الأربعاء، أغسطس 03، 2016

تفريغ سورة النساء من آية 1 إلى آية 6




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

الوجه الأول من سورة النِّساء


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ( 1 )

الحمدُ للهِ ربِّ العالمِين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ سيِّدِ المُرسَلين، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعِين

نستعينُ باللهِ في بدايةِ سورةِ النِّساءِ،

ونسألُ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى التَّيسيرَ والتَّوفيقَ والفتحَ، يا حيُّ يا قيُّومُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ!


يقولُ اللهُ تَعالَى:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }:

ابتُدِأَتْ هذهِ السُّورةُ بالتَّقوَى،
وهذا إنذارٌ شديدٌ، يدلُّ على أنَّ هذهِ السُّورةَ مليئةٌ بالأحكامِ العظيمةِ، فأرْعُوا لها سمعَكُم!

السُّورةُ مدنيَّةٌ.
قالَ ابنُ عباسٍ نزلَتْ سورة النِّساء بالمدينةِ.

روَى الحاكمُ في مستدركِهِ: عنْ بنِ عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، رضيَ الله عنْهُ، قالَ:
إنَّ في سورةِ النِّساء لخمسُ آياتٍ، ما يسرُّني أنَّ لي بها الدُّنيا، وما فيهَا:

- اللهُ أكبرُ!
ما هذهِ الآياتُ يا عبد اللهِ بن مسعودٍ؟!-

الأولَى: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ )،

والثَّانيةُ: ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ )،

والثَّالثةُ: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ )،

والرَّابعةُ: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ )،

والخامسةُ: ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا )

بدأَ اللهُ عزَّ وجلَّ السُّورةَ بالأمرُ بالتَّقوَى، والتَّذكيرُ بالخَلْقِ، وصلةِ الرَّحمِ،
ثمَّ أعظمَ ميثاقٍ، وهو الميثاقُ بينَ الزَّوجِ وزوجتِهِ.

فقالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }:

وهذا يدلُّ على أنَّ العقدَ ثقيلٌ بينَ الزَّوجةِ وزوجِها.

افتتحَ اللهُ تَعالَى هذهِ السُّورةَ، بالأمرِ بتقواهُ، والحثِّ على عبادتِهِ، والأمرِ بصلةِ الأرحامِ، والحثِّ على ذلكَ.
وبيَّن السَّببَ الدَّاعيَ المُوجبَ لكلٍّ منْ ذلكَ،

فما هو السَّببُ المُوجِبُ لتقواهُ ؟
لأنهُ سُبحانَهُ جلَّ وعَلا هوَ:

{ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ }:
سُبحانَهُ! ورزقَكُم، وربَّاكُم بنعمِهِ العظيمةِ،

وتربيةُ اللهِ عزَّ وجلَّ لعبادِهِ، نوعَان:
- تربيةٌ عامَّةٌ: لجميعِ الخلقِ
- وتربيةٌ خاصَّةٌ: لخلقِهِ المُؤمِنين الصَّالِحِين.

{ مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }:
ليناسبَها، فيسكنَ إليها، وتتمَّ بذلكَ النِّعمةُ، ويحصلَ بهِ السُّرورُ،

وكذلكَ منَ المُوجِبِ الدَّاعِي لتقواهُ، تساؤُلُكم بهِ، وتعظيمُكُم،
حتى إنَّكُم إذا أردْتُم قضاءَ حاجاتِكُم ومآربِكُم، توسَّلْتُم لها، بالسُّؤالِ باللهِ.

فيقولُ منْ يريدُ ذلكَ، لغيرِهِ:
أسألُكَ باللهِ أنْ تفعلَ الأمرَ الفلانيَّ؛
لعلمِهِ بما قامَ في قلبِهِ منْ تعظيمِ اللهِ، الدَّاعِي أنْ لا يرُدَّ منْ سألَهُ باللهِ،

فكما عظَّمْتُمُوهُ بذلكَ، فلتُعظِّمُوهُ بعبادتِهِ وتقواهُ.

وكذلكَ الإخبارُ، بأنَّهُ رقيبٌ:
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }:
مطَّلِعٌ على العبادِ، في حالِ حركاتِـهِم وسكونِـِهم، وأقوالِهِم وأفعالِهِم.

إذًا - أيُّها الإخوةُ- نستخلصُ من هذا الوجهِ، فوائدَ عظيمةً:
- لا بدَّ منْ معرفةِ اسمِ الرَّقيبِ، وهو اسمٌ منْ أسماءِ اللهِ الحُسنَى جلَّ وعَلا،

- أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مطَّلِعٌ على العبادِ، في حالِ حركاتِـهِم وسكونِـِهم، وسرِّهِم وعلنِهِم، وجميعِ أحوالِهِم، مُراقِبًا لهُم فيها جلَّ وعَلا،
ممَّا يوجبُ مراقبتَهُ، وشدَّةَ الحياءِ منْهُ، بلزومِ تقواهُ.

- وفي الإخبارِ بأنَّهُ خلقَهُم منْ نفسٍ واحدةٍ،
وأنَّهُ بثَّهُم في أقطارِ الأرضِ، مع رجوعِهِم إلى أصلٍ واحدٍ،
{ مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً }:

- فما الغرضُ يا ربِّ، من خلقِنا منْ نفسٍ واحدةٍ؟
يقولُ ابنُ سعدِيّ: ليعطفَ بعضُهُم على بعضٍ، ويرقِّقَ بعضَهُم على بعضٍ.

وقرنَ اللهُ تَعالَى الأمرَ بتقواهُ، بالأمرِ ببرِّ الأرحامِ، والنَّهيِ عنْ قطيعتِها، ليؤكِّدَ هذا الحقَّ العظيمَ،
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ }

إذًا، هلْ منَ التَّقوَى يا ربِّ، أنْ أبرَّ رحمِي؟
نعمْ،

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )

وأنَّهُ كما يلزمُ القيامُ بحقِّ اللهِ، كذلكَ يجبُ القيامُ بحقوقِ الخلْقِ، خصوصًا الأقرَبين منْهُم،
بلِ القيامُ بحقوقِهِم هوَ منْ حقِّ اللهِ الذي أمرَ بهِ.

فيا قاطعًا رحمَك، انتبِهْ!
هذا هو الفسادُ في الأرضِ، وأنتَ لا تشعرُ.

ثمَّ ذكرَ اسمًا عظيمًا منْ أسمائِهِ، جلَّ وعَلا:
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }

وتأمَّلْ كيفَ افتتحَ هذهِ السُّورةَ بالأمرِ بالتَّقوَى، وصلةِ الأرحامِ، والأزواجِ عمومًا،
ثمَّ بعدَ ذلكَ، فصَّلَ هذهِ الأمورَ أتمَّ تفصيلٍ، منْ أوَّلِ السُّورةِ إلى آخرِها.

فهذهِ الآيةُ مُجملةٌ، وكلُّ ما بعدها تفصيلٌ لها، إلى آخرِ آيةٍ.

وفي قولِهِ:
{ وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا }:
تنبيهٌ على مراعاةِ حقِّ الأزواجِ والزَّوجاتِ، والقيامِ بهِ،

لكونِ الزَّوجاتِ مخلوقاتٍ منَ الأزواجِ،
فبينَهُم وبينَهُنَّ أقربُ نسبٍ، وأشدُّ اتِّصالٍ، وأقربُ علاقةٍ في الأرحامِ، والأقرَبينَ.

وقد ذُكِرَ في الحديثِ الصَّحيحِ :
" إنَّ المرأةَ خُلِقَتْ منْ ضلعٍ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلعِ أعلاهُ، فإنْ ذهبْتَ تقيمُهُ كسرْتَهُ، وإنْ استمتَعْتَ بها، استمتَعْتَ بها وفيها عوجٌ".

وقد ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ، منْ حديثِ جريرٍ بنِ عبدِ اللهِ البجليِّ;
أنِّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، حين قدمَ عليهِ أولئكَ النَّفرُ منْ مضَرٍ - وهم مُجتابُو النّمارِ - أي من عريِّهِم وفقرِهِم -

قامَ فخطبَ النَّاسَ بعدَ صلاةِ الظُّهرِ، فقالَ في خطبتِهِ:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ )

- متى تُذكَرُ هذه الآية عادةً؟
تُذكَرُ عندَ تذكيرِ النَّاس بصلةِ الأرحامِ، والعطفِ على الفقراءِ، وتلمُّسِ حاجةِ المساكينِ-

فذكَرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في خطبتِهِ، وقالَ:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ )
فهذا يدلُّ على مناسبتِها،

حتى ختمَ الآيةَ، وقالَ:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )
[ الحشر: 18 ]

ثمَّ حضَّهُم على الصَّدقةِ، فقالَ:
" تصدَّقَ رجلٌ منْ دينارِهِ، منْ درهمِهِ، منْ صاعِ برِّهِ، صاعِ تمرِهِ. . . "
وذكرَ تمامَ الحديثِ.


ثمَّ بدأَ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى يتكلَّمُ عنْ فئةٍ عظيمةٍ في مجتمعِنا، وغاليةٍ على قلوبِنا،
لا بدَّ منَ الحرصِ عليها، والتَّعاملِ معَها بحذرٍ، وحفظِ أموالِ اليتامَى.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) (2 )

اليتيمُ غالبًا صغيرٌ، فلا يعرفُ مصلحةَ نفسِهِ، وهو الذي قدْ توفَّى اللهُ عزَّ وجلَّ منْ يهتمُّ بهِ كوالدِهِ، أو والدتِهِ.

وقولُهُ تَعالَى:
{ وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ }:
هذا أوَّلُ ما أوصَى بهِ من حقوقِ الخلْقِ، في هذهِ السُّورةِ.
وهم اليَتامَى الذين فقدُوا آباءَهُم الكافِلِين لهُم، وهُم صغارٌ ضعافٌ، لا يقومُون بمصالحِهِم.

فأمرَ الرؤوفُ الرَّحيمُ عبادَهُ أنْ يحسِنُوا إليهِم، وأنْ لا يقربُوا أموالَهُم إلا بالتي هيَ أحسَنُ،
وأنْ يؤتُوهُم أموالَهُم إذا بلغُوا ورشدُوا، كاملةً موفَّرةً،

وأنْ لا:
{ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ }:
الذي هو أكلُ مالِ اليتيمِ، بغيرِ حقٍّ.

{ بِالطَّيِّبِ }:
وهو الحلالُ، الذي ما فيهِ حرَجٌ، ولا تَبِعَةٌ.

أيَّها الإخوةُ- هذه قاعدةٌ بشكلٍ عامٍ:
{ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ }

إحدى الأخواتِ راسلتْني على أنَّ لها إخوةٌ منَ الأبِ، وتقولُ أنَّها بحاجةٍ إلى أحدٍ يقفُ معَها،
لكنَّ علاقتَها بأخوتِها ليسَتْ تلكَ العلاقةَ الجيِّدةَ،
فتقولُ: أنَّها بدأَتْ تربطُ علاقاتٍ مع أبناءِ خالِها، لأنَّها لمْ تجدْ أحدًا يسمعُها،
فتسألُ: هل يجوزُ ذلكَ؟

طبعًا ابنُ خالِها، رحمٌ لها، لكنَّهُ ليسَ محرمًا لها أبدَا،
فيجبُ أنْ تحرَّمَ العلاقةَ بينَهُما، إلّا بالشيءِ الضَّروريِّ جدًا.

وأنا أقولُ - أيَّها الإخوةُ:
{ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ }:
في كلِّ أمورِكُم، ولا تتوقَّعُوا أنْ يكفيَكُم الحرامُ، ويشبعَكُم على خلافِ الحلالِ،

اللهُ عزَّ وجلَّ هو الذي خلقَ النَّفسَ، وهو أعلمُ بمصالِحِها،
لكنْ أحيانًا تطمعُ النَّفسُ، وتريدُ، وتتوقَّعُ المزيدَ.

ونحن نقولُ دائمًا، ونظنُّ أنَّنا نعلمُ بأنفسِنا البشريَّةِ، لكنَّنا لا نعلمُ!
واللهَ تَعالَى هو الذي خلقَنا، وهو أعلمُ بنفوسِنا، وهو الذي أعطَانا هذهِ الحدودَ،

ولم يعطِنا اللهُ عزَّ وجلَّ أمورًا، لا نستطيعُ القيامَ بها أبدَا.

وتذكرُون في سورةِ البقرةِ:
{ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }
[ البقرة: 249 ]

نحن نرَى الغُرفةَ بسيطةً جدًا، لا تشبِعُ، إلّا أنَّ الأصلَ فيها أنَّها تشبِعُ،

واللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى لا يعطيك عطاءً، إلا وهوَ الأنسبُ لك،
بل إنَّ الزيادةَ قد تهلكُ أحيانًا.
فاللهُ عزَّ وجلَّ قسَّمَ الأرزاقَ بقدرٍ - سُبحانَهُ وتَعالَى،

فأقولُ:
{ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ }:
الخبيثُ: الحرامُ بشكلٍ عامٍّ، سواءً كانَ مالَ يتيمٍ، أو غيرَهُ
أيُّ حرامٍ، هوَ خبيثٌ.

والطِّيِّبُ: هو الحلالُ، سواءً في لبسٍ، أو زوجٍ، أو في تعاملٍ، أو في عملٍ، أو في وظيفةٍ
فابتعدْ عنِ الوظيفةِ الخبيثةِ مثلًا، واقتربْ إلى الوظيفةِ الطَّيِّبةِ.

وكذلك في أيِّ أمرٍ، واجعلوا ذلك مقياسًا لكم -أيَّها الإخوةُ-

ثمَّ قالَ:
{ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ }:
أي: مع أموالِكُم،

- ففيهِ تنبيهٌ لقبحِ أكلِ مالِهِم بهذهِ الحالةِ، التي قدْ استغنَى بها الإنسانُ، بما جعلَ اللهُ لهُ منَ الرِّزقِ في مالِهِ.

فمَنْ تجرَّأَ على هذهِ الحالةِ، فقدْ أتَى:

{ حُوبًا كَبِيرًا }:
أي: إثمًا عظيمًا، ووِزْرًا جسيمًا.

ومن استبدالِ الخبيثِ بالطَّيِّبِ:
أنْ يأخذَ الوليُّ منْ مالِ اليتيمِ النَّفيسِ، ويجعلَ بدَلَهُ منْ مالِهِ الخسيسِ.

- وفيهِ الولايةُ على اليتيمِ،
لأنَّ مِنْ لازِمِ إيتاءِ اليتيمِ مالَهُ، ثبوتُ ولايةِ المُؤتِي على مالِهِ.

- وفيهِ الأمرُ بإصلاحِ مالِ اليتيمِ،
لأنَّ تمامَ إيتائِهِ مالَهُ، حفظُهُ والقيامُ بهِ بما يصلحُهُ، وينمِّيهِ، وعدمُ تعريضِهِ للمخاوفِ والأخطارِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا ) ( 3 )

{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ }:

أي: وإنْ خفْتُم ألّا تعدِلُوا في يتامَى النِّساء اللاتي تحتَ حجورِكُم وولايتِكُم، وخفْتُم أنْ لا تقومُوا بحقِّهِنَّ، لعدمِ محبَّتِكُم إيَّاهُن، فاعدِلُوا إلى غيرِهِنَّ،

وانكِحُوا:
{ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء }:
أي: ما وقعَ عليهِنَّ اختيارُكُم، منْ ذواتِ الدِّينِ، والمالِ، والجمالِ، والحسبِ، والنَّسبِ، وغيرِ ذلكَ من الصِّفاتِ الدَّاعيةِ لنكاحِهِنَّ،

فاختارُوا على نظرِكُم أنتُم،
ومنْ أحسنِ ما يُختارُ منْ ذلكَ، صفةُ الدِّينِ،

لقولِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
"تُنكَحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالِها، ولجمالِها، ولحسبِها، ولدينِها، فاظفرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يمينُكَ"

وفي هذهِ الآيةِ - توجيهٌ إلى أنَّهُ ينبغِي للإنسانِ أنْ يختارَ قبلَ النِّكاحِ،
بلْ وقدْ أباحَ لهُ الشَّارعُ النَّظرَ إلى مَنْ يريدُ تزوُّجَها، ليكونَ على بصيرةٍ منْ أمرِهِ.

فدينُنا واضحٌ - أيَّها الإخوةُ- حتى في الزَّواجِ، حتى تكون على بصيرةٍ من أمرِك.

ثمَّ ذكرَ العددَ الذي أباحَهُ من النِّساءِ، فقالَ:
{ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ }:

أي منْ أحبَّ،
- لكنَّ الأصلَ واحدةٌ، ومنْ ادَّعَى أنَّ التَّعدُّدَ سُنَّةٌ، فهوَ ليسَ بسُنَّةٍ-
وإنَّما منْ أرادَ ذلكَ،

أي: منْ أحبَّ أنْ يأخذَ اثنتَين فليفعلْ، أو ثلاثًا فليفعلْ، أو أربعًا فليفعلْ، ولا يزيدُ عليها،

لأنَّ الآيةَ سِيقَتْ لبيانِ الامتنانِ، فلا يجوزُ الزِّيادةُ على غيرِ ما سمَّى اللهُ تَعالَى إجماعًا.
أي: ليمتَنَّ اللهُ تَعالَى على عبادِهِ، جلَّ وعَلا،

وذلكَ لأنَّ الرَّجلَ قدْ لا تندفعُ شهوتُهُ بالواحدةِ، وقدْ لا تشبعُهُ، فأُبيحَ لهُ واحدةٌ بعدَ واحدةٍ، حتى يبلغَ أربعًا،
لأنَّ في الأربعِ غنيةٌ لكلِّ أحدٍ، إلا ما ندرَ.

ومع هذا فإنّما يُباحُ لهَ ذلكَ، إذا أمِنَ على نفسِهِ الجورَ والظُّلمَ، ووثِقَ بالقيامِ بحقوقِهِنَّ.

أما إنْ خشيَ ذلكَ، أو خافَ شيئًا منْ هذا، فليقتصرْ على واحدةٍ، أو على ملكِ يمينِهِ.
فإنَّهُ لا يجبُ عليهِ القَسمُ في ملكِ اليمينِ.

{ ذَلِك }:
أي: الاقتصارُ على واحدةٍ، أو ما ملكَتْ اليمينُ،

{ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا }:
أي: حتى لا تظلِموا.

وفي هذا أنَّ تعرُّضَ العبدِ للأمرِ الذي يخافُ منْهُ الجورَ والظُّلمَ، وعدمَ القيامِ بالواجبِ - ولو كانَ مباحًا-
أنَّهُ لا ينبغِي لهُ أنْ يتعرَّضَ لهُ.

فعلَى الإنسانِ أنْ لا يعرِّضَ نفسَهُ إلى أمرٍ يظلِمُ فيهِ،
أو يضعَ نفسَهُ في موقفٍ لا يستطيعُ أنْ يعدلَ فيهِ، بل يبتعدَ عنهُ.
وهذا التَّوجيهُ منَ الآيةِ.

بل يلزمُ السِّعةَ، والعافيةَ، فإنَّ العافيةَ خيرُ ما أُعطِيَ العبدُ.


لذلك قالَ اللهُ تَعالَى:
( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ) (4 )

ولمَّا كانَ كثيرٌ من النَّاسِ يظلِمُون النِّساءَ، ويهضمونَهُنَّ حقوقَهُنَّ،
خصوصًا الصَّداقُ الذي يكونُ شيئًا كثيرًا، ودفعةً واحدةً، يشقُّ دفعُهُ للزَّوجةِ،

أمرَهُم وحثَّهُم على إيتاءِ النِّساء
{ صَدُقَاتِهِنَّ }:
أي: مهورِهِنَّ

{ نِحْلَةً }:
أي: عن طيبِ نفسٍ، وحالِ طمأنينةٍ،
فلا تماطلوهُنَّ، أو تبخسُوا منْهُ شيئًا.

وفيهِ: أنَّ المهرَ يُدفعُ إلى المرأةِ إذا كانَتْ مكلَّفةً، وأنَّـها تملكُهُ بالعقدِ،
لأنَّهُ عزَّ وجلَّ أضافَهُ إليها،
والإضافةُ تقتضِي التَّمليكَ.

حيثُ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:
{ صَدُقَاتِهِنَّ }:
وليسَ لأحدٍ غيرَهُنَّ.

{ فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا }:
أي: من الصَّداقِ، فأعطَتْ المرأةُ زوجَها شيئًا، عن طيبِ نفسٍ، وسمحَتْ بهِ،

{ فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }:
أي: لا حرجَ عليكُم في ذلكَ، ولا تبعةَ.

وفيهِ دليلٌ على أنَّ للمرأةِ التَّصرُّفُ في مالِها -ولو بالتَّبرُّعِ- إذا كانَتْ رشيدةً،
فإنْ لم تكنْ كذلكَ، فليسَ لعطيَّتِها حكمٌ،

وأنَّهُ ليسَ لوليِّها منَ الصَّداقِ شيءٌ، غيرَ ما طابَتْ بهِ نفسُها.

وفي قولِهِ:
{ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء }:
دليلٌ على أنَّ نكاحَ الخبيثةِ، غيرُ مأمورٍ بهِ، بلْ مَنْهِيٌّ عنْهُ،
كالمُشرِكةِ، وكالفاجرةِ.

كما قالَ تَعالَى:
{ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }
[ البقرة: 221 ]

وقالَ:
{ وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }
[ النور: 3 ]


يقولُ اللهُ تَعالَى:
(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ) (5 )

{ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا }:
السُّفهاءُ: جمعُ سفيهٍ، وهو: منْ لا يحسِنُ التَّصرُّفَ في المالِ،

إمَّا لعدمِ عقلِهِ، كالمجنونِ والمعتوهِ، ونحوِهِما،
وإمَّا لعدمِ رُشدِهِ، كالصَّغيرِ، وغيرِ الرَّشيدِ.

فنهَى اللهُ تَعالَى الأولياءَ، أنْ يؤتُوا هؤلاءِ أموالَهُم خشيةَ إفسادِها وإتلافِها،

لأنَّ اللهَ جعلَ الأموالَ قيامًا لعبادِهِ في مصالحِ دينِهِم ودُنياهُم،
وهؤلاءِ لا يحسِنُون القيامَ عليها، وحفظَها،

فأمرَ الوليَّ أنْ لا يؤتيَهُم إيَّاها، بلْ يرزقُهُم منْها ويكسُوهُم، ويبذلُ منْها ما يتعلَّقُ بضروراتِهِم وحاجاتِهِم الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ،

{ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا }:

وأنْ يقولُوا لهُم قولًا معروفًا، بأنْ يطلبَ منهُم العُذرَ، أو غيرَ ذلكَ.

- وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ نفقةَ المجنونِ، والصَّغيرِ، والسَّفيهِ في مالِهِم، إذا كانَ لهُم مالٌ،
لقولِهِ:
{ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ }

- وفيهِ دليلٌ على أنَّ قولَ الوليِّ مقبولٌ، فيما يدَّعِيهِ منَ النَّفقةِ المُمكنةِ والكسوةِ؛
لأنَّ اللهَ جعلَهُ مُؤتَمَنًا على مالِهِم، فلزِمَ قبولُ قولِ الأمينِ.


يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ) (6 )

{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ }:
الابتلاءُ: هوَ الاختبارُ والامتحانُ،

وذلكَ بأنْ يُدفَعَ لليتيمِ المُقارِبِ للرُّشدِ، المُمكِنِ رشدُهُ، شيئًا منْ مالِهِ،
ويتصرَّفُ فيهِ التَّصرُّفَ اللَّائقَ بحالِهِ، فيتبيَّنَ بذلكَ رشدُهُ منْ سفهِهِ،

فإنْ استمرَّ غيرَ مُحسِنٍ للتَّصرُّفِ، لمْ يُدفَعْ إليهِ مالُهُ،
بلْ هوَ باقٍ على سفهِهِ، ولو بلغَ عمرًا كثيرًا.

{ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }:
فإنْ تبيَّنَ رشدُهُ وصلاحُهُ في مالِهِ، وبلغَ النِّكاحَ:

{ فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }:
كاملةً موفَّرةً.

{ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا }:
أي: مجاوزةً للحدِّ الحلالِ، الذي أباحَهُ اللهُ لكُم منْ أموالِكُم،
إلى الحرامِ الذي حرَّمَهُ اللهُ عليكُم منْ أموالِهِم.

{ وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا }:
أي: ولا تأكلُوها في حالِ صغرِهِم، التي لا يمكنُهُم فيها أخذَها منْكُم، ولا منعَكُم منْ أكلِها،
تبادرُون بذلكَ أنْ يكبرُوا، فيأخذُوها منْكُم، ويمنعُوكم منْها.

وهذا منَ الأمورِ الواقعةِ منْ كثيرٍ منْ الأولياءِ، الذين ليسَ عندَهُم خوفٌ منَ اللهِ، ولا رحمةٌ ومحبَّةٌ للمولَى عليهِم،

يرَونَ هذهِ الحالَ، حالَ فرصةٍ، فيغتنمُونَها، ويتعجَّلُون ما حرَّمَ اللهُ عليهِم،

فنهَى اللهُ تَعالَى عنْ هذهِ الحالةِ، بخصوصِها، عندَما قالَ اللهُ وتَعالَى:
{ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا }

نسألُ اللهَ تَعالَى العفوَ والعافيةَ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ!



سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.






ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق