الوجه الثاني والعشرون من سورة النساء
يقول الله تعالى :
( وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)( 122)
لما بيّن اللهُ عزَّ وجلّ مآلَ الأشقياءِ,
أولياءِ الشيطانِ, ذكر بعد ذلك مآلَ السعداءِ, أولياءِ اللهِ,
فقال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
{ آمَنُوا ْ}
بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره, على الوجه الذي أُمروا به
علمًا وتصديقًا وإقرارًا.
ثم بعد ذلك عملوا الصالحات
{
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ}
من أين تنشأ الأعمال الصالحة ؟
تنشأ عن الإيمان.
فلا شك أن الذي لا يؤمن لا يعمل,
وهذا يشمل سائرَ المأموراتِ:
ما هي المأمورات؟
من واجبٍ
ومستحبٍ،
الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح.
كلٌّ له من الثواب المرتب على
ذلك بحسب حاله ومقامه، وتكميله للإيمان والعمل الصالح.
وطبعًا يفوته ما رُتِّب على ذلك,
بحسب ما أخلَّ به من الإيمانِ والعملِ،
أحيانًا نجد اثنين :
هذا يعمل
وذاك يعمل نفس العمل, إلا أنهما يختلفان, لاختلافِ ايمانِ كل منهما.
ولهذا ذكرَ الثوابَ المترتبَ على
ذلكَ بقوله:
{ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ْ}
والجنةُ
كما نعلم فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلبِ بشرٍ، من أنواعِ
المآكلِ والمشاربِ اللذيذةِ، والمناظرِ العجيبةِ، والأزواجِ الحسنةِ، والقصورِ،
والغرفِ المزخرفةِ، والأشجارِ المتدليةِ، والفواكه المستغرَبةِ، والأصواتِ
الشجيةِ، والنعمِ السابغةِ، وتزاورِ الإخوانِ، وتذكرِهم ما كان منهم في رياضِ
الجنانِ،
وأعلى من ذلك كله وأجلُّ, رضوانُ
الله عليهم, فلا يسخطُ عليهم بعد ذلك أبدًا, وتمتعُ الأرواحِ بقربِه، والعيونِ
برؤيتِه، والأسماعِ بخطابِه, الذي ينسيهم كل نعيمٍ وسرورٍ، ولولا الثباتُ من الله
لهم لطاروا وماتوا من الفرحِ والحبورِ، لولا أنَّ الله ثبتهم في الجنة لماتوا من
شدة ما رأوا مما يفرحُهم.
فلله ما أحلى ذلك النعيم, وما
أعلى ما أنالهُم الربُّ الكريمُ، وما حصل لهم من كل خيرٍ وبهجةٍ لا يصفُه
الواصفون، وتمامُ ذلك وكمالُه الخلودُ الدائمُ في تلك المنازلِ العالياتِ،
قال
تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ
حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ْ}
فصدق اللهُ العظيمُ, الذي بلغ
قولُه وحديثُه في الصدقِ أعلى ما يكون، ولهذا لمّا كان كلامُه صدقًا, وخبرُه حقًا،
كان ما يدل عليه مطابقة.
ثم يقول الله تعالى :
( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا
يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)( 123)
- الله أكبر - الدين ليس بالأماني
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: في هذه الآية, تخاصم أهلُ الأديانِ,
فقال أهلُ
التوراةِ : كتابُنا خيرُ الكتبِ ، ونبيُّنا خيرُ الأنبياءِ.
وقال أهلُ الإنجيلِ
مثلَ ذلك.
وقال أهلُ الإسلامِ : لا دين إلا الإسلام. وكتابُنا نسخَ
كلَّ كتابٍ، ونبيُّنا خاتمُ النبيين، وأُمِرتم وأُمِرنا أن نؤمنَ بكتابِكم, ونعملَ
بكتابِنا.
فقضى الله بينهم فقال:
{ لَّيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا
يُجْزَ بِهِ }
هذه قاعدة -أيها الإخوة-
من القواعدِ القرآنيةِ,
اتخذوها في حياتكم
{ مَن
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }
يجزى به, سواءً في الدنيا أو في الآخرة, أيَّ
سوءٍ نقدِّمه, سواءً لأنفسِنا أو لأبنائِنا أو لأقاربنا أو لجيراننِا أو
لإخواننِا, فسنذوق هذا السوءَ, قد يكون في الدنيا قبل الآخرةِ, وقد يكون في
الآخرةِ.
ومعنى هذا أنَّ الدينَ ليس بالتحلّي ولا
بالتمنّي, ولكن ما وقرَ في القلوبِ, وصدّقته الأعمالُ, وليس كلُّ من ادّعى شيئًا
حصل له بمجرّدِ دعواهُ,
لا يوجد شيءٌ اسمه - ايُّها الإخوة- إذا تمنيت
فقد تمّ, ولا كلُّ من قال أنه محقٌ سُمعَ قولُه بمجرّدِ ذلك :{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }
عن عائشةَ رضي اللهُ عنها, قالت: قلت يا رسولَ
اللهِ إني لأعلمُ أشدَّ آيةٍ في القرآنِ, فقال: "
ما هي يا عائشة؟" قلت {مَن يَعْمَلْ
سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال: "هو ما يصيبُ
العبدُ المؤمنُ, حتى النكبةَ ينكبُها"
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: لما نزلت: {مَن يَعْمَلْ
سُوءًا يُجْزَ بِهِ } شقَّ ذلك على المسلمين، فقال لهم
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " سدِّدوا
وقارِبوا، فإن في كلِّ ما يصابُ به المسلمُ كفارةٌ له حتى الشوكةَ يشاكها،
والنكبةَ ينكبُها " .
ثم يقول تعالى: {
وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ}
ثم يقول الله تعالى :
(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) ( 124)
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ }
ما مصيرهم
؟ ما نصيبهم ؟
{فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا }
اللهُ عزَّ وجلَّ له من العدلِ الشيءُ العظيمُ
الذي لا يوصفُ.
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
ْ}
دخل في ذلك سائرُ الأعمالِ القلبيةِ والبدنيةِ، ودخل أيضًا
كل عاملٍ من إنسٍ أو جنٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ، ذكرٍ أو أنثى.
ولهذا قال: {
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى }
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ ْ}
وهذا
شرطٌ لجميع الأعمال، لا تكون صالحةً ولا تقُبل, ولا يترتب عليها الثوابُ, ولا
يندفعُ بها العقابُ إلا بالإيمان.
فالأعمالُ بدون الإيمانِ,
كأغصانِ شجرةٍ قُطعَ أصلُها, وكبناءٍ بُني على موجِ الماءِ، فالإيمانُ هو الأصلُ
والأساسُ والقاعدةُ التي يُبنى عليها كل شيءٍ، وهذا القيدُ -أي الايمان- ينبغي
التفطنُ له في كلِّ عملٍ أُطلق، فإنه مقيدٌ به.
{ فَأُولَئِكَ ْ}
أي:
الذين جمعوا بين الإيمانِ والعملِ الصالحِ, ما مصيرهم؟
{ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ْ}
المشتملة
على ما تشتهي الأنفسُ, وتلذ الأعينُ
{ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ}
أي:
لا قليلًا ولا كثيرًا, مما عملوه من الخير، بل يجدونه كاملًا موفرًّا، مضاعفًا
أضعافًا كثيرةً.
يقول الله تعالى :
( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ) ( 125)
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ }
أي: لا
أحدَ أحسنُ من دينِ من جمعَ بين الإخلاصِ للمعبودِ، وهو إسلامُ الوجهِ للهِ,
الدالِ على استسلامِ القلبِ وتوجهِه وإنابتِه وإخلاصِه، وتوجهِ الوجهِ وسائرِ
الأعضاءِ للهِ عزَّ وجلَّ.
{ وَهُوَ ْمُحْسِنٌ ْ}
أي:
متبعٌ لشريعةِ الله التي أرسل بها رسلَه، غير مبتدعٍ, وأنزلَ كتبَه، وجعلها طريقًا
لخواصِّ خلقِه وأتباعهم.
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ }
هذا الإخلاص ,- أيها
الإخوة - هذا هو الإخلاصُ التعبديُّ, فالأساسُ التعبديُّ له ركيزتان: أوّلُهما
الإخلاصُ, وثانيهُما الاتّباعُ.
وهذه الآيةُ تحكي وتفسّر الأساسَ التعبديَّ,
فعلينا أن نربي أنفسَنا وأطفالنَا على الأساسِ التعبديِّ
ما هو الأساسُ التعبديُّ ؟ أن نربي أنفسَنا
وأطفالَنا على الإخلاصِ, يخلصون أعمالَهم التي يقدمونها للهِ وينسَوها, فلا
يذكروها أمامَ أحدٍ, ولا يمنّون بها على أحدٍ
{قَوْلٌ
مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى }
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }
فالمحسنُ متبعٌ لشريعةِ الله التي أرسل بها رسله، غير مبتدعٍ, لا
يبتدعُ أو يتبعُ آباءَه وأجدادَه, وأفرادَ قبيلتِه أو قريتِه, ويقول كانوا
يفعلون كذا ويفعلون كذا, لا, نحن نسيرُ في منهجٍ صحيحٍ , منهجِ محمدٍ صلى
الله عليه وسلم, وصحبِه والسلفِ الصالحِ, ولا نقبلُ بغير هذا.
{ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ ْ}
أي: دينه وشرعه
{ حَنِيفًا }
أي:
مائلًا عن الشرك إلى التوحيد، وعن التوجّهِ للخلقِ إلى الإقبال على الخالق، فلا
يتعلق بالخلق أبدًا, وإنما تعلّقه كله باللهِ, فلا يخشى إلا اللهَ, ولا يحبُّ إلا
اللهَ, ولا يرضى إلا للهِ, ولا يغضبُ إلا للهِ.
المحركُ الحقيقي له في أفعالِه
وتصرفاتِه وسلوكِه كلُّه هو اللهُ سبحانَه وتعالى, فما يُرضي اللهَ يرضاهُ, وما
يُغضبُ اللهَ يغضبُه.
{
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ}
والخُلة:
أعلى أنواعِ المحبةِ، وهذه المرتبةُ حصلت لخليلين فقط هما: محمدٌ وإبراهيمُ عليهما
الصلاة والسلام،
وأما المحبةُ من الله فهي لعموم
المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلًا لأنه وفَّى بما أُمر به, وقام بما
ابْتُلي به، فجعله الله إمامًا للناس، واتخذه خليلًا، ونوَّهَ بذكرِه في العالمين.
اللهم اجعلنا يا حيّ يا قيوم ممن
يقتدي بابراهيمَ عليه السلام.
إذا أردت نيلَ الإمامةِ في الدّينِ, فعليك
بأمرين فقط: الصبرُ واليقينُ, وهذين الأمرين اجتمعا في ابراهيمَ عليه السلامُ,
وكلُّ قصصِه تحكي الصبرَ واليقينَ.
يقول الله تعالى :
( وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا )
( 126)
فالله مطلعٌ على كل شيء سبحانه,
له السمواتُ, له الأرضُ, له ُكلُّ ما فيها, يعلمُ ما فيها, وما يجري فيها, وما
يحصلُ فيها, وما يدخلُ وما يخرجُ وما يلجُ في الليل والنهار, كلُّه يعلمُه الله عز
وجل , محيطٌ به, هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ, يحيطُ بكل شيءٍ سبحانه.
{ ولله مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ}
أي: الجميعُ ملكُه
وعبيدُه، فهم المملوكون وهو المالكُ المتفردُ بتدبيرهم،
{وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
مُّحِيطًا }
وقد أحاط علمُه بجميع المعلومات، وبصرُه
بجميع المبصرات، وسمعُه بجميعِ المسموعاتِ، ونفذت مشيئتُه وقدرتُه بجميعِ
الموجوداتِ، ووسعَت رحمتُه أهلَ الأرضِ والسماواتِ، وقهرَ بعزِّه وقهرِه كلَّ
مخلوقٍ، ودانت له جميعُ الأشياءِ.
ثم يقول الله تعالى في آخر آيةٍ من الوجه:
( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ ۖ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ
لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ
وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ۚ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) ( 127)
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ }
الاستفتاء: طلبُ السائلِ من المسؤولِ بيانَ
الحكمِ الشرعيِّ في ذلكَ المسؤول عنه.
فأخبرَ عن المؤمنين أنهم يستفتون
الرسولَ صلى الله عليه وسلمَ, في حكمِ النساءِ المتعلقِ بهم، فتولى اللهُ هذه الفتوى بنفسه
فقال:
{ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ْ}
فاعملوا
على ما أفتاكم به في جميعِ شؤونِ النساءِ، من القيامِ بحقوقِهن, وتركِ ظلمِهن,
عمومًا وخصوصًا.
وهذا أمرٌ عامٌ يشملُ جميعَ ما
شرعَ اللهُ أمرًا ونهيًا, في حقِّ النساءِ الزوجاتِ وغيرِهن، الصغارِ والكبارِ،
ثم خصّ -بعد التعميم- الوصيةَ
بالضعافِ من اليتامى والولدانِ, اهتمامًا بهم وزجرًا عن التفريطِ في حقوقِهم,
فقال: { وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ
فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ْ}
أي: ويفتيكم أيضًا بما
يتلى عليكم في الكتابِ في شأنِ اليتامى من النساءِ الضعفاءِ المساكين,
{ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ
مَا كُتِبَ لَهُنَّ ْ}
وهذا إخبارٌ عن الحالةِ
الموجودةِ الواقعةِ في ذلك الوقت- على عهدِ الجاهليةِ قبل حياة النبي صلى الله
عليه وسلم- ،
فإن اليتيمةَ إذا كانت تحتَ
ولايةِ الرجل بخسها حقها وظلمها، إما بأكل مالها الذي لها أو بعضه، أو منعها من
التزوج لينتفع بمالها، خوفًا من استخراجه من يدهِ إنْ زوَّجها،
أو يأخذ من مهرِها الذي تتزوج به
بشرطٍ أو غيره، هذا إذا كان راغبًا عنها، إذا لم تكن ذاتَ جمالٍ ومالٍ,
أو يرغبُ فيها وهي ذات جمالٍ
ومالٍ, يتزوجها غصبًا, برضاها أو غيرِ رضاها, ولا يقسطُ في مهرِها، بل يعطيها دون
ما تستحقُّ، فكلَّ هذا ظلمٌ يدخل تحت هذا النصِّ.
أين من يدافعون الآن عن حقوق
النساء؟! ويقولون إن الإسلام قد بخسهنّ حقوقهن , فالله لم يترك في وصيته حتى
النساء اليتامى, وأنزل فيهنّ آياتٍ عظيمةً, ومنها هذه الآية
{ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ ْ}
أي: ترغبون عن نكاحهن, أو
في نكاحهن.
{ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْوِلْدَان ْ}
أي: ويفتيكم في المستضعفين
من الولدانِ الصغارِ، أن تعطوهم حقهم من الميراث وغيره وأن لا تستولوا على أموالهم
على وجهِ الظلمِ والاستبدادِ.
{ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى
بِالْقِسْطِ ْ}
أي: بالعدلِ التامِّ، وهذا
يشملُ القيامَ عليهم, بإلزامِهم أمرَ اللهِ عزَّ وجلَّ, وما أوجبه على عبادِه،
فيكون الأولياءُ مكلفين بذلك، يلزمونهم بما أوجبه اللهُ سبحانه وتعالى.
ويشمل القيامُ عليهم في مصالحِهم
الدنيويةِ بتنميةِ أموالِهم, فيهتم بأموالهم كأنها أموالُه،
وأن لا يقربوها إلا بالتي هي أحسنُ، وكذلك لا يُحابُون فيهم صديقًا ولا غيره، في
تزويجٍ وغيره، على وجهِ الهضمِ لحقوقِهم.
وهذا من رحمتِه تعالى بعبادِه،
حيثُ حثَّ غايةَ الحثِّ على القيامِ بمصالحِ من لا يقومُ بمصلحةِ نفسه, لضعفِه
وفقدِ أبيه.
ثم حثّ على الإحسانِ عمومًا
فقال:
{ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ْ}
لليتامى
ولغيرهم, سواءً كان الخير متعديًا أو لازمًا,
{ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ
عَلِيمًا ْ}
أي: قد أحاط علمُه بعمل العاملين
للخير، قلةً وكثرةً، حسنًا وضدَّه، فيجازي كُلًّا بحسبِ عملِه.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله إلا أنت
أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً,
واجعل تفرقنا من بعده تفرّقا معصوماً, ولا تجعل معنا شقياً ولا محروماً.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمدٍ وعلى
آله وصحبه أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق