بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
الخامسُ من سورة النِّساء
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) ( 20 )
إذا
كانَ لا بدَّ منَ الفراقِ، وليسَ للإمساكِ محلٌ، فليسَ الإمساكُ بلازمٍ.
لذلك
يقولُ الله تَعالَى:
{
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ }:
إذا
كانَ لا يوجدُ حلٌّ إلا الاستبدالُ، فالأمرُ فيه يسْرٌ-
وللهِ
الحمدُ!
وهذا
يعني: تطليقُ زوجةٍ، وتزوُّجُ أخرَى، فلا جناحَ عليكُم في ذلكَ، ولا حرجَ.
ولكنْ
إذا:
{
آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ }:
أي:
المفارَقَةَ، أو التي تزوَّجَها،
{
قِنْطَارًا }:
أي: مهرًا
مالًا كثيرًا.
{
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا }:
بل وفِّرُوهُ
لهُنَّ،
وفي
هذهِ الآيةِ، دلالةٌ على عدمِ تحريمِ كثرةِ المهرِ،
مع أنَّ
الأفضلَ، واللائقَ، الاقتداءُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، في تخفيفِ
المهرِ،
فكانَ
أكثرُ صداقٍ، لبناتِهِ أو زوجاتهِ، اثنَتَي عشرَ أوقيةٍ.
وبعضُ
الرِّجالِ - أيَّها الإخوةُ- يزيدُ في المهرِ،
حتى أنَّ
الرَّجلَ يكرَهُ زوجتَهُ فيما بعدُ، فيرَى أنَّهُ قدَّمَ شيئًا مُستحيلًا لها.
ولا شكَّ
أنَّ الصَّبرَ أفضلُ.
يقولُ
الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
"
لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْهَا
آخَرَ"
حتى أنَّ
عمَرًا قامَ مرَّةً على المنبرِ، وقالَ للنَّاسِ: لا تكثِرُوا الصَّداقَ، ونهاهُم
عنْ ذلكَ، قائلًا:
ألا لا
تغلُوا في صَداقِ النِّساءِ، فإنَّها لو كانَتْ مَكرَمةً في الدُّنيا، أو تقوىً
عندَ اللهِ، كانَ أولَاكُم بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فقامَ
رجلٌ، فقالَ: ألمْ تسمعْ إلى قولْهْ تَعالَى:
{
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا }:
فقالَ:
اللهُمَّ اغفرْ لعمرٍ، كلُّ النَّاسِ أفقهُ منْ عمرٍ.
ثمَّ
رجعَ، فاسترجعَ كلامَهُ.
لذلكَ
يقولُ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى:
{
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }:
فإنَّ
هذا لا يحلُّ، ولو تحيَّلْتُم عليهِ بأنواعِ الحيلِ، فإنَّ إثمَهُ واضحٌ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ
أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( 21
)
{ وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }:
أفضَى
بالعقدِ،
وبيانُ
ذلكَ: أنَّ الزَّوجةَ قبلَ عقدِ النِّكاحِ، محرَّمَةٌ على الزَّوجِ، ولمْ ترضَ بحلِّها
لهُ، إلّا بذلكَ المهرَ، الذي يدفعُهُ لها،
فإذا
دخلَ بها، وأفضَى إليها بالعقدِ،
وباشرَها
المباشرةَ التي كانَتْ حرامًا قبلَ ذلكَ، والتي لم ترضَ ببذلِها إلَا بذلكَ العوضِ،
فإنَّهُ
قدْ استوفَى المعوَّضُ، فثبتَ عليهِ العوَضُ.
فكيف
يستَوفي المعوَّضُ، ثمَّ بعدَ ذلكَ يرجعُ على العوَضِ؟!
هذا من
أعظمِ الظُّلمِ والجُورِ!
ونحنُ
نعلمُ أنَّ الدِّينَ ينهَى عنِ الظُّلمِ والجُورِ.
{
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا }:
وكذلكَ
أخذَ اللهِ على الأزواجِ، ميثاقًا غليظًا، بالعقدِ، والقيامِ بحقوقِها.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ) ( 22 )
{
وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ }:
أي: لا
تتزوَّجُوا منَ النِّساءِ، ما تزوجَهُنَّ آباؤُكُم.
أي:
الأبُ، وإنْ علَا.
{
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً }:
أي:
أمرًا قبيحًا، يفحشُ، ويعظُمُ قبحُهُ.
{
وَمَقْتًا }:
منَ
اللهِ لكُم، ومنَ الخلْقِ، بلْ يمقُتُ بسببِ ذلكَ، الابنُ أباهُ، والأبُ ابنَهُ،
مع الأمرِ ببرِّهِ.
ودينُنا
يأمرُنا بالبرِّ والصِّلةِ، بينَما هذا الفعلُ فيهِ قطيعةُ أرحامٍ.
{
وَسَاءَ سَبِيلًا }:
أي:
بئسَ الطَّريقُ طريقًا لمَنْ سلكَهُ.
لأنَّ
هذا منْ عوائدِ الجاهليَّةِ، التي جاءَ الإسلامُ بالتنزُّهِ عنْها.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ
الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ
الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم
مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم
بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( 23 )
هذهِ الآياتُ الكريماتُ مشتمِلاتٌ على المحرَّماتِ بالنَّسبِ،
و المُحرَّماتِ بالرَّضاعِ، و المُحرَّماتِ بالصِّهرِ، و المحرَّماتِ بالجمعِ،
وعلى المُحلَّلاتِ منَ النِّساءِ.
{ حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ }:
أوَّلًا: فأمَّا المحرَّماتُ في النَّسبِ، فهنَّ السَّبعُ
اللاتي ذكرَهُنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ:
الأمُّ يدخلُ فيها كلُّ منْ لها عليك ولادةٌ، وإنْ بَعُدَتْ،
ويدخلُ في البنتِ كلُّ منْ لك عليها ولادةٌ،
والأخواتُ الشَّقيقاتُ، أو الأخواتُ لأبٍ، أو الأخواتُ
لأمٍّ.
والعمَّةُ: كلُّ أختٍ لأبِيك، أو لجدِّك، وإنْ علَا.
والخالةُ: كلُّ أختٍ لأمِّك، أو جدَّتِك، وإنْ علَتْ.
وبناتُ الأخِ، وبناتُ الأخْتِ، أي: وإنْ نزلَتْ.
فهؤلاءِ هُنَّ المُحرَّماتُ منَ النَّسبِ، بإجماعِ
العلماءِ، كما هوَ نصُّ الآيةِ الكريمةِ.
وما عداهُنَّ، فيدخلُ في قولِهِ:
{ وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ }:
وذلكَ كبنتِ العمَّةِ، وبنتِ العمِّ، وبنتِ الخالِ، وبنتِ
الخالةِ.
{ وَأُمَّهَاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ }:
ثانيًا: وأمَّا المُحرَّماتُ بالرَّضاعِ، فقدْ ذكرَ
اللهُ منْهُنَّ الأمَّ والأخْتَ:
وفي ذلكَ تحريمُ الأمِّ، معْ أنَّ اللَّبنَ ليسَ لها،
إنَّما هوَ لصاحبِ اللَّبنِ،
دلَّ بتنبيهِهِ، على أنَّ صاحبَ اللَّبن يكونُ أبًا للمُرتضِعِ.
فإذا ثبتَتِ الأبوَّةُ والأمومةُ، ثبتَ ما هو فرعٌ عنْهُما،
كإخوتِهِما، وأصولِهِم، وفروعِهِم.
وقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
" يُحَرَّمُ
منَ الرَّضاعِ، ما يُحَرَّمُ منَ النَّسَبِ"
فينتشرُ التَّحريمُ منْ جهةِ المُرضعةِ، ومنْ لهُ اللَّبنُ،
كما ينتشرُ في الأقاربِ، وفي الطِّفلِ المُرتضِعِ، إلى
ذرِّيَّتِهِ فقطْ.
لكنْ بشرطِ أنْ يكونَ الرَّضاعُ خمسَ رضعاتٍ في الحَولَينِ،
كما بيَّنَتِ السُّنَّةُ في ذلكَ.
{ وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ }:
ثالثًا: وأمَّا المُحرَّماتُ بالصّهرِ، فهُنَّ أربعٌ:
حلائلُ الآباءِ، وإنْ علَوا،
وحلائلُ الأبناءِ، وإنْ نزلُوا، وارِثِين، أو محجُوبِينَ.
وأمَّهاتُ الزَّوجةِ، وإنْ علَوْنَ.
فهؤلاءِ الثَّلاثُ، يُحرَّمْنَ بمجرَّدِ العقدِ.
والرَّابعةُ: الرَّبيبةُ، وهيَ بنتُ زوجتِهِ، وإنْ نزلَتْ،
فهذِهِ لا تُحرَّمُ، حتى يدخلَ بزوجتِهِ.
كما قال اللهُ تَعالَى:
{ وَرَبَائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }:
وقد قالَ الجمهورُ: إنَّ قولَهُ:
{ اللَّاتِي
فِي حُجُورِكُمْ }:
قيدٌ خرجَ مخرَجَ الغالبِ، لا مفهومَ لهُ، فإنَّ الرَّبيبةَ
تُحرَّمُ، ولو لمْ تكُنْ في حجرِهِ، فهي بمنزلةِ البنتِ.
ولكنْ للتَّقييدِ بذلكَ، فائدتَانِ:
إحداهُما: فيهِ التَّنبيهُ على الحكمةِ في تحريمِ الرَّبيبةِ،
وأنَّها كانَتْ بمنزلةِ البنتِ،
والثَّانيةُ: فيهِ دلالةٌ على جوازِ الخلوةِ بالرَّبيبةِ،
وأنَّها بمنزلةِ مَنْ هيَ في حجرِهِ، منْ بناتِهِ ونحوِهِنَّ.
واللهُ أعلمُ!
رابعًا: وأمَّا المُحرَّماتُ بالجمعِ، فقدْ ذكرَ اللهُ
الجمعَ بينَ الأختَينِ، وحرَّمَهُ.
وحرَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، الجمعَ
بينَ المرأةِ وعمَّتِها أو خالتِها.
فكلُّ امرأتَين بينَهما رَحمٌ محرَّمٌ، لو قُدِّرَ
إحداهُما ذكَرًا، والأخرَى أنثَى، حُرِّمَتْ عليهِ،
فإنَّهُ يحرمُ الجمعُ بينَهُما، وذلكَ لما في ذلكَ من
أسبابِ التَّقاطعِ بينَ الأرحامِ.
وهذا يعطِينا دلالةً واضحةً عظيمةً،
على الاهتمامِ بصلةِ الأرحامِ.
حيثُ أرسَى اللهُ قواعدَ،
وأنزلَ أحكامًا، ووضعَ شرائعَ، للحفاظِ على صلةِ الأرحامِ.
فلنحرِصْ على صلةِ الأرحامِ،
لأنَّ فيها خيرًا عظيمًا.
بعضُ النَّاسِ، يتقاطعُون
لفترةٍ، والعياذُ باللهِ- فقدْ يقاطعُ أحدُهُم ابنَ عمِّهِ، أو عمَّتِهِ، أو عمَّهُ
أو عمَّتَهُ،
وهذا أمرٌ عظيمٌ جدًا، وليسَ
ذلكَ بالأمرِ السَّهلِ أبدًا!
بلْ هوَ منَ الفسادِ في
الأرضِ، حتى لو صدرَ منْهُ ما صدرَ، أو فعلَ بك ما فعلَ.
لا بدَّ أنْ نتعاملَ معَ
النَّاسِ، للهِ عزَّ وجلَّ، ونحتسبَ ما يصيبُنا منْهُم منَ الألمِ والحزنِ والهمِّ
والغمِّ.
نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ، أنْ
لا يجعلَ معنا شقيًّا ولا محرومًا!
ومَنْ قطعَ رحمَهُ فهوَ
محرومٌ.
نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ
العافيةَ!
سبحانَكَ
اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ
اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا
معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى
اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق