الوجه
الثالث والعشرون من سورة النساء
يقول
الله تعالى :
( وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن
يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ
الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا )( 128)
طبعًا بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى الآية:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ۖ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ }
وتكلم في ضعاف النساء, واليتامى منهن, وكيف
يُعاملن.
يخبر الله سبحانه وتعالى عن طريقة العلاج إذا خافت المرأة نشوز
زوجها { وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
فما زال الحديث عن النساء,
أي: إذا خافت المرأة نشوز زوجها,
أي: ترفعه عنها وعدم رغبته فيها
وإعراضٍه عنها، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحًا, بأن تسمح المرأة عن
بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجهٍ تبقى مع زوجها، أي إذا كانت المرأة تريد
البقاء مع زوجها, وهي ترى في زوجها شيئًا من الصدودِ, فترضى ببعض الشيءِ, مقابل
بقائها معه, إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو
القسم , تختار أيَّ شيء منها, وتقلصه وتقلله, بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها
وليلتها لزوجها أو لضرتها.
فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناحَ ولا بأسَ عليهما فيها، لا
عليها ولا على الزوج حرج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خيرٌ
من الفرقة، أحسن من الفرقة, ولهذا قال:
{ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ}
ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حقٌ أو
منازعةٌ في جميع الأشياء, أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كلٍّ حقَّه، لما فيها
من الإصلاحِ وبقاءِ الألفةِ والاتصافِ بصفةِ السماحِ.
أي أن يتغاضى أحدهما ويتنازل بعض الشيء مقابل الإصلاح, أفضل من أن
كل واحد يأخذ حقَّه, ثم يكون في الأنفس شيءٌ مما فيها,
وإذا تنازل فلا شك أن له أجرٌ عظيم, ولن يخيب أيُّ عملٍ تقدمه
المرأة لزوجها, أو الأخ لأخيه, أو الأخت لأختها, لا يضيع عند الله سبحانه وتعالى,
و
ما تقدموا من خيرٍ
تجدوه عند اللهِ, أنتم تتعاملون مع ربٍّ رحيمٍ عزيزٍ غفورٍ كريمٍ, فضلُه واسعٌ ,
مالكُ السمواتِ والأرضِ, سبحانه جلّ وعلا, خالقهما ومدبرهما, فلا تخشي شيئًا,
وإذا كان بينك وبين أحدٍ شيءٌ ما, وأنت تعلم أنك إذا ذهبت إلى
المحكمة, وطلبت حقَّك, وهو طلب حقَّه, فأنت تعلم أنه إذا قسم بينكما الحاكم أو
العادل أو المصلح, ويكون في النفس ما فيها, فأنت تغاضي لله عز وجل, واطلبي الصلح
لله عز وجل, وستجد خيرًا عند اللهِ سبحانه وتعالى, خيرًا مما أُخذ منكِ.
أما هذه الزوجة, فنرى الآن سودة بنت زمعة, لما شكّت أنّ النبي صلى
الله عليه وسلم يريد طلاقها ويريد فراقها, لأنها كانت كبيرةً في السنّ , فهي كانت
أكبر من الرسول صلى الله عليه وسلم.
لما توفيت خديجة, تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم , وكانت كبيرةً
جدًا, وثقيلةَ اللحم, وبعدها بثلاث سنواتٍ تزوج عائشة,
طبعًا كانت عائشة بنت تسعِ أو عشرِ سنواتٍ, أي صغيرة جدًا, فكان
بينهما فرقٌ شاسعٌ جدًا ,
فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق سودة, فشكّت سودة في ذلك,
فوهبت ليلتها لعائشة, على أن تبقى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلُّ هذه الأحداث تحدث لتسهيل أمورِ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه
وسلم, الرسول صلى الله عليه وسلم عبدٌ لله سبحانه وتعالى, فكلُّ الأمور التي تحصل
له , حتى يراها الصحابةُ, ويعلمون, وتكون شريعةً للمسلمين.
عن ابن عباسٍ قال: خشيَت سودةُ أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فالله أعلم, هل
الرسول كان يريد طلاقها فعلًا, أم هي خشيت ذلك فقط؟!- ، فقالت : يا رسول الله ، لا
تطلقني, واجعل يومي لعائشة . ففعل، ونزلت هذه الآية
:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا}
الرسول
صلى الله عليه وسلم لم يُعاتَب على تصرفه, ومعنى ذلك أنه يحق للزوج أن يطلق من
يريد ويعيش مع من يريد, فهذا ليس بظلمٍ,
قال
ابن عباس : فلما اصطلحا عليه رضيت بذلك .
وفي الصحيحين, عن عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة, وهبت يومها
لعائشة, فكان النبي صلى
الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة .
هذا في صحيح البخاري.
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ
إِعْرَاضًا}
قال الرجل تكون عنده المرأة المسنة ,
ليس بمستكثرٍ منها, يريد أن يفارقها, فتقول: أجعلك من شأني في حلٍ,-يعني خليني
معك, واجعلني في حل, فأرضى أن لا تبيت معي-, فنزلت هذه الآية, وهي طبعًا تخفيف
للمسلمين.
{ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }
أي التخيير, تخيير الزوج لها بين الإقامة
والفراق خيرٌ وأفضل من أن يتمادى الزوج في أعمالٍ أخرى,
إذًا هذه الآية عظيمةٌ , وليست في الصلح بين الأزواج فقط,
بل في الصلح بين الناس أيضًا,
وهو جائز في جميع الأشياء إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا، فإنه
لا يكون صلحا وإنما يكون جورا.
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا
بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى
المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك-
قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه.
ثم قال: { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ}
أعطانا الله عز
وجل قاعدةً عظيمةً رائعةً, قال: لما تجلسون معهن أو تصبروا عليهن أفضل,
قال: { وَإِن تُحْسِنُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}
مطلع على كل شيءٍ.
أن
تحسن وتصبر على الشخص الذي لا تريد, فهذا كله مكتوبٌ عن الله عز وجل,
وسيعطيك الله عز وجل من العطايا, ما لا تتوقعه
الانفس, ونبه الله على أنه خير, والخير كل عاقل يطلبه
{
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ}
{ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ}
أي: جبلت النفوس
على الشح، وهو: عدم العطاء, وعدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق
الذي له، فالنفوس مجبولةٌ على ذلك طبعًا- أي هذا شيءٌ تحبه النفس وترغبه-
فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم،
وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي
لك.
ارضي بالقليل, اجعلي سقفك مع الناس قليلًا, لا ترفعي هذا السقف ثم
تتعبي مع الناس.
قال تعالى: { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ْ}
أي: تحسنوا في
عبادة الخالق بأن يعبد العبدُ ربَّه كأنه يراه, فإن لم يكن يراه فإنه يراه،
وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان، من نفعٍ بمالٍ، أو علمٍ، أو جاهٍ، أو
غير ذلك.
{ وَتَتَّقُوا ْ}
الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات, أو تحسنوا
بفعل المأمور، وتتقوا بترك المحظور.
{ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ}
قد أحاط به علمًا
وخبرًا، بظاهره وباطنه، فيحفظه لكم، ويجازيكم عليه أتمَّ الجزاء.
يقول
الله تعالى :
( وَلَن تَسْتَطِيعُوا
أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا )( 129)
يخبر تعالى: أن الأزواج لا يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام
بين النساء، وذلك لأن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء، والداعي على السواء،
والميل في القلب إليهن على السواء، ثم العمل بمقتضى ذلك.
وهذا متعذرٌ غير ممكنٍ، فلذلك عفا الله عما لا يستطيع الإنسان،
ونهى عما هو ممكن بقوله:
{ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
ْ} أي: لا تميلوا
ميلًا كثيرًا بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل.
فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها من الأشياء الحسية التي تستطيعون العدل فيها, عليكم
أن تعدلوا بينهن فيها،
لكن القلب صعب, فإن الزوجة إذا ترك زوجُها ما يجبُ لها، صارت
كالمعلقة التي لا زوج لها فلا هي تستريح وتستعد للتزوج، ولا ذات زوج يقوم
بحقوقها.
{ وَإِنْ تُصْلِحُوا ْ}
ما بينكم وبين زوجاتكم، بإجبار أنفسكم على
فعل ما لا تهواه النفس، احتسابًا وقيامًا بحق الزوجة، وتصلحوا أيضا فيما بينكم
وبين الناس، وتصلحوا أيضًا بين الناس فيما تنازعوا فيه،
وهذا يستلزم الحثَّ على كل طريق يوصل إلى الصلحِ.
{ وَتَتَّقُوا ْ}
الله بفعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور.
{ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ْ}
يغفر الزلل-
سبحانه - يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم
على أزواجكم ورحمتموهن.
يقول
الله تعالى :
(وَإِن يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا )( 130)
هذه الحالة الثالثة بين الزوجين، إذا تعذر الاتفاقٌ فإنه لا بأسَ
بالفراقِ،
هذه قاعدة مع الجميع , هذه قاعدة, لا أحد يضيع , فالجميع
تحت ملكه وتدبيره ورزقه وخلقه سبحانه جل وعلا, ونحن من خلق الله,
فقال: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا ْ}
أي: بطلاقٍ أو فسخ أو خلع أو غير
ذلك
{ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا ْ}
من الزوجين
{ مِنْ سَعَتِهِ ْ}
أي: من فضله وإحسانه الواسع الشامل.
فيغني الزوجَ بزوجةٍ خير له منها، ويغنيها من فضله, وإن انقطع
نصيبها من زوجها، فإن رزقَها على المتكفلِ بأرزاقِ جميع الخلق، الرزق على الله,
الرازق هو الله المدبر- سبحانه جل وعلا, القائم بمصالحهم، ولعل الله يرزقها زوجًا
خيرًا منه، فلا تألم النفس, ولا تيأس, الرازق هو الله, هذه قاعدة يا اخوة
لكن متى تكون بالفعل؟ عندما تتعلّق بالله حق التعلّق, وتعلم أن
الفراقَ أحيانًا أفضلُ لك, وخيرٌ لك في الدنيا والآخرةِ,
بعض الناس يظنون أن المرأةَ إذا تطلّقت فقد انقطعت عن الحياةِ,
فتصبر المرأةُ على الزوج الذي أراها الشيءَ العظيمَ, والآلامَ العظيمةَ, وكل هذا
حتى لا يُقال عنها مطلقةً,
أو حتى ترى أن رزقَها كلَّه من زوجِها, وأنَّ الحياةَ
غيرُ ممكنةٍ إلا بهذا الزوجِ,
يقول تعالى {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا
مِّن سَعَتِهِ }
مِنْ سعةِ مَنْ ؟
من سعةِ
اللهِ سبحانه وتعالى, فإن اللهَ متكفلٌ بأرزاقِ الناسِ.
انظر إلى ختام الآية :
{ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا ْ}
أي: كثيرُ الفضلِ واسعُ الرحمةِ، وصلت
رحمتُه وإحسانُه إلى حيث وصل إليه علمُه.
{ حَكِيمًا ْ}
أي: يعطي بحكمةٍ، ويمنع لحكمةٍ.
فإذا اقتضت حكمتُه منعَ بعضَ عبادِه من
إحسانه، بسببٍ من العبد لا يستحق معه الإحسانَ، حرمه عدلًا وحكمةً.
يقول
الله تعالى :
(وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ
غَنِيًّا حَمِيدًا )( 131)
{وَللَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ }
يخبر تعالى عن عمومِ
ملكِه العظيمِ الواسعِ المستلزمِ تدبيرَه بجميعِ أنواعِ التدبيرِ، وتصرُّفِه
بأنواعِ التصريفِ قدرًا وشرعًا، فتصرُّفه الشرعيُّ أن وصَّى الأولين والآخرين أهلَ
الكتبِ السابقةِ واللاحقةِ بالتقوى المتضمنةِ للأمرِ والنهي، وتشريعِ الأحكامِ.
{ وَإِنْ تَكْفُرُوا ْ}
بأن تتركوا تقوى الله، وتشركوا بالله ما
لم ينزل به عليكم سلطانًا، فإنكم لا تضرّون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرّون الله شيئا
ولا تنقصون ملكه، وله عبيدٌ خيرٌ منكم وأعظمُ وأكثرُ، مطيعون له, خاضعون لأمره.
{ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ْ}
الله غير محتاجٍ
لعبادتنا , غير محتاجٍ لطاعتنا, له الجودُ الكاملُ والإحسانُ الشاملُ الصادرُ من
خزائنِ رحمتِه التي لا ينقصُها الإنفاقُ ولا يغيضُها نفقةٌ، سحاءٌ الليلِ والنهار،
لو اجتمعَ أهلُ السماواتِ وأهلُ الأرضِ أوّلُهم وآخرُهم، فسأل كلُّ واحدٍ منهم ما بلغت أمانيه,
ما نقصَ من ملكِه شيئًا، ذلك بأنه جوادٌ واجدٌ ماجدٌ، عطاؤُه كلامٌ وعذابُه كلامٌ،
إنما أمرٌه لشيءٍ إذا أراد أن يقولَ له كن فيكون.
ومن تمامِ غناه أنه كاملُ الأوصافِ، إذ لو كان فيه نقصٌ بوجهٍ من
الوجوهِ، لكان فيه نوعُ افتقارٍ إلى ذلك الكمالِ، بل له كلُّ صفةِ كمالٍ، سبحانه
وتعالى-
{وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ْ}
فالله غنيٌّ
محمودٌ, فله كمالٌ من الغنى, وكمالٌ من الحمدِ, وكمالٌ من اقترانِ أحدِهما بالآخرِ
يقول
الله تعالى :
( وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا )( 132)
ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه على كل شيء
وكيل، أي: عالمٌ قائم بتدبيرِ الأشياءِ على وجهِ الحكمةِ،
يقول
الله تعالى :
(إِن يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ
قَدِيرًا )( 133)
أي: هو الغني الحميدُ الذي له القدرةُ الكاملةُ والمشيئةُ النافذةُ
فيكم
{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ
ْ}
غيرُكم هم أطوعُ
لله منكم وخيرٌ منكم، وفي هذا تهديدٌ للناس ووعيدٌ - رحمتك يا الله- على إقامتِهم
على كفرِهم وإعراضِهم عن ربِّهم، فإن اللهَ لا يعبأُ بهم شيئًا إن لم يطيعوه،
ولكنه يمهلُ ويملي ولا يهملُ- سبحانه جلّ وعلا.
يا اخوة قد يستدرجُ اللهُ بالنعمِ, لكنه إذا أخذَ انتقمَ,- يالله
رحمتك يا حيّ يا قيّوم- .
يقول
الله تعالى :
(مَّن كَانَ يُرِيدُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَكَانَ
اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )( 132)
ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزةٍ ثواب الدنيا،
وليس له إرادةٌ في الآخرة فإنه قد قصر سعيُه ونظرُه، ومع ذلك فلا يحصلُ له من ثوابِ
الدنيا سوى ما كتبَ اللهُ له منها، فإنه تعالى هو المالكُ لكل شيءٍ.
لن تموت نفسٌ حتى تستكملَ رزقَها, لا أحدَ يأخذ غيرَ رزقِه الذي
كتبَه اللهُ له , فلا تتعب نفسك, وابذل في حدودِ الشرعِ,
ولا بدّ من الافتقارِ على الدوامِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى, وله
الحكمةُ تعالى في توفيقِ من يوفقه، وخذلانِ من يخذله وفي عطائِه ومنعِه،
ولهذا
قال: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ْ}
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله
إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعاً
مرحوماً, واجعل تفرقنا من بعده تفرّقا معصوماً, ولا تجعل معنا شقياً ولا محروماً.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا
محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعينِ.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق