الوجه الحادي والعشرون من سورة النساء
( لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )( 114)
أي: لا خيرَ في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون به،
وإذا لم يكن فيه خيرٌ، فإما لا فائدة فيه كفضولِ الكلامِ المباحِ، وإما شرٌّ كالكلامِ المحرّمِ - والعياذ بالله - بجميع أنواعه
ثم بدأ الله عز وجل يفضّل بعضَ المناجاةِ,
أي هناك مناجاةٌ جيدةٌ, هناك مناجاةٌ رائعةٌ, هناك مناجاةُ مشاريعٍ,
{ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ }
روى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة، أنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمّي خيرًا أو يقول خيرًا)
و قالت لم أسمعه يرخّص في شيءٍ مما يقوله الناس إلا في ثلاثٍ: في الحربِ, والإصلاحِ بين
الناسِ, وحديثِ الرجلِ امرأتَه, وحديثِ المرأةِ زوجَها.
وقال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات التي بايعن الرسول صلى الله عليه وسلم.
و روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ; ؟ قال : قالوا بلى يا رسول الله ، قال : " إصلاح ذات البين " .قال : "وفساد ذات البين هي الحالقة " )
{ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
إذًا ما الشرط في قبوله يا رب؟!
ما هو الشرط الذي يقبل به الله عز وجل هذا العمل؟
الأمر بالمعروف, أو الإصلاح بين الناس, أو الصدقة؟ !
{ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
عليك قبل أن تقدم عملًا ان تسأل نفسك, لمن قدمت هذا العمل ؟ سواءً كان صدقةً أم معروفّا
تقدمه, أيًا كان هذا المعروف, أو تصلح بين الناس. لا بدّ من تحديد هدفك, ماذا تريد عندما عملت هذا العمل؟
{ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
ثم يقول الله تعالى :
( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )( 115)
أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به.
طبعًا الرسول عليه الصلاة والسلام الآن غير موجود, لكنك تخالف أقواله, تخالف أفعاله وأعماله, تأتي بالبدع, تأتي بالخرافات , تأتي بأمور لم يسنها الرسول صلى الله عليه وسلم,
ولم يأتِ بها , وليست من شريعته,
هذا كله يدخلك في قوله تعالى:
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ },
فاحرص على العمل بالسنة, واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بأعمالك كلها , حتى تهنأ بشفاعته, حتى تهنأ بشربةٍ من حوضه صلى الله عليه وسلم
ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده
{ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى }
بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية
{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }
وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم
{ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى }
أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحقَ وعلمَه وتركَه،
فما جزاؤه يا رب؟!
فجزاؤه من الله عدلاً أن يبقيه في ضلاله حائرًا ويزداد ضلالًا
إلى ضلاله.
كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }
{ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى }
- يا الله -
{ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }
الضلال الذي نرى أنفسنا عليه, ونسير عليه, - ولا حول ولا قوة إلا بالله-
{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ }
- ربَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا-
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ) ) ( 116)
الآن يتحدث الله عن التوحيد, إفراد الله تعالى بالعبادة, فلا صنمٌ يُقرّب, ولا قبرٌ يُدعى, ولا وليٌّ يسأل
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ } - اللهم اجعلنا منهم -
{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا }
بعيدًا عن الحق, بعيدًا عن الهدى
إن الشركَ لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدحَ في رب العالمين وفي وحدانيتِه, وتسويةِ المخلوقِ الذي لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا, بمن هو مالك النفعِ والضرِّ وحده جلّ وعلا، لا يوجد شفعاء
مع الله سبحانه وتعالى, والذي ما من نعمةٍ إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات.
فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لله عز وجلّ ، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء.
(إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا ( 117) - العياذ بالله -
أي: ما يدعوا هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثًا، أي: أوثانًا وأصنامًا مسمياتٍ بأسماء
الإناث, كـ "اللات" و"العزى" و"مناة" ونحوهما،
ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى.
فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على
نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال،
كما أخبر الله تعالى في غير موضعٍ من كتابه، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعًا ولا ضرًا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، فكيف تنصر غيرها؟!
وليس لها أسماعٌ ولا أبصارٌ ولا أفئدةٌ، فكيف
يُعبدُ من هذا وصفُه, و يتركُ الإخلاصُ للهِ سبحانَه وتعالى, يتركُ الإخلاصُ لمن لهُ الأسماءُ الحُسنى والصفاتُ العُليا والحمدُ والكمالُ، والمجدُ والجلالُ، والعز والجمال، والرحمة والبر
والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير والملك جلّ وعلا.
ألا إن هذا من قبح ما فعلوا, وفي الحقيقة ما عبدوا غير الشيطان, الذي هو عدوهم, الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه،
والذي قال لربه مقسمًا: { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًامَفْرُوضًا }
أي: مقدرًا.
علمَ اللعينُ أنه لا يقدر على إغواءِ جميعِ عبادِ اللهِ، وأن عبادَ الله المخلصين ليس له عليهم سلطانٌ، وإنما سلطانه على من تولاه، وآثر طاعتَه على طاعةِ اللهِ.
أين أولئك الذين يذهبون إلى الأولياءِ, ويزورون أهل القبورِ, ويطلبون منهم الشفاعةَ, يطلبون منهم التقربَ من الله عزّ وجلّ .
وليس بينك وبين الله عز وجلّ أحد,
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
(لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا )( 118)
{ لَّعَنَهُ اللَّهُ }
من الذي لعنه الله ؟ الشيطان
{وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا }
:ثم قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ}
فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله:
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
وهذا النصيب المفروض الذي أقسم الله ليتخذنه, ذكر ما يريده
فقال:
(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ) ( 119)
{ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ }
أي: عن الصراط المستقيم ضلالًا في العلم، وضلالًا في العمل.
{ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ }
أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون.
لعب الشيطان عليهم فقال: أنتم لكم الجنة مثل ما لهم , أعطاهم أماني ,
{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }
وقوله: { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ }
أي: بتقطيع آذانها، وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة
والحام, فنبه ببعض ذلك على جميعه، وهذا نوعٌ من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال.
{ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ }
وهذا يتناول تغيير الخلقة بشكل عام : الظاهرة والباطنة
- تغيير الخلقة الظاهرة:
بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك, يغيرون خلقة الله
وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته،
- والعياذ بالله- يتسخط من خلق الله, لماذا خلقني الله على وجه كذا! ولماذا خلق فلاناً على وجه كذا! وعدم الرضا بتقديره وتدبيره،
- و تغيير الخلقة الباطنة:
فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره
ولولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين،
وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم- والعياذ بالله- وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة،
{ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!!
كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين- اللهم اجعلنا منهم - اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، اللهم
تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت.
( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) ( 120)
{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ }
أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد يشمل حتى الوعيد
كما قال تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ }
فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا
بالقتل وغيره،
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ }
, ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله تعالى ,
يخوّفهم بقوله: إذا أطعت الله وإذا فعلت كذا ستخسر,
بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
"من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه "
من قال هذا؟
قاله الذي وصفه الله أنه
{ومَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ, إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ }
( أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ) ( 121)
{ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا }
أي: مخلصا ولا ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الآباد.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً, واجعل تفرقنا من بعده تفرّقا معصوماً, ولا تجعل معنا
شقياً ولا محروماً.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعينِ
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق