بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
الخامسُ عشر من سورة الأنعام
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا
عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ
اللَّهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( 111)
يذكرُ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى أنَّهُ منْ عدلِ اللهِ،
وحكمتِهِ بعبادِهِ،
فإنَّهُم الذين جنَوا على أنفسِهِم، وفتحَ لهُم البابَ
فلم يدخُلوا،
وبيَّنَ لهُم الطَّريقَ فلم يسلكُوا،
فبعدَ ذلك إذا حُرِمُوا التَّوفيقَ، كانَ مناسبًا
لأحوالِهِم.
وكذلك تعليقُهُم الإيمانَ بإرادتِهِم، ومشيئتِهِم وحدَهُم،
وعدمُ الاعتمادِ علَى اللهِ منْ أكبرِ الغلطِ التي وقعُوا
بها،
فإنَّهُم لو جاءَتْهم الآياتُ العظيمةُ،
من تنزيلِ الملائكةِ إليهِم، يشهَدُون للرَّسولِ بالرِّسالةِ،
وتكليمِ الموتَى، وبعثِهِم بعدَ موتِهِم،
وحشرِ كلَّ شيءٍ إليهٍم حتى يكلِّمَهُم،
{ قُبُلًا }:
مُشاهَدةً، ومُباشرةً،
بصدقِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ،
ما حصلَ منْهُم الإيمانُ، إذا لم يشَأِ اللهُ إيمانَهُم،
ولكنَّ أكثرَهُم يجهلُون.
فلذلكَ رتَّبُوا إيمانَهُم، على مجرَّدِ إتيانِ الآياتِ،
وإنَّما العقلُ والعلمُ، أنْ يكونَ العبدُ مقصودُهُ اتِّباعُ
الحقِّ،
ويطلبُهُ بالطِّرقِ التي بيَّنَها اللهُ عزَّ وجلَّ،
ويعملُ بذلكَ،
ويستعينُ ربَّهُ في اتِّباعِهِ، ولا يتَّكلُ على نفسِهِ
وحولِهِ وقوَّتِهِ،
ولا يطلبُ منَ الآياتِ الاقتراحيَّةِ، ما لا فائدةَ فيهِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( 112)
يقولُ اللهُ
عزَّ وجلَّ - مُسلِّيًا لرسولِهِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-
وكما
جعلْنا لكَ أعداءً يردُّون دعوتَكَ، ويحاربونَكَ، ويحسدُونَكَ،
فهذِهِ
سنَّتُنا، أنْ نجعلَ لكلِّ نبيٍّ نرسلُهُ إلى الخلقِ أعداءً،
منْ
شياطينِ الإنسِ والجنِّ، يقومُون بضدِّ ما جاءَتْ بهِ الرُّسلُ.
{
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }:
أي: يُزيِّنُ
بعضُهُم لبعضٍ، الأمرَ الذي يدعُون إليهِ من الباطلِ،
ويُزخرِفُون
لهُ العباراتِ حتى يجعلوهُ في أحسنِ صورةٍ،
ليغترَّ
بهِ السُّفهاءُ، وينقادَ لهُ الأغبياءُ،
الذين
لا يفهمُون الحقائقَ، ولا يفقهُون المعانيَ،
بلْ
تعجبُهُم الألفاظُ المزخرفةُ، والعباراتُ المموَّهةُ،
فيعتقدُونَ
الحقَّ باطلًا، والباطلَ حقًّا.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ) ( 113)
{
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ }:
أي:
ولتميلَ إلى ذلكَ الكلامِ المزخرفِ
{
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ }:
لأنَّ
عدمَ إيمانِهِم باليومِ الآخرِ، وعدمَ عقولِهِم النَّافعةِ،
يحملُهُم
على ذلكَ.
{
وَلِيَرْضَوْهُ }:
بعدَ
أنْ يصغُوا إليهِ،
فيصغُون
إليهِ أولًا، فإذا مالُوا إليهِ،
ورأَوا
تلكَ العباراتِ المُستحسنةِ، رضُوهُ، وزيِّنَ في قلوبِهِم،
وصارَ
عقيدةً راسخةً، وصفةً لازمةً،
ثمَّ
ينتجُ منْ ذلكَ،
أنْ
يقترفُوا منَ الأعمالِ والأقوالِ ما هُم مقترِفُون،
أي:
يأتُون من الكذبِ بالقولِ والفعلِ،
ما هوَ
من لوازمِ تلكَ العقائدِ القبيحةِ،
فهذه
حالُ المُغترِّين بشياطينِ الإنسِ والجنِّ، المُستجيبِين لدعوتِهِم،
وأمَّا
أهلُ الإيمانِ بالآخرةِ،
وأولُو
العقولِ الوافيةِ، والألبابِ الرَّزينةِ،
فإنَّهُم
لا يغترُّون بتلك العباراتِ،
بلْ همَّتُهُم
مصروفةٌ إلى معرفةِ الحقائقِ،
فينظرُون
إلى المعانِي التي يدعُو إليها الدُّعاةُ.
أيَّها
الإخوةُ- أحيانًا يأتِي الباطل مزيَّنًا مزخرَفًا،
فيصدِّقُهُ
ويغترُّ بهِ مَنْ في قلبِهِ مرضٌ.
- ومنْ
حكمةِ اللهِ تَعالَى، في جعلِهِ للأنبياءِ أعداءً،
وللباطلِ
أنصارًا قائمِين بالدَّعوةِ إليهِ،
أنْ
يحصلَ لعبادِهِ الابتلاءُ والامتحانُ،
ليتميَّزَ
الصَّادقُ منَ الكاذبِ، والعاقلُ منَ الجاهلِ، والبصيرُ منَ الأعمَى.
- ومنْ
حكمتِهِ أنَّ في ذلكَ بيانًا للحقِّ، وتوضيحًا لهُ،
فإنَّ
الحقَّ يستنيرُ ويتَّضحُ، إذا قامَ الباطلُ يصارعُهُ ويقاومُهُ.
فلا
تكرهْ شيئًا، حتى لو كانَ للحقِّ أعداءٌ،
فإنَّ
هذا هو الذي يبيِّنُ الحقَّ،
ويجعلُ
لهُ شواهدَ على صدقِهِ وحقيقتهِ،
ومنْ
فسادِ الباطلِ وبطلانِهِ،
ما هوَ
من أكبرِ المطالبِ، التي يتنافسُ فيها المُتنافِسُون.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( أَفَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ
بِالْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) ( 114)
أي: قلُ
يا أيُّها الرَّسولُ:
{
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا }:
أحاكَمُ
إليهِ، وأتقيَّدُ بأوامرِهِ ونواهِيهِ.
فإنَّ
غيرَ اللهِ محكومٌ عليهِ، لا حاكمٌ.
وكلُّ
تدبيرٍ وحُكمٍ للمخلوقِ،
فإنَّهُ
مُشتمِلٌ على النَّقصِ، والعيبِ، والجورِ،
وإنَّما
الذي يجبُ أنْ يُتَّخَذَ حاكِمًا، فهوَ اللهُ وحدُهُ لا شريكَ لهُ،
الذي
لهُ الخلقُ والأمرُ.
{
الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا }:
أي:
موضَّحًا فيهِ الحلالُ والحرامُ، والأحكامُ الشَّرعيَّةُ،
وأصولُ
الدِّينِ وفروعُهُ،
الذي
لا بيانَ فوقَ بيانِهِ، ولا برهانَ أجلَى منْ برهانِهِ،
ولا
أحسنَ منْهُ حُكمًا ولا أقومَ قيلًا،
لأنَّ
أحكامَهُ مُشتمِلةٌ على الحكمةِ والرَّحمةِ.
وأهلُ
الكتبِ السَّابقةِ، منَ اليهودِ والنَّصارَى، يعترفُون بذلكَ.
{
ويَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ }:
ولهذا،
تواطَأَتِ الإخباراتُ.
{ فَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }:
لا
تشُكَّنَّ في ذلكَ
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ
صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
) ( 115)
{
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا }:
أي: صِدقًا
في الأخبارِ،
وعدلًا
في الأمرِ والنَّهيِ.
فلا
أصدقَ منْ أخبارِ اللهِ تَعالَى التي أودعَها هذا الكتابَ العزيزَ،
ولا
أعدلَ منْ أوامرِهِ ونواهِيهِ،
{ لَا
مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ }:
حيثُ
حفظَها وأحكمَها بأعلَى أنواعِ الصِّدقِ، وبغايةِ الحقِّ،
فلا
يمكنُ تغييرُها، ولا اقتراحُ أحسنِ منْها.
{
وَهُوَ السَّمِيعُ }:
لسائرِ
الأصواتِ، باختلافِ اللُّغاتِ، على تفنُّنِ الحاجاتِ.
{
الْعَلِيمُ }:
الذي
أحاطَ علمُهُ بالظَّواهرِ والبواطنِ، والماضِي والمُستقبَلِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن
فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) ( 116)
يقولُ
اللهُ تعالَى، لنبيِّهِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
محذِّرًا
عنْ طاعةِ أكثرِ النَّاسِ:
{
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }:
فإنَّ
أكثرَهُم قد انحرفُوا في أديانِهِم وأعمالِهِم، وعلومِهِم.
فأديانُهُم
فاسدةٌ، وأعمالُهُم تَبَعٌ لأهوائِهِم،
وعلومُهُم
ليسَ فيهَا تحقيقٌ، ولا إيصالٌ لسواءِ الطَّريقِ.
بل
غايتُهُم أنَّهُم يتَّبِعُون الظنَّ، الذي لا يُغنِي منَ الحقِّ شيئًا،
ويتخرَّصُون
في القولِ على اللهِ ما لا يعلمُون.
ومنْ
كانَ بهذهِ المثابةِ،
فحريٌّ
أنْ يُحذِّرَ اللهُ منْهُ عبادَهُ، ويصفَ لهُم أحوالَهُم؛
لأنَّ
هذا – وإنْ كانَ خطابًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-
فإنَّ
أمَّتَهُ أسوةٌ لهُ في سائرِ الأحكامِ، التي ليسَتْ منْ خصائصِهِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( 117)
واللهُ
تَعالَى أصدقُ قيلًا، وأصدقُ حديثًا،
و {
هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ }:
وأعلمُ
بمَنْ يَهتدِي. ويَهدِي.
فيجبُ
عليكُم - أيُّها المؤمِنُون- أنْ تتَّبِعُوا نصائحَهُ وأوامرَهُ ونواهِيهِ،
لأنَّهُ
أعلمُ بمصالحِكُم، وأرحمُ بكُم مِنْ أنفسِكُم.
ودلَّتْ
هذهِ الآيةُ، على أنَّهُ لا يُستَدَلُّ على الحقِّ، بكثرةِ أهلِهِ،
ولا
يدلُّ قلَّةُ السَّالِكِين لأمرٍ منَ الأمورِ أنْ يكونَ غيرَ حقٍّ،
بل
الواقعُ بخلافِ ذلكَ، فإنَّ أهلَ الحقِّ هُم الأقلُّون عددًا،
الأعظمُون
-عندَ اللهِ- قدْرًا وأجرًا.
بل
الواجبُ أنْ يُستدَلَّ على الحقِّ والباطلِ، بالطُّرقِ المُوصِلةِ إليهِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ) ( 118)
يأمرُ
تعالَى عبادَهُ المؤمِنِين، بمقتضَى الإيمانِ،
وأنَّهُم
إنْ كانُوا مؤمِنِين،
فليأكلُوا
ممَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليهِ من بهيمةِ الأنعامِ، وغيرِها منَ الحيواناتِ،
ولا
يفعلُوا كما يفعلُ أهلُ الجاهليَّةِ منْ تحريمِ كثيرٍ منَ الحلالِ،
ابتداعًا
منْ عندِ أنفسِهِم، وإضلالًا من شياطينِهِم.
لقولِهِ
عزَّ وجلَّ:
{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ }:
فذكرَ
اللهُ أنَّ علامةَ المؤمنِ مُخالفةُ أهلِ الجاهليَّةِ،
في هذهِ
العادةِ الذَّميمةِ، المُتضمِّنةِ لتغييرِ شرعِ اللهِ تَعالَى،
وأنَّهُ،
أيُّ شيءٍ يمنعُهُم مِنْ أكلِ ما ذُكرَ اسمُ اللهِ عليهِ،
وقدْ
فصَّلَ اللهُ عزَّ وجلَّ لعبادِهِ ما حرَّمَ عليهِم، وبيَّنَهُ، ووضَّحَهُ؟
فلمْ
يبقَ فيهِ إشكالٌ ولا شبهةٌ، توجِبُ أنْ يمتنعَ من أكلِ بعضِ الحلالِ،
خوفًا
منَ الوقوعِ في الحرامِ.
نسألُ
اللهَ عزَّ وجلَّ السَّلامةَ والعافيةَ!
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا
أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد
وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق