بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
الرَّابعُ من سورة الأنعام
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا
يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ ) ( 28)
كانَتِ الآيةُ السَّابقةُ تتحدَّثُ عنهُم:
{ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا }:
متى كان موقفُهم هذا؟
يوم البعثِ والجزاءِ.
قالوا مُنكِرين للبعثِ:
{ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ }
{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ
}:
هذهِ الحقيقةُ كانَتْ لديهِم أساسًا.
لذلك قالَ الله عزَّ وجلَّ:
{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ
}:
فإنَّهم كانوا يخفُون في أنفسِهِم، أنَّهُم كانوا كاذِبين،
ويَبدو في قلوبِهِم في كثيرٍ من الأوقاتِ.
ولكنَّ الأغراضَ الفاسدةَ، صدَّتْهُم عنْ ذلك، وصرفَتْ
قلوبَهُم عن الخيرِ،
وهم كَذَبةٌ في هذه الأمنيةِ،
وإنَّما قصدُهُم، أنْ يدفعُوا بها عنْ أنفسِهِم العذابَ.
ثمَّ قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ:
{ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ }
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) ( 29)
{
وَقَالُوا }:
مُنكِرين
للبعثِ
{ إِنْ
هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا }:
أي: ما
حقيقةُ الحالِ والأمرِ،
وما
المقصودُ من إيجادِنا، إلا الحياةُ الدُّنيا وحدها.
فهم لا
يرَون الحياةَ إلا الحياةُ الدُّنيا،
وليسَ
هناك يومُ البعثِ والجزاءِ.
{
وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }:
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا
عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا
ۚ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ) ( 30)
{
وَلَوْ تَرَى }:
الكافِرين
يومَ القيامةِ.
وهذا
كلُّهُ وصفٌ لحالِ الكافِرين والمنافِقِين يومَ القيامةِ.
{ إِذْ
وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ }:
لرأيْتَ
أمرًا عظيمًا، وهَوْلًا جسيمًا،
{
قَالَ }:
اللهُ
عزَّ وجلَّ لهم موبخًا ومقرِّعًا:
{
أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ }:
الذي
ترَونَ منَ العذابِ والأهوالِ يومَ القيامةِ، بالحقِّ؟
{
قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا }:
فأقرُّوا،
واعترفُوا حيثُ لا ينفعُهُم ذلكَ،
{
قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }:
هذا
جزاؤُكُم، والسَّببُ بما كنْتُم تكفُرون.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقَاءِ اللَّهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا
حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ
عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) ( 31)
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ }:
أي: قد
خابَ وخسرَ، وحُرِمَ الخيرَ كلَّهُ، منْ كذَّبَ بلقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ،
فأوجبَ
لهُ هذا التَّكذيبُ، الاجتراءَ على المُحَرَّماتِ، واقترافَ الموبقاتِ،
وهذا
منْ أكبرِ الأسبابِ المُهلكاتِ:
الوقوعُ
في المُحَرَّماتِ، والاستهتارُ والاستهزاءُ بها.
{
حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ }:
وهم
على أقبحِ حالٍ وأسوئِهِ، فأظهرُوا غايةَ النَّدمِ.
لكنْ
لا فائدةَ!
و {
قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا }:
ولكنَّ
هذا تحسُّرٌ، ذهبَ وقتُهُ،
{
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }:
فإنَّ
وزرَهُم وزرٌ يثقلُهُم، ولا يقدرُون على التَّخلُّصِ منْهُ،
ولهذا
خلدُوا في النَّار، واستحقُّوا التّأبيدَ في غضبِ الجبَّارِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) ( 32)
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ }:
اللهُ سُبحانَهُ
وتَعالَى يخبرُنا عنْ حقيقةِ الحياةِ الدُّنيا،
فاعرفُوها
أيَّها المُؤمِنون،
ولا
تكونُوا كأولئك الكفَّارِ.
لا تُعظِّمُوا
الحياةَ الدُّنيا، ولا تجعلُوها كلَّ حياتِكُم،
لا
تكونُوا في غفلةٍ عن هذا اليومِ العظيمِ،
يومِ
البعثِ والجزاءِ والحسابِ، يومِ القيامةِ!
{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ
ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }:
أفلا تُدرِكون؟
هذهِ
حقيقةُ الدُّنيا وحقيقةُ الآخرةِ،
أمَّا
حقيقةُ الدُّنيا فإنَّها لعبٌ ولهوٌ،
لعبٌ
في الأبدانِ، ولهوٌ في القلوبِ،
فالقلوبُ
لها والهةٌ، والنُّفوسُ لها عاشقةٌ،
والهمومُ
فيها متعلِّقةٌ، والاشتغالُ بها كلُعبِ الصِّبيانِ.
وأمَّا
الآخرةُ، فإنَّها:
{
خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ }:
في ذاتِها
وصفاتِها، وبقائِها ودوامِها،
وفيها
ما تشتهيهِ الأنفُسُ، وتلذُّ الأعينُ،
من
نعيمِ القلوبِ والأرواحِ، وكثرةِ السُّرورِ والأفراحِ،
ولكنَّها
ليسَتْ لكلِّ أحدٍ،
وإنَّما
هي للمتَّقِين الذين يفعلُون أوامرَ اللهِ، ويتركُون نواهيَهُ وزواجرَهُ.
{
أَفَلَا تَعْقِلُونَ }:
أي:
أفلا يكونُ لكُم عقولٌ، بها تدركُون، أيَّ الدَّارَين أحقٌّ بالإيثارِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) ( 33)
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي
يَقُولُونَ }:
أي: قد
نعلمُ أنَّ الذي يقولُ المكذِّبُون فيكَ، يحزنُكَ ويسوءُكَ يا مُحَمَّدُ،
ولم
نأمرْكَ بما أمرْناكَ بهِ منَ الصَّبرِ،
إلا
لتحصلَ لكَ المنازلُ العاليةُ، والأحوالُ الغاليةُ.
فلا
تظنَّ أنَّ قولَهُم صادرٌ عنْ اشتباهٍ في أمرِكَ، وشكٍّ فيكَ
- لا
واللهِ!
{
فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ }:
لأنَّهُم
يعرفون صدقَكَ، ومدخلَكَ ومخرجَكَ، وجميعَ أحوالِكَ.
حتى إنَّهُم
كانُوا يسمُّونَهُ -قبلَ البعثةِ- الصَّادقُ الأمينُ.
{
وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }:
أي: فإنَّ
تكذيبَهُم لآياتِ اللهِ التي جعلَها اللهُ على يديكَ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن
قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا
ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ
الْمُرْسَلِينَ ) ( 34)
{
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا }:
فاصبرْ
كما صبرُوا، حتى تظفرَ كما ظفرُوا.
{ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ }:
{
وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ }:
ما بهِ
يثبِّتُ فؤادَكَ، ويطمئنُ بهِ قلبَكَ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ
سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ( 35)
{
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ }:
أي: شقَّ
عليكَ يا مُحَمَّدُ، منْ حرصِكَ عليهِم، ومحبَّتِكَ لإيمانِهِم،
فابذلْ
وسعَكَ في ذلك، فليسَ في مقدورِكَ، أنْ تهديَ من لم يردِ اللهُ هدايتَهُ.
{
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي
السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ }:
أي:
فافعلْ ذلكَ، فإنَّهُ لا يفيدُهُم شيئًا،
وهذا
قطعٌ لطمعِهِ في هدايتِهِ أشباهَ هؤلاءِ المعانِدين.
حتى
يقطعَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ما ترغَبُ نفسُهُ منْ هدايةِ هؤلاءِ
المعانِدِين
كفَى
يا مُحَمَّدُ، اقطعِ الأملَ فيهِم.
{
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى }:
اللهُ عزَّ
وجلَّ يستطيعُ أنْ يجمعَنا على كلمةٍ واحدةٍ، يجمعَنا على الهُدَى,
فهو لا
يعجزُهُ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ،
إنَّما
نحنُ خلقٌ من خلقِهِ، ونحنُ تحتَ تدبيرِهِ وملكِهِ وقدرتِهِ سُبحانَهُ جلَّ وعَلا،
ولكنَّ
حكمتَهُ تَعالَى، اقتضَتْ أنَّهُم يبقُون على الضَّلالِ.
{
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }:
الذين
لا يعرفُون حقائقَ الأمورِ، ولا ينزلُونها على منازلِها.
نسألُ
اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!
اللهُمَّ اجعلِ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبِنا، ونورَ
صدورِنا، وجلاءَ أحزانِنا،
وذهابَ همومِنا وغمومِنا، وقائدَنا ودليلَنا إلى
جنَّاتِكَ جنَّاتِ النَّعيمِ.
اللهُمَّ ذكِّرْنا منْهُ ما نُسِّينا، وعلِّمْنا منْهُ
ما جَهِلْنا،
وارزقْنا تلاوتَهُ آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهارِ
على الوجهِ الذي يرضِيكَ عنَّا، يا حيُّ يا قيُّومُ!
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا
أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد
وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق