بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
العشرُون من سورة المائدة
في
الآيةِ السَّابقةِ، قالَ اللهُ تَعالَى:
( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن
بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )
فلا
نقلَ فيهِم ولاعقلَ،
ومعَ
هذا فقدْ أُعجِبُوا بآرائِهِم، التي بُنِيَتْ على الجَهالةِ والظُّلمِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) ( 104)
فإذا دُعُوا:
{
إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ }:
أعرضُوا
فلم يقبَلُوا،
وَ {
قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا }:
من الدِّينِ،
يكتفُون
بما عندَ آبائِهِم من الدِّينِ،
ولو
كانَ غيرَ سديدٍ، ولا دينًا يُنجِي من عذابِ اللهِ.
ماذا
ينفعُك دينُك ودِينُ آبائِك، إذا كانَ لا يُنجِيك من عذابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا
يُدخلُك في دائرةِ الإسلامِ؟
فما
الحلُّ؟
لا بدَّ
أنْ تسألَ عن الطَّريقِ الصَّحيحِ،
عن
منهجِ القرآنِ، ومنهجِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
لا بدَّ
أنْ تسألَ عن منهجِ الدِّينِ الإسلاميِّ،
فالدِّينُ
الإسلاميُّ هو المطلبُ، وليسَ دينَ الآباءِ والأجدادِ، ولا أهلِ القريةِ، أو الدَّولةِ
الفلانيَّةِ.
{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا
وَلَا يَهْتَدُونَ }:
ولو
كانَ في آبائِهِم كفايةٌ ومعرفةٌ ودرايةٌ، لهانَ الأمرُ، ولم يكنْ هناكَ مشكلةٌ.
ولكنَّ
آباءَهُم لا يعقلُون شيئًا،
أي:
ليسَ عندَهُم من المعقولِ شيءٌ، ولا من العلمِ والهُدَى شيءٌ.
فتبًّا
لمنْ قلَّدَ منْ لا علمَ عندَهُ صحيحٌ، ولا عقلَ رجيحٌ،
وتركَ
اتِّباعَ ما أنزلَ اللهُ، واتِّباعَ رسلِهِ،
الذي
يملأُ القلوبَ علمًا وإيمانًا، وهُدَىً، وإيقانًا.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
) ( 105)
{ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ }:
أي:
اجتهدُوا في إصلاحِها وكمالِها وإلزامِها سلوكَ الصِّراطِ المستقيمِ،
{ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }:
فإنَّكُم
إذا صلحْتُم، لا يضرُّكُم من ضلَّ عن الصِّراطِ المُستقيمِ، ولم يهتدِ إلى الدِّينِ
القويمِ، وإنَّما يضرُّ نفسَهُ.
ولا
يدلُّ هذا على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ، والنَّهيَ عن المنكرِ، لا يضرُّ العبدَ
تركُهُما وإهمالُهُما،
فإنَّهُ
لا يتمُّ هُداهُ، إلا بالإتيانِ بما يجبُ عليهِ من الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن
المنكرِ.
نعمْ،
إذا كانَ عاجزًا عن إنكارِ المنكرِ بيدِهِ ولسانِهِ، وأنكرَهُ بقلبِهِ، فإنَّهُ لا
يضرُّهُ ضلالُ غيرِهِ.
لا يضرَّكَ
ضلالُ غيرِكَ، فاحرصْ واشتغلْ على نفسِكَ،
فأنتَ
مسؤولٌ أمامَ اللهِ عزَّ وجلَّ عن نفسِك أنتَ، وستُحاسبُ عن نفسِكَ،
وهذا
لا يعني عدمَ أمرِكَ بالمعروفِ، أو نهيِكَ عن المنكرِ، فهذا هو كمالُ الهُدَى.
{
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }:
أي:
مآلُكُم يومَ القيامةِ، واجتماعُكُم بين يديِّ اللهِ عزَّ وجلَّ.
{
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }:
من خيرٍ
وشرٍّ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ
أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ
تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ
لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ
اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ ) ( 106)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ }:
يخبرُ تَعالَى
خبرًا متضمنًّا للأمرِ بإشهادِ اثنَين على الوصِيَّةِ،
إذا
حضرَ الإنسانَ مقدماتُ الموتِ وعلائمُهُ.
فينبغِي
لهُ أنْ يكتبَ وصيَّتَهُ، ويُشهِدَ عليها اثنَين ذَوي عدلٍ ممَّنْ تُعتبَرُ شهادتُهُما.
{ أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }:
أي: من
غيرِ أهلِ دينِكِم، من اليهودِ أو النَّصارَى أو غيرِهم،
وذلكَ
عندَ الحاجةِ والضَّرورةِ، وعدمِ غيرِهِما من المُسلِمِين.
{ إِنْ
أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ }:
أي:
سافرْتُم فيها
{ فَأَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ }:
أي:
فأشهِدُوهُما،
ولم
يأمرْ بشهادتِهِما إلا لأنَّ قولَهُما في تلك الحالِ مقبولٌ، ويُؤكَّدُ عليهِما،
{ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ }:
بأنْ يُحبَسَا
من بعدِ الصَّلاة التي يعظِّمُونَها.
أي يُؤمَرا
بالصَّلاةِ التي يعظِّمانِها- من اليهودِ والنَّصارَى-
فإذا
انتهَيا منْها، يطلبُون منْهُما أنْ يؤدِّيا الوصِيَّةَ إلى أهلِها، كما هيَ،
هذا
إذا كان الرَّجلُ في سفرٍ
{ إِنْ
أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ }،
وأصابتْهُ
مصيبةُ الموتِ،
وأرادَ
أنْ يكتبَ وصيَّتَهُ، وليسَ لهُ قريبٌ أو أحدٌ من أهلِ بلدتِهِ، أو من أهلِ دينِهِ،
فإذا
كان هذا، فليجعلْ آخرَان من غيرِ دينِكُم، من اليهودِ والنَّصارَى،
فيطلبْ
منْهُما من بعدِ الصَّلاةِ التي يعظِّمانِها هُما.
{
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ }:
أنَّهُما
صدقَا، وما غيَّرا، ولا بدَّلا،
هذا
{ إِنِ
ارْتَبْتُمْ }:
في
شهادتِهِما وخفتم أنَّهما لم يؤدِّيا الوصيَّةَ كما هيَ،
فإنْ
صدَّقْتُموهُما، فلا حاجةَ إلى القَسَمِ بذلكَ.
إذا كنْتَ
متأكِّدًا أنَّهُما يؤدِّيان الوصِيَّةَ إلى أهلِها، فلا بأسَ في أنْ لا يقسمَان
باللهِ،
أما
إذا خشيْتُم منْهُما، فيقسمَا بعدَ تأديةِ الصَّلاةِ، أنْ يؤدِّيَا الشَّهادةَ والوصِيَّةَ
كما هيَ،
ويقولَا:
{ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ
ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ }
{ لَا
نَشْتَرِي بِهِ }:
أي: بأيمانِنا
{
ثَمَنًا }:
بأنْ
نكذبَ فيها، لأجلِ عرضٍ من الدُّنيا.
{
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى }:
فلا نُراعِيهِ
لأجلِ قربِهِ منَّا،
فنبيعَ
الشَّهادةَ بأيسرِ الأثمانِ، أو بأغلَى الأثمانِ،
لأجلِ
عرضٍ من الدُّنيا- حتى لو كانَ قريبًا.
{
وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ }:
بل نؤدِّيها
على ما سمعْنَاها
{
إِنَّا إِذًا }:
إن كتمْنَاها
{
لَمِنَ الْآثِمِينَ }:
هذهِ
الشَّهادةُ التي يقولانِهَا، بعدَ الصَّلاة التي يعظِّمَانِها هما.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ
الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ
لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا
لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( 107)
{
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا }:
أي:
الشَّاهدَين
{
اسْتَحَقَّا إِثْمًا }:
بأنْ وُجِدَ
من القرائنِ ما يدلُّ على كذبِهِما -كذَّبَا في الوصِيَّة، وحرَّفَا فيها-
وأنَّهُما
خانَا،
{ فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ
اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ }:
أي:
فليقمْ رجُلَان منْ أولياءِ الميِّتِ،
وليكونَا
من أقربِ الأولياءِ إليهِ.
{
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا }:
أي: أنَّهُما
كذبَا، وغيَّرَا وخانَا.
{
وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ }:
أي: إنْ
ظلمْنَا واعتدَيْنَا، وشهدْنَا بغيرِ الحقِّ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن
يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ
بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( 108)
قالّ
اللهُ تَعالَى في بيانِ حكمةِ تلكَ الشَّهادةِ وتأكيدِها، وردِّها على أولياءِ
الميِّتِ،
حين
تظهرُ منَ الشَّاهدَين الخيانةُ:
{
ذَلِكَ أَدْنَى }:
أي:
أقربُ
{ أَنْ
يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا }:
حين تُؤَكَّدُ
عليهِما تلكَ التَّأكيداتُ.
{ أَوْ
يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }:
أي: أنْ
لا تُقبلُ أيمانُهُم، ثمَّ تردُّ على أولياءِ الميِّتِ وتُرجَعُ لهُم،
إذا
خُشِيَ منْهُم.
{
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }:
أي:
الذين وصْفُهُم الفسقُ،
فلا
يريدُون الهُدَى، والقصدَ إلى الصِّراطِ المستقيمِ.
نسألُ
اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى
آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق