الوجه الثامن والعشرون من سورة النساء
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ( 163 ) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 ) رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165 )
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ( 163 ) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 ) رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165 )
لما ختم الله عزوجل الوجه السابق في صفات المؤمنون الراسخون في العلم الذين آمنوا، الذين من أهل الكتاب ، آمنوا بالأنبياء السابقين وآمنوا بك ، وكذلك من أمتك يامحمد صلى الله عليه وسلم
ثم قال :
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)
يخبر الله تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم السلام وفي هذه عدة فوائد:
أولاً : أن محمدا صلّ الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا بالجهل أوالعناد.
ثانياً : أنه أوحي إليك كما أوحي إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا، جميع الأنبياء والرسل.
ثالثاً : أنه من جنس هؤلاء الرسل، محمد صلى الله عليه وسلم من جنس هؤلاء الرسل ، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته دعوتهم؛ وأخلاقهم جميعاً متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة، فلم يقرنه بالمجهولين؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين.
رابعاً : أنه في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا بسنتهم والمعرفة بحقوقهم،
ويكون ذلك مصدقا لقوله تعالى:
(سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ)،
(سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)،
(سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) ،
(سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ)
(إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) .
فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه والرسل ،خصوصا هؤلاء المسمون في المرتبة العليا من الإحسان.
ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم ، فذكر أنه آتى داود الزبور وهو الكتاب المعروف الذي خص الله به عز وجل داود عليه السلام
فقال تعالى :
( وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 )
عدد الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأنبياء ، ولا شك أن تعدادهم هذا يدل على فضلهم ، وعلو مكانتهم ، وشرفه ،
ورسلاً قد قصصناهم عليك يامحمد من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك ، إذن يوجد رسل لم يُذكرون ،
ثم ختم الله الآية الأولى بقوله تعالى:
(وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ،
لما ذكر اشتراكهم ، ذكر أنه أتى داوود الزبور ، وهو الكتاب المعروف ، والزبور الذي خص الله به داوود عليه السلام ، لفضله وشرفه ،
( وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ )
وذكر أن الرسل منهم من قصَّه الله تعالى على رسوله ، ومنهم من لم يقصصه عليه وهذا يدل على كثرتهم.
( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)
وأنه كلم موسى تكليما أي مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال : « موسى كليم الرحمن » .
(رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )
وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم بالسعادة الدنيوية والأخروية ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ،
وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم بالسعادة الدنيوية والأخروية ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ،
فيقولوا : {مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} .
فلم يبق للخَلْق على الله عز وجل حجة لإرسال الرسل تترى ، يبينون لهم أمر دينهم ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار .
وهذا من كمال عزته وحكمته أنه أرسل الرسل جل وعلا وهذا من فضله وإحسانه حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدَّر ،
لو لم يكن هناك أنبياء من الذي سيعلمنا الشرائع ؟! من الذي سيعلمنا الدين ؟! من الذي سيعلمنا الله سبحانه وتعالى ؟!
كيف سنكون لو لم يكن هناك أنبياء ؟! ماذا ستكون حياتنا لو لم يكن هناك أنبياء ؟! أي عالم سنعيش لو لم يكن هناك أنبياء ؟! أي تخبط سنتخبط لو لم يكن هناك أنبياء ؟! أي حياة ؟!
فهي نعمة عظيمة فله الحمد جل وعلا وله الشكر ، بل من أعظم النعم إرسال الرسل ، وإنزال الكتب.
( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 166 )
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين، أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به،
( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 166 )
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين، أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به،
وأنه : ( أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ )
يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملا على علمه،
أي: فيه من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به عباده.
ويحتمل أن يكون : أنزله صادرا عن علمه، ويكون في ذلك إشارة على وجه شهادته، وأن المعنى: إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي، وهو يعلم بذلك ويعلم حالة الذي أنزل عليه، وأنه دعا الناس إليه،
فمن أجابه وصدقه كان وليه، ومن كذبه وعاداه كان عدوه واستباح ماله ودمه، والله تعالى يمكنه ويوالي وينصر المؤمنين ويجيب دعوته، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه،
فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟
ولا يمكن القدح في هذه الشهادة إلا بعد القدح بعلم الله وقدرته،
الذي يقدح بالشهادة يقدح _أعوذ بالله_ بعلم الله عز وجل وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله، لكمال إيمانهم ولجلالة هذا المشهود عليه.
فإن الأمور العظيمة لا يستشهد عليها إلا الخواص فقط ، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد:
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ)
لأن الشهادة على التوحيد على أمر عظيم وجليل ،لذلك يقول الله عز وجل : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ)
والملائكة وأولو العلم نعم لأن الشهادة تحتاج إلى مسألة عظيمة ، الشهادة على أمر عظيم ، لذلك لم يختص الله عز وجل في هذه الآية إلا الخواص.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا) ( 167) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 169 )
لما أخبر عن رسالة الرسل صلوات الله عليهم وسلامه عليهم ، أخبر برسالة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وشهد بها وشهدت ملائكته - لزم من ذلك ثبوت الأمر المقرر والمشهود به، فوجب تصديقهم، والإيمان بهم واتباعهم.
ثم توعد من كفر بهم فقال:
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ )
: جمعوا بين الكفر بأنفسهم وكذلك صدِّ الناس عن سبيل الله. وهؤلاء هم أئمة الكفر ودعاة الضلال ،
ما مصيرهم يارب ؟
( قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا )
وأي ضلال أعظم من ضلال من ضل بنفسه وأضل غيره، فباء بالإثمين ورجع بالخسارتين وفاتته الهدايتان،
لهذا قال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا )
وهذا الظلم هو زيادة على كفرهم، وإلا فالكفر عند إطلاق الظلم يدخل فيه، والمراد بالظلم هنا أعمال الكفر والاستغراق فيه،
( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا )
إنما تعذرت المغفرة لهم والهداية لأنهم استمروا في طغيانهم وازدادوا في كفرانهم فطبع الله عز وجل على قلوبهم وانسدت عليهم طرق الهداية بما كسبوا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ .
( وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )
: لا يبالي الله بهم ولا يعبأ لأنهم لا يصلحون للخير ولا يليق بهم إلا الحالة التي اختاروها لأنفسهم .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 170 ) . .
يأمر الله تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ،
وذكر السبب الموجب للإيمان به، والفائدة من الإيمان به، والمضرة من عدم الإيمان به،
فالسبب الموجب هو إخباره بأنه جاءهم بالحق ، فمجيئه نفسه حق، وما جاء به من الشرع حق، فإن العاقل يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون، وفي كفرهم يترددون، والرسالة قد انقطعت عنهم غير لائق بحكمة الله تعالى ورحمته،
فمن حكمته ورحمته العظيمة نفس إرسال الرسول إليهم، ليعلمهم الهدى من الضلال، سبحانه هذا من رحمته جل وعلا ، والغي من الرشد،
فمجرد النظر في رسالته دليل قاطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك النظر إلى ما جاء به من الشرع العظيم والصراط المستقيم.
فإن فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، والخبر عن الله تعالى وعن اليوم الآخر ما لا يعرف إلا بالوحي والرسالة.
من الذي سيعلمنا إذا لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم صادق ؟ الأخبار التي يأتي بها محمد صلى الله عليه وسلم من أين أتى بها ؟
وما فيه من الأمر بكل خير وصلاح، ورشد وعدل وإحسان، وصدق وبر وصلة وحسن خلق، كلها يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن النهي عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق، والكذب والعقوق، مما يقطع به أنه من عند الله، وكلما ازداد به العبد بصيرة، ازداد إيماناً ويقينا، فهذا السبب الداعي للإيمان.
وأما الفائدة في الإيمان فأخبر أنه خير لكم والخير ضد الشر، فالإيمان خير للمؤمنين في أبدانهم وقلوبهم وأرواحهم ودنياهم وأخراهم، وذلك لما يترتب عليه من المصالح والفوائد،
فكل ثواب عاجل وآجل فمن ثمرات الإيمان، فالنصر والهدى والعلم والعمل الصالح والسرور والأفراح، والجنة وما اشتملت عليه من النعيم كل ذلك مسبب عن الإيمان
كما أن الشقاء الدنيوي والأخروي من عدم الإيمان أو نقصه،
وأما مضرة عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم فيعرف بضد ما يترتب على الإيمان به، وأن العبد لا يضر إلا نفسه، إذا لم يؤمن بالله عز وجل لا يضر إلا نفسه ، والله تعالى غني عنا لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة،
( فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ )
: الجميع خلقه وملكه، وتحت تدبيره وتصريفه
( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)
بكل شيء في خلقه ، فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية، الحكيم في وضع الهداية والغواية موضعهما .
نسأل الله عز وجل أن يفتح علينا ويهدينا ياذا الجلال والإكرام ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا ماأسررنا وما قدمنا ، نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من عباده الصالحين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق