلَ ومضَى في أمرِهِ،
وإنْ ظهرَ المكتوبُ عليهِ "لا تفعلْ"، لم يفعلْ،
وإنْ ظهرَ الآخرُ الذي لا شيءَ عليهِ، أعادَها، حتّى يخرجَ أحدُ القدحَين، فيعملُ بهِ.

فحرمَه اللهُ عليهِم، الذي في هذهِ الصُّورةِ وما يشبهُه، لأنَّهُ ليسَ فيه توكُّلٌ على اللهِ سبحانَهُ وتَعالَى،
وعوَّضَهم عنْهُ بالاستخارةِ لربِّهم في جميعِ أمورِهِم.

فنحنُ نتوكَّلُ على اللهِ، ونستخيرُهُ، طالِبِين منْهُ أنْ يكتبَ لنا الخيرةَ في جميعِ أمورِنا

{ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ْ}:
الإشارةُ لكلِّ ما تقدَّمَ منَ المحرَّماتِ، التي حرَّمَها اللهُ عزَّ وجلَّ صيانةً لعبادِهِ،

وأنَّها فسقٌ، أي: خروجٌ عن طاعتِهِ إلى طاعةِ الشَّيطانِ.

فالاستقسامُ بالأزلامِ، ليس بالأمرِ السَّهلِ،

وما نشهدُهُ اليومَ في كثيرٍ من وسائلِ التَّواصلِ، من قبيلِ: اختَر كذا، تحصلْ على كذا، أو إذا كنْت في شهرِ كذا، تحصلْ على كذا..

فعلينا أن نستخيرَ اللهَ عزَّ وجلَّ، ونطلبَ منْهُ أن يكتبَ لنا الخيرةَ في جميعِ أمورِنا، فهو أعلمُ بما هو صالحٌ لنا.

{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ}:
واليومُ المشارُ إليهِ هو يومُ عرفةَ، إذ أتمَّ اللهُ دينَهُ، ونصرَ عبدَهُ ورسولَهُ،
وانخذلَ أهلُ الشِّركِ انخذالًا بليغًا، بعدَ ما كانُوا حريصِين على ردِّ المؤمِنِين عن دينِهِم، طامِعِين في ذلكَ.

فلما رأَوا عزَّ الإسلامِ، وانتصارَهُ وظهورَهُ، يئِسُوا كلَّ اليأسِ من المؤمِنِين، أنْ يرجِعُوا إلى دينِهِم، وصارُوا يخافُون منْهُم ويخشَون.

ولهذا في هذه السَّنةِ التي حجّ فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، سنةَ عشرٍ حجةَ الوداعِ -
لم يحجَّ فيها مشرِكٌ، ولم يطفْ بالبيتِ عريانٌ.

ولهذا قالَ:
{ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ْ}:
أي: فلا تخشَوا المشرِكِين، واخشَوا اللهَ الذي نصرَكُم عليهِم وخذلَهُم، وردَّ كيدَهُم في نحورِهِم.

{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ْ}:
بتمامِ النَّصرِ، وتكميلِ الشَّرائعِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، الأصولِ والفروعِ،
ولهذا كانَ الكتابُ والسُّنةُ كافيَين كلَّ الكفايةِ، في أحكامِ الدِّينِ، أصولِهِ وفروعِهِ.

فكلُّ متكلِّفٍ يزعمُ أنَّهُ لا بدَّ للنَّاسِ في معرفةِ عقائدِهِم وأحكامِهِم، إلى علومٍ غيرِ علمِ الكتابِ والسُّنةِ،
من علمِ الكلامِ، وعلمِ الطَّاقةِ، وعلمِ أهلِ الكتابِ وغيرِه،
فهو جاهلٌ، مُبطلٌ في دعواهُ، قد زعمَ أنَّ الدِّينَ لا يكملُ إلا بما قالَهُ ودعَا إليهِ،
وهذا من أعظمِ الظُّلمِ والتَّجهيلِ للهِ ولرسولِهِ.

{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ْ}:
الظَّاهرةَ والباطنةَ

{ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ْ}:
أي: اخترتُهُ واصطفيتُهُ لكُم دينًا، كما ارتضَيتُكُم لهُ،

فقومُوا به شكرًا لربِّكُم، واحمدُوا الذي مَنَّ عليكُم بأفضلِ الأديانِ وأشرفِها وأكملِها، وهو دينُ الإسلامِ.

{ فَمَنِ اضْطُرَّ ْ}:
أي: ألجأتْهُ الضَّرورةُ إلى أكلِ شيءٍ من المحرَّماتِ السَّابقةِ، في قولِهِ: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ْ}

{ فِي مَخْمَصَةٍ ْ}:
أي: مجاعةٍ

{ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ْ}:
أي: مائلٍ

{ لِإِثْمٍ ْ}:
بأنْ لا يأكلَ حتّى يضطرَّ، ولا يزيدَ في الأكلِ على كفايتِهِ،

{ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ}:
حيثُ أباحَ لهُ الأكلَ في هذه الحالِ، ورحمَهُ بما يقيمُ به بنيتَهُ، من غير نقصٍ يلحقُهُ في دينِهِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى :
( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( 4)

يقولُ تَعالَى لنبيِّهِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ْ}:
منَ الأطعمةِ؟

{ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ْ}:
وهي كلُّ ما فيه نفعٌ أو لذَّةٌ، من غيرِ ضررٍ بالبدنِ ولا بالعقلِ،

فدخلَ في ذلك جميعُ الحبوبِ والثِّمارِ التي في القرَى والبرارِي،
ودخلَ في ذلك جميعُ حيواناتِ البحرِ، وجميعُ حيواناتِ البرِّ، إلا ما استثنَاهُ الشَّارعُ، كالسِّباعِ والخبائثِ منْها.

ولهذا دلَّت الآيةُ بمفهومِها على تحريمِ الخبائثِ،
{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ْ}

{ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ ْ}:
أي: أحلَّ لكُم ما علَّمْتُم من الجوارحِ.

دلَّت هذه الآيةُ على أموٍر:
- أحدُها: لُطْفُ اللهِ بعبادِهِ، ورحمتُهُ لهُم،
حيثُ وسَّعَ عليهِم طرقَ الحلالِ، وأباحَ لهم ما لم يذكُوهُ ممَّا صادَتْهُ الجوارحُ،
والمرادُ بالجوارحِ: الكلابُ، والفهودُ، والصَّقرُ، ونحو ذلك، مما يصيدُ.

- الثَّاني: أنَّهُ يشترطُ أن تكونَ معلَّمةً، بما يعدُّ في العُرفِ تعليمًا،
بأن يسترسلَ إذا أُرْسِلَ، وينزجرَ إذا زُجِرَ، وإذا أمسكَ لم يأكلْ،

ولهذا قالَ:
{ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ْ}:
أي: أمسكْنَ من الصَّيدِ لأجلِكُم.

وما أكلَ منه الجارحُ، فإنَّهُ لا يعلمُ أنَّه أمسكَهُ على صاحبِهِ، ولعلَّهُ أنْ يكونَ أمسكَهُ على نفسِهِ.

- الثَّالثُ: اشتراطُ أن يجرحَهُ الكلبُ أو الطَّيرُ ونحوِهِما،

لقولِهِ:
{ مِنَ الْجَوَارِحِ ْ}:
مع ما تقدَّمَ من تحريمِ المُنخنقةِ.
فلو خنقَهُ الكلبُ أو غيرُه، أو قتلَهُ بثقلِهِ لم يبحْ.

هذا بناءً على أنَّ الجوارحَ اللاتي يجرحْنَ الصَّيدَ بأنيابِها أو مخالبِها،

والمشهورُ أنَّ الجوارحَ بمعنى الكواسبِ
أي: المُحصِّلاتِ للصَّيدِ، والمُدركِاتِ لها، فلا يكونُ فيها على هذا دلالةٌ - واللهُ أعلمُ!

- الرَّابعُ: جوازُ اقتناءِ كلبِ الصَّيدِ، كما وردَ في الحديثِ الصَّحيحِ، مع أنَّ اقتناءَ الكلبِ محرَّمٌ،
لأنَّ منْ لازمِ إباحةِ صيدِهِ وتعليمِهِ، جوازُ اقتنائِهِ.

- الخامسُ: طهارةُ ما أصابَهُ فمُ الكلبِ منَ الصَّيدِ، لأنَّ اللهَ تَعالَى أباحَهُ، ولم يذكرْ لهُ غسلًا.

- السَّادسُ: فيه فضيلةُ العلمِ،
وأن الجارحَ المعلَّمَ -بسبب العلمِ- يُباحُ صيدُهُ، والجاهلُ بالتَّعليمِ لا يُباحُ صيدُهُ.

- السَّابعُ: أنَّ الاشتغالَ بتعليمِ الكلبِ أو الطَّيرِ أو نحوِهما، ليس مذمومًا، وليس من العبثِ والباطلِ.
بل هو أمرٌ مقصودٌ، لأنه وسيلةٌ لحلِّ صيدِهِ والانتفاعِ بهِ.

- الثَّامنُ: فيه حجَّةٌ لمَنْ أباحَ بيعَ كلبِ الصَّيدِ،
قالَ: لأنَّهُ قدْ لا يحصلُ لهُ إلّا بذلكَ.

- التَّاسعُ: فيه اشتراطُ التَّسميةِ عند إرسالِ الجارحِ،
وأنَّه إن لم يسمِّ اللهَ تَعالَى متعمدًا، لم يبحْ ما قتلَ الجارحُ.

- العاشرُ: أنَّهُ يجوزُ أكلُ ما صادَهُ الجارحُ، سواءً قتلَهُ الجارحُ أم لا.
وأنَّهُ إنْ أدركَهُ صاحبُهُ، وفيه حياةٌ مستقرَّةٌ، فإنَّهُ لا يُباحُ إلا بها.

ثمَّ حثَّ تَعالَى على تقوَاهُ، وحذَّرَ من إتيانِ الحسابِ في يومِ القيامةِ،
وأنَّ ذلكَ أمرٌ قد دنَا واقتربَ، فقالَ:
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ْ}


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ( 5)

{ ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }:
كرَّرَ اللهُ تَعالَى إحلالَ الطَّيباتِ لبيانِ الامتنانِ، ودعوةً للعبادِ إلى شكرِهِ، والإكثارِ من ذكرِهِ،
حيثُ أباحَ لهم ما تدعُوهُم الحاجةُ إليهِ، ويحصلُ لهم الانتفاعُ به منَ الطَّيباتِ.

{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ }:
أي: ذبائحُ اليهودِ والنَّصارَى حلالٌ لكُم -يا معشرَ المسلمِين-
دون باقي الكفَّارِ، فإنَّ ذبائحَهُم لا تحلُّ للمسلِمِين،

وذلك لأنَّ أهلَ الكتابِ ينتسبُون إلى الأنبياءِ والكتبِ.

وقد اتَّفقَ الرُّسلُ كلُّهُم على تحريمِ الذَّبحِ لغيرِ اللهِ، لأنَّهُ شِركٌ،
فاليهودُ والنَّصارَى يتديَّنون بتحريمِ الذَّبحِ لغيرِ اللهِ، فلذلك أبيحَتْ ذبائحُهُم دونَ غيرِهِم.

والدَّليلُ على أنَّ المرادَ بطعامِهِم ذبائحُهُم،
أنَّ الطَّعامَ الذي ليسَ من الذَّبائحِ كالحبوبِ والثِّمارِ،
ليسَ لأهلِ الكتابِ فيه خصوصيَّةٌ، بل يباحُ ذلكَ ولو كان من طعامِ غيرِهِم.

وأيضًا فإنَّهُ أضافَ الطَّعامَ إليهِم.
فدلَّ ذلكَ، على أنَّهُ كانَ طعامًا، بسببِ ذبحِهِم.

{ وَطَعَامُكُمْ }:
أيها المسلمُون

{ حِلٌّ لَّهُمْ }:
أي: يحلُّ لكُم أنْ تطعمُوهُم إيَّاهُ

{ وَ}:
أحلَّ لكُم

{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ }:
أي: الحرائرُ العفيفاتُ المؤمِناتُ

{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ }:
أي: والحرائرُ العفيفاتُ منَ اليهودِ والنَّصارَى.

وهذا مخصَّص، لقولِهِ تَعالَى:
{ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }

ومفهومُ الآيةِ، أنَّ الأرقَّاَءَ منَ المؤمِناتِ، لا يباحُ نكاحُهُنَّ للأحرارِ.

وأمَّا الكتابيَّاتُ، فعلَى كلِّ حالٍ لا يُبحْنَ، ولا يجوزُ نكاحُهُنَّ للأحرارِ مطلقًا، لقولِهِ تَعالَى:
{ مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ }

وأمَّا المسلماتُ إذا كن رقيقاتٍ، فإنَّهُ لا يجوزُ للأحرارِ نكاحُهن إلا بشرطَين:
عدمُ الطَّولِ، وخوفُ العَنتِ.

وأمَّا الفاجراتُ غيرُ العفيفاتِ عن الزِّنا، فلا يباحُ نكاحُهُنَّ،
سواءً كُن مُسلماتٍ أو كتابيَّاتٍ، حتى يتُبْنَ، لقولِهِ تَعالَى:
{ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ْ}

{ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }:
أي: أبحْنا لكُم نكاحَهُنَّ، إذا أعطيتُمُوهُنَّ مهورَهُنَّ،
فمَنْ عزمَ على أنْ لا يؤتيَها مهرَها، فإنَّها لا تحلُّ لهُ.

وأمرَ بإيتائِها إذا كانَت رشيدةً تصلحُ للإيتاءِ، وإلا أعطاهُ الزَّوجُ لوليِّها.

وإضافةُ الأجورِ إليهنَّ، دليلٌ على أنَّ المرأةَ تملكُ جميعَ مهرِها،
وليسَ لأحدٍ منه شيءٌ، إلا ما سمحَتْ به لزوجِها أو وليِّها أو غيرِهِما.

{ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ }:
أي: حالةَ كونِكُم -أيها الأزواجُ- محصِنِين لنسائِكُم، بسببِ حفظِكُم لفروجِكُم عن غيرِهنَّ.

{ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ْ}:
أي: زانِينَ مع كلِّ أحدٍ

{ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ْ}:
وهو: الزِّنا مع العشيقاتِ،

لأن الزُّناةَ في الجاهليَّةِ، منْهُم منْ يزنِي مع منْ كانَ، فهذا المُسافحُ.
ومنْهُم منْ يزنِي مع خدنِهِ ومحبِّهِ.

فأخبرَ اللهُ تَعالَى أنَّ ذلكَ كلَّه ينافي العفَّةَ،
وأنَّ شرطَ التزوُّجِ أن يكونَ الرجل عفيفًا عن الزِّنا.

وقولُهُ تَعالَى:
{ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ْ}:
أي: ومن كفرَ باللهِ تَعالَى، وما يجبُ الإيمانُ بهِ منْ كتبِهِ ورسلِهِ أو شيءٍ منَ الشَّرائعِ،
فقدْ حبطَ عملُهُ، بشرطِ أنْ يموتَ على كفرِهِ،

{ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }:
أي: الذين خسِروا أنفسَهُم وأموالَهُم وأهليهِم يومَ القيامةِ، وحصلُوا على الشَّقاوةِ الأبديَّةِ.



سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.





ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق