بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه
الرابع منْ سورة النِّساء
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(واللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ
فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) (15 )
{واللَّاتِي
}:
أي: النِّساء
{
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ }:
أي: الزِّنا،
ووصفَها بالفاحشةِ، لشناعتِها وقبحِها.
{
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ }:
أي: منْ
رجالِكُم المؤمِنين العدولُ.
{
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ }:
أي:
احبسوهُنَّ عنِ الخروجِ المُوجبِ للرَّيبةِ، فإنَّ الحبسَ منْ جملةِ العقوباتِ.
والحبسُ
- أيَّها الإخوةُ - يعتبرُ حبساً جيداً في التربيةِ للأخطاءِ،
والحبسُ
على حسبِ الذَّنبِ: حبسُ ساعةٍ، أو حبسُ نصف ساعةٍ، أو ساعتين،
فإذا
اتَّخذَهُ أولياءُ الأمورِ في تربيتِهِم، فإنَّهُ يخفِّفُ الضَّربَ، ويخفِّفُ التَّعبَ
الجسديَّ.
{
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ }:
أي:
هذا منْتهَى الحبسِ.
{ أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا }:
أي:
طريقًا غيرَ الحبسِ في البيوتِ،
وهذه
الآيةُ ليسَتْ منْسوخًةً،
فكانَ
الأمرُ في أوَّلِ الإسلامِ كذلكَ، حتى جعلَ اللهُ لهُنَّ سبيلًا،
وهو
رجمُ المحصَنِ، وجلدُ غيرِ المحصَنِ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا
مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) (16 )
{
والَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا }:
أي:
الفاحشةَ
{
مِنْكُمْ }:
منَ
الرِّجالِ والنِّساءِ
{
فَآذُوهُمَا }:
بالقولِ
والتَّوبيخِ، والتَّعيير، والضَّربِ الرَّادعِ عنْ هذه الفاحشةِ،
فعلى
هذا يكونُ الرِّجالُ، إذا فعلوا الفاحشةَ يُؤذَونَ، والنِّساءُ يُحبَسْنَ ويُؤذَينَ.
فالحبسُ
غايتُهُ إلى الموتِ، والأذيَّةُ نهايتُها إلى التَّوبةِ والإصلاحِ،
ولهذا قالَ:
{
فَإِنْ تَابَا }:
أي: رجعَا
عنْ الذَّنبِ الذي فعلاهُ، وندمَا عليهِ، وعزمَا على أنْ لا يعودَا
{
وَأَصْلَحَا }:
العملَ
الدَّالَ على صدقِ التَّوبةِ
{
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا }:
أي: عنْ
أذاهِما
{
إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا }:
أي:
كثيرُ التَّوبةِ على المُذنِبين الخطَّائِين،
عظيمُ
الرَّحمةِ والإحسانِ،
والذي
-منْ أعظمِ إحسانِهِ- أنْ وفَّقَهُم للتَّوبةِ، وقبلَها منْهُم، وسامحَهُم عنْ ما
صدرَ منْهُم.
وهذا
يدلُّ على رحمتِهِ جلّ وعلا، وعفوِهِ وكرمِهِ وفضلِهِ وإحسانِهِ وجودِهِ.
ويؤخَذُ
منْ هاتَين الآيتَين، أنَّ بينة الزِّنا، لا بدَّ أنْ تكونَ أربعةُ رجالٍ مؤمِنين،
ومنْ
بابِ أولَى وأحرَى اشتراطُ عدالتِهِم؛
لأنَّ
اللهَ تَعالَى شدّدَ في أمرِ هذهِ الفاحشةِ، سترًا لعبادِهِ،
حتى إنَّهُ
لا يُقبَلُ فيها النِّساءُ منْفرِداتٍ، ولا معَ الرِّجالِ، ولا ما دونَ أربعةٍ.
ولا بدَّ
منَ التَّصريحِ بالشَّهادةِ،
كما دلَّتْ
على ذلكَ الأحاديثُ الصَّحيحةُ:
روَى الإمامُ أحمدُ، عنْ عبادةَ بنِ
الصَّامتِ، قالَ:
كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إذا نزلَ عليهِ الوحيُ، أثَّرَ عليهِ، وكرُبَ لذلكَ، وتَرَبّد وجهُهُ،
فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلّ عليهِ ذاتَ
يومٍ، فلما سُرِّيَ عنْهُ، قالَ:
"خذُوا عنِّي قد جعلَ اللهُ
لهُنَّ سبيلاً، الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، والبِكرُ بالبِكرِ، الثَّيِّبُ جلدُ مائةٍ،
ورجمٌ بالحجارةِ، والبِكرُ جلدُ مائةٍ، ثمَّ نفيُ سنةٍ".
وقدْ رواهُ مسلمُ وأصحابُ السُّننِ،
منْ طرقٍ، عنْ عبادةَ بنِ الصَّامتِ، عنْ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ،
ولفظُهُ:
"خذُوا عنِّي خذُوا عنِّي، قدْ
جعلَ اللهُ لهُنَّ سبيلاً، البِكرُ بالبِكرِ جلدُ مائةٍ، وتغريبُ عامٍ، الثَّيِّبُ
بالثَّيِّبِ، جلدُ مائةٍ، والرَّجمُ"
وقالَ الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ
صحيحٌ
وقد ثبتَ في الصَّحيحَين:
"إذا زنَتْ أمَةُ أحدِكُم،
فليجلدْها الحدَّ، ولا يثرِّبْ عليها"
أي: ثمَّ لا يعيِّرُها بما صنعَتْ.
ذكرنا
أنَّهُ لا بدَّ منَ التَّصريحِ بالشَّهادةِ، كما دلَّتْ على ذلكَ الأحاديثُ الصَّحيحةُ
السَّابقةُ، وتومِئُ إليهِ هذهِ الآيةُ،
لما قالَ:
{
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ }:
لم
يكتفِ بذلكَ، حتى قالَ:
{
فَإِنْ شَهِدُوا }:
أي: لا
بدَّ منْ شهادةٍ صريحةٍ، عنْ أمرٍ يُشاهَدُ عيانًا، منْ غيرِ تعريضٍ، ولا كنايةٍ.
ويؤخَذُ
منْهُما أنَّ الأذيَّةَ بالقولِ والفعلِ والحبسِ، قدْ شرعَهُ اللهُ،
تعزيرًا
لجنسِ المعصيةِ، الذي يحصلُ بهِ الزَّجرُ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى
اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا) ( 17 )
توبةُ
اللهِ على عبادِهِ، نوعَان:
- توفيقٌ منْهُ للتَّوبةِ،
- وقبولٌ لها بعدَ وجودِها منْ العبدِ،
فأخبرَ
اللهُ هنا أنَّ التَّوبةَ المُستحقةَ على اللهِ، حقٌّ أحقَّهُ على نفسِهِ جلَّ
وعَلا، كرمًا منْه وَجُودًا، لمنْ عملَ:
{
السُّوءَ }:
أي:
المعاصيَ
{
بِجَهَالَةٍ }:
أي:
جهالةً منْهُ بعاقبتِها وإيجابِها لسخطِ اللهِ، وعقابِهِ،
وجهلاً
منْهُ بنظرِ اللهِ، ومراقبتِهِ لهُ،
وجهلاً
منْه بما تؤولُ إليهِ منْ نقصِ الإيمانِ، أو إعدامِهِ.
فكلُّ عاصٍ
للهِ، فهو جاهلٌ بهذا الاعتبارِ.
أيُّ
أحدٍ يعصِي، فهذا يعني أنَّ عنْدَهُ جهلٌ باللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى،
لديه
نقصٌ في الإيمان،
لا
يعصي العبدُ اللهَ عزّ وجلّ وقلبُهُ مؤمنٌ.
وإنْ
كانَ عالماً بالتَّحريمِ.
بل
العلمُ بالتَّحريمِ شرطٌ لكونِها معصيةً مُعاقباً عليها.
إذا لم
يكنْ الإنسانُ عارِفاً أنَّها مُحرَّمةٌ، فهذا لا يُثابُ عليهِ، لأنَّهُ كانَ
جاهلاً،
ونحنُ
نعلمُ أنَّ الجاهلَ - وللهِ الحمدُ- مرفوعٌ عنْه.
المشكلةُ،
إذا كان لدينا علمٌ، فهل نجلسُ، ونقولُ:
ما دامَ
لدينا علمٌ، فخلِّينا على معاصِينا، ولا نطلبُ العلمَ ولا نسأل؟
لا. .
لا بدَّ منَ السُّؤالِ عنْ أمورِ دينِكُم.
{
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ }:
يُحتمَلُ
أنْ يكونَ المعنَى:
- ثمَّ يتوبُون قبلَ معاينةِ الموتِ،
فإنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ، إذا تابَ قبلَ معاينةِ
الموتِ، والعذابِ قطعاً.
وأمَّا بعدَ حضورِ الموتِ، فلا يُقبَلُ منَ العاصِين
توبةٌ، ولا منَ الكفَّارِ رجوعٌ.
لذلك قالَ اللهُ تَعالَى:
( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى
اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا ) ( 17 )
( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ
أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (18 )
روَى
الإمامُ أحمدُ، عنْ
عبدِ اللهِ بنِ عمرٍ، عنْ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَ:
" إنَّ اللهَ يقبلُ
توبةَ العبدِ، ما لم يغرْغِرْ".
رواهُ الترمذي، وابنُ ماجَه
رواهُ الترمذي، وابنُ ماجَه
وروَى الإمامُ أحمدُ، عنْ أسامةَ
بنِ سلمانَ، أنَّ أبا ذرٍّ حدَّثَهُم أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، قالَ:
" إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ عبدِهِ،
أو يغفرُ لعبدِهِ، مالم يقعْ الحجابُ".
قيلَ: وما وقوعُ الحجابِ، يا رسولَ
اللهِ؟
قالَ: " أنْ تخرجَ النَّفسُ، وهي مُشركِةٌ"
- والعياذُ باللهِ!
- ويُحتمَلُ أنْ يكونَ معنَى قولِهِ:
{ مِنْ قَرِيبٍ }:
أي: قريبٍ منْ فعلِهِم للذَّنبِ،
المُوجبِ للتَّوبةِ،
فإنَّ منْ
بادرَ إلى الإقلاعِ، منْ حينِ صدورِ الذَّنبِ مباشرة، ًوأنابَ إلى اللهِ، وندمَ
عليهِ،
فإنَّ
اللهَ يتوبُ عليهِ،
بخلافِ
منْ استمرَّ على ذنوبِهِ، وأصرَّ على عيوبِهِ، حتى صارَتْ فيهِ صفاتٍ راسخةً،
فإنَّهُ
يعسرُ عليهِ إيجادُ التَّوبةِ التَّامةِ.
فيعتادُ
الذَّنبَ، وتصعبُ عليه التَّوبةُ.
والغالبُ
أنَّهُ لا يُوَفَّقُ للتَّوبةِ، ولا يُيَسَّرُ لأسبابِها،
كالذي
يعملُ السُّوءَ، على علمٍ تامٍ ويقينٍ وتهاونٍ بنظرِ اللهِ إليهِ،
فإنَّهُ
سدَّ على نفسِهِ بابَ الرَّحمةِ - والعياذُ باللهِ!
إذا
أذنبْتَ، فتُبْ مباشرةً إلى اللهِ!
اللَّهُمَ
اغفرْ لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، وثبِّتْ أقدامَنا، وانصُرْنا على القومِ
الكافِرِين، يا حيُّ يا قيُّومُ!
نعم. .
قدْ يُوَفِّقُ اللهُ عبدَهُ المصرّ على الذُّنوبِ عنْ عمدٍ ويقينٍ لتوبةٍ تامَّةٍ،
التي
يمحُو بها ما سلفَ منْ سيِّئاتِهِ، وما تقدَّمَ منْ جناياتِهِ،
ولكنَّ
الرَّحمةَ والتَّوفيقَ للأوَّلِ أقربُ،
ولهذا
ختمَ اللهُ عزَّ وجلَّ، الآيةَ الأولَى، بقولِهِ:
{
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }:
فمِن
علمِهِ أنَّهُ يعلمُ صادقَ التَّوبةِ، وكاذبَها،
فيجازيَ
كلًا منْهُما، بحسبِ ما يستحقُّ بحكمتِهِ،
ومنْ
حكمتِهِ، أنْ يوفِّقَ منْ اقتضَتْ حكمتُهُ ورحمتُهُ وتوفيقَهُ إلى التَّوبةِ،
ويخذلَ
منْ اقتضَتْ حكمتُهُ وعدلُهُ عدمَ توفيقِهِ.
واللهُ
عزَّ وجلَّ أعلمُ.
يقولُ اللهُ تَعالَى:
( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ
أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (18 )
{
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ }:
أي:
المعاصِيَ، فيما دونَ الكفرِ.
{
حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا
الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا }:
وذلكَ
أنَّ التَّوبةَ في هذهِ الحالِ، توبةُ اضطرارٍ، لا تنفعُ صاحبَها،
إنَّما
تنفعُ توبةُ الاختيارِ،
فلابدَّ
منَ المبادرةِ إلى التَّوبةِ.
هُوَ
المَوتُ ما منْهُ ملاذٌ وَمهربُ متى حُطَّ
ذا عنْ نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
نُؤَمِّلُ
آمالاً وَنرجــو نِتاجَـــــها وَعلَّ
الرَّدى مِمّـا نُـرَجّيهِ أَقــرَبُ
أي:
لعلَّ الموتَ أقربُ منْ هذهِ الأمانِي التي كنَّا نتمنَّاها،
فلا
بدّ منْ توبةِ الاختيارِ، وليسَ توبة الاضطرارِ، التي لا تنفعُ صاحبَها.
ولهذا قالَ اللهُ تَعالَى:
{
أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }:
أي مُوجعاً شديداً مُقيماً.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ
أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (19 )
كانوا
في الجاهليَّةِ، إذا ماتَ أحدُهُم عنْ زوجتِهِ،
رأى
قريبُهُ كأخيهِ، وابنِ عمِّهِ، ونحوِهما،
أنَّهُ
أحقُّ بزوجتِهِ منْ كلِّ أحدٍ، وحمَاها عنْ غيرِهِ، أحبَّتْ ذلكَ، أو كرهَتْ.
فإنْ
أحبَّها، تزوَّجَها على صداقٍ يحبُّهُ دونَها،
وإنْ
لمْ يرضَها، عضلَها، فلا يزوِّجُها إلا منْ يختارُهُ هو،
وربَّما
امتنعَ منْ تزويجِها، حتى تبذلَ لهُ شيئًا منْ ميراثِ قريبِهِ، أو منْ صداقِها.
وكانَ
الرَّجلُ أيضًا يعضلُ زوجتَهُ التي يكرهُها، ليذهبَ ببعضِ ما آتَاها،
فنهَى
اللهُ المؤمِنِين عنْ جميعِ هذهِ الأحوالِ، إلا حالتَين:
- إذا رضيَتْ، واختارَتْ نكاحَ قريبِ زوجِها الأوَّلِ،
كما هو مفهومُ قولِهِ: { كَرْهًا }
- وإذا أتَيْنَ { بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ }:
كالزِّنا، والكلامِ الفاحشِ، وأذيَّتِها لزوجِها،
فإنَّهُ في هذه الحالِ، يجوزُ لهُ أنْ يعضلَها، عقوبةً
لها على فعلِها،
لتفتديَ منْه، إذا كانَ عضلاً بالعدلِ.
ثمَّ قالَ
تَعالَى:
{
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }:
وهذا
يشملُ المعاشرةَ القوليَّةَ والفعليَّةَ، فعلَى الزَّوجِ أنْ يعاشرَ زوجتَهُ:
{ بِالْمَعْرُوفِ
}:
منَ
الصُّحبةِ الجميلةِ، وكفِّ الأذَى، وبذلِ الإحسانِ، وحسنِ المعاملةِ،
ويدخلُ
في ذلكَ النَّفقةُ والكسوةُ، ونحوهما،
فيجبُ
على الزَّوجِ لزوجتِهِ المعروفُ، منْ مثلِهِ لمثلِها، في ذلكَ الزَّمانِ والمكانِ،
وهذا
يتفاوتُ بتفاوتِ الأحوالِ.
فيكرمُها
على حسبِ ما هو مُتَعارفٌ عليهِ، في البلدةِ، أو القريةِ، أو بينَ أهلِ المنْطقةِ.
{
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا }:
أي:
ينبغِي لكُم - أيُّها الأزواجُ- أنْ تُمسِكُوا زوجاتِكُم مع الكراهةِ لهُنَّ،
أي منَ
الأفضلِ أنْ يتركَ الزَّوجُ زوجتَهُ عنْدَهُ، مع كراهيَّتِهِ لهَا.
فإنَّ
في ذلكَ:
{ خيرًا
كثيرًا }:
اللهُ
أكبرُ!
- منْ ذلكَ امتثالُ أمرِ اللهِ، وقبولُ وصيَّتِهِ، التي
فيها سعادةُ الدُّنيا والآخرةِ،
وسيجدُ العوضَ في ذلكَ، إنْ صبرَ واحتسبَ.
- ومنْها أنَّ إجبارَهُ نفسَهُ -مع عدمِ محبَّتِهِ لها-
فيهِ مجاهَدَةٌ للنَّفسِ، وتخلُّقٌ بالأخلاقِ الجميلةِ.
- وربَّما تزولُ الكراهةُ، وتخلفُها المحبَّةُ
معَ الصَّبرِ،
سُبحانَ اللهُ!
اللهُ عزَّ وجلَّ يعوِّضُ، لكنَّ المطلوبَ منَّا هو الصَّبرُ
والتَّقوَى فقط، كما هو الواقعُ في ذلكَ.
- وربَّما رُزِقَ منْها ولداً صالحاً، يرفعُهُ
في الدُّنيا والآخرةِ، إذا صبرَ علَيها،
ويُجعَلُ هذا الولدُ قرَّةِ عينٍ لهُ، وللمسلمِين،
وينفعُ والدَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ.
وهذا كُّله
مع الإمكانِ في الإمساكِ، وعدمِ المحذورِ.
فإنْ
كانَ لا بدَّ منَ الفراقِ، وليسَ للإمساكِ محلٌ، فليسَ الإمساكُ بلازمٍ.
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا
أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد
وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق