بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه
الثالث من سورة النِّساء
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ
فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّن بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً
أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ
فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) ( 12 )
تتكلَّمُ الآيةُ عنْ ميراثِ الزَّوجينِ:
يقولُ تَعالَى:
{ وَلَكُمْ }:
- أيُّها الرِّجالُ -
{ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ
إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ }:
نصفُ ما تركَ أزواجُكُم، إذا مِتْنَ
عنْ غيرِ ولدٍ،
{ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ
دَيْنٍ }:
وقدْ تقدَّمَ أنَّ الدَّينَ مقدَّمٌ
على الوصيَّةِ، وبعدَهُ الوصيِّةُ، ثمَّ الميراثُ،
وهذا أمرٌ مُجمَعٌ عليهِ بينَ
العلماءِ،
وحكْمُ أولادُ البنينِ، وإنْ سفلُوا،
حكْمُ أولادِ الصُّلبِ.
ثمَّ قالَ:
{ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ إِنْ لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ }:
ربعُ ما تركَ أزواجُكُم، إذا ماتُوا
عنْ غيرِ ولدٍ،
{فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ
فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم }:
وسواءٌ في الرُّبعِ أو الثُّمنِ،
الزَّوجةُ والزَّوجتانِ الاثنتَانِ
والثَّلاثُ والأربعُ، يشتركْنَ فيهِ.
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ
بِهَا أَوْ دَيْنٍ }:
الكلامُ عليهِ كما تقدَّمَ.
إذَا الدَّينُ ثمَّ الوصيِّةُ ثمَّ
الميراثُ.
{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ }:
الكَلالةُ: مُشتقَّةٌ منَ الإكليلِ،
وهو الذي يحيطُ بالرَّأسِ منْ جوانبِهِ،
والمرادُ هنا: منْ يرثُهُ منْ حواشِيهِ،
لا أصولِهِ ولا فروعِهِ.
وقالَ أبي بكرٍ الصِّديقِ:
فقالَ: أقولُ فيها - أي في الكَلالةِ-
برأيِي،
فإنْ يكُنْ صوابًا فمِنَ اللهِ،
وإنْ يكُنْ خطًأ فمنِّي ومنَ الشَّيطانِ، واللهُ ورسولُهُ بريئان منْهُ:
الكَلالةُ منْ لا ولدَ لهُ ولا
والدَ.
ولم يخالفْهُ عمرُ بنُ الخطَّابِ وإنما
قالَ نفسَ الكلامِ،
وهكذا قالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ،
وابنُ مسعودٍ.
حكمُ أولادُ الأمِّ منْ غيرِ
أبيهِ:
{ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ }:
أي : لهُ أخٌ أو أختٌ منْ أمٍّ،
كما هو في قراءةِ بعضِ السَّلفِ،
منْهُم سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، وكذا فسَّرَها أبو بكرٍ الصِّديقُ
{ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
وإخوةُ الأمِّ يخالفُون بقيَّةَ
الورثةِ، منْ وجوهٍ:
أحدُها: أنَّهُم يرثُون مع منْ أدلَوا
بهِ، وهي الأمُّ.
الثَّاني: أنَّ ذَكَرَهُم وأنْثَاهُم
سواءٌ في الميراثِ.
الثَّالثُ: أنَّهُم لا يرثُون، إلا
إذا كانَ ميِّتُهُم يورَثُ كلالةً -أي الذي ليسَ لهُ والدٌ ولا ولدٌ-
فلا يرثُون مع أبٍ، ولا جدٍّ، ولا
ولدٍ، ولا ولدِ ابنٍ.
الرَّابع : أنَّهُم لا يُزَادُون
على الثُّلثِ،
فلا يأخذُون أكثرَ من الثُّلثِ، وإن
كثُرَ ذكورُهُم وإناثُهُم.
وقولُهُ:
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ
بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ }:
أي: لتكونَ وصيَّتُهُ على العدلِ،
لا على الإضرارِ والجُورِ والحيفِ،
بأنْ يحرِمَ بعضَ الورَثَةِ، أو
ينقصُهُ، أو يزيدُهُ، على ما قدَّرَ اللهُ لهُ منَ الفريضةِ،
فمتى سعَى في ذلكَ، كانَ كمَنْ ضادَّ
اللهَ في حكمتِهِ وقسمتِهِ.
وقد ثبتَ في الحديثِ الصَّحيحِ، أنَّ
رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالَ:
" إنَّ اللهَ قدْ أعطَى كلَّ
ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصيَّةَ لوارثٍ".
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( 13 )
اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى يعظِّمُ
حدودَهُ الآنَ، ناهِيًا عنْ تجاوُزِها،
والوعيدُ على تعدِّي الحدودِ في
المواريثِ.
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }:
أي:
هذهِ الفرائضُ والمقاديرُ التي جعلَها اللهُ للورثَةِ،
بحسبِ
قربِهِم منَ الميِّتِ، واحتياجِهِم إليهِ، وفقدِهِم لهُ عندَ عدمِهِ،
هيَ
حدودُ اللهِ، فلا تعتدُوها، ولا تتجاوزُوها;
ولهذا
قالَ:
{
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }:
أي:
فيها، فلم يزِدْ بعضَ الورثَةِ، ولم ينقصْ بعضًا بحيلةٍ ووسيلةٍ،
بل تركَهُم
على حكمِ اللهِ، وفريضتِهِ وقسمتِهِ،
فما
جزاؤُهُ؟
{ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }:
وعلى العكسِ تمامًا؛
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ
عَذَابٌ مُّهِينٌ ) ( 14 )
أي ،
لكونِهِ غيَّرَ ما حكمَ اللهُ بهِ، وضادَّ اللهَ في حكمِهِ.
وهذا
إنَّما يصدرُ عنْ عدمِ الرِّضا بما قسمَ اللهُ تَعالَى، وحكَمَ بهِ،
ولهذا
يجازِيهِ بالإهانةِ في العذابِ الأليمِ المُقيمِ.
وكل من
يحادِّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى، ورسولَهُ.
روَى
الإمامُ أحمدُ، عنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنْهُ، قالَ:
قالَ
رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
"
إنَّ الرَّجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الخيرِ سبعينَ سنةً،
فإذا
أوصَى حافَ في وصيَّتِهِ، - أي مالَ في وصيَّتِهِ- فيُختَمُ بشرِّ عملِهِ، فيدخلُ
النَّارَ;
وإنَّ
الرَّجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الشَّرِّ سبعينَ سنةً،
فيعدِلُ
في وصيَّتِهِ، فيُختَمُ لهُ بخيرِ عملِهِ، فيدخلُ الجنَّةَ".
قالَ: ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: اقرؤُوا
إنْ شئْتُم: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ }
إلى قولِهِ: { وَلَهُ عَذَابٌ
مُّهِينٌ }.
و قالَ
أبو داوودُ في بابِ الإضرارِ في الوصيَّةِ منْ سُنَنِهِ:
أنَّ
أبا هريرةَ، رضيَ اللهُ عنْهُ، حدَّثَهُ:
أنَّ
رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالَ:
"
إنَّ الرَّجلَ ليعملُ أو المرأةَ، بطاعةِ اللهِ ستِّينَ سنةً،
ثمَّ
يحضرُهُما الموتُ، فيضَارَّان في الوصيَّةِ، فتجبُ لهُما النَّارُ"
سبحانَكَ
اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ
اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا
معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ
اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق