بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه الثالث
من سورة المائدة
يقول
الله تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ
وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ
وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ) ( 6)
هذه آيةٌ عظيمةٌ، قد اشتملَتْ على أحكامٍ كثيرةٍ:
{
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ}:
الآيةُ
تأمرُ بالوضوءِ، عند القيامِ إلى الصَّلاةِ، ولكن هو في حقِّ المُحدِثِ واجبٌ، وفي
حقِّ المُتطهِّرِ سنةٌ.
كان
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضَّأ عند كلِّ صلاةٍ،
فلما
كان يومُ الفتحِ، توضَّأَ، ومسحَ على خُفَّيه، وصلَّى الصَّلواتِ بوضوءٍ واحدٍ.
فقالَ
لهُ عمرُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّك فعلتَ شيئًا لم تكنْ تفعلْهُ؟
قالَ:
" إني عمدًا فعلته يا عُمَر".
وفي
الحديثِ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ
الْخَلاءِـ
فَقُرِّبَ
إِلَيْهِ طَعَامٌ،
فَقَالُوا
أَلا نَأْتِيكَ بِوَضُوءٍ؟
-
اعتادُوا أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يتوضَّأُ، إذا خرجَ من الخلاءِ-
قَالَ:
" إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلاةِ".
وقد استدلَّ طائفةٌ من العلماءِ، بقولِهِ:
{
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ْ}
على وجوبِ النيَّةِ في الوضوءِ.
وقد ثبتَ في الصَّحيحَين حديثُ:
"إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ، وإنَّما لكلِّ امْرِئٍ ما
نَوى".
ويُستحَبُّ قبلَ غسلِ الوجهِ، أنْ يذكرَ اسمَ اللهِ تَعالَى
على وضوئِهِ;
لما وردَ في الحديثِ منْ طرقٍ جيدةٍ، عن جماعةٍ من الصَّحابةِ،
عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أنَّهُ قالَ:
"لا وضوءَ لمَنْ لم يذكرْ اسمَ اللهِ عليهِ".
ويُستحبُّ أنْ يغسلَ كفَّيهِ قبلَ إدخالِهِما في الإناءِ،
ويتأكَّدُ ذلك عند القيامِ من النَّومِ;
لما ثبتَ في الصَّحيحَين عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنْهُ،
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالَ:
"
إذا استيقظَ أحدُكُم من نومِهِ، فلا يدخلُ يدَهُ في الإناءِ قبلَ أنْ يغسَلَها
ثلاثًا، فإنَّ أحدَكُم لا يدري أين باتَتْ يدُهُ".
وعن
أبي وائلٍ، قالَ: رأيت عثمانَ توضَّأَ - فذكرَ الحديثَ،
وهو
حديثٌ طويلٌ لعثمانَ، شرحَ فيهِ الوضوءَ -
قالَ:
وخلَّلَ اللِّحيةَ ثلاثًا حين غسلَ وجهَهُ،
ثمَّ
قالَ: رأيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فعلَ الذي رأيتُمُوني فعلْتُ .
وأمَّا عن كيفيَّةِ الوضوءِ:
فقد روَى الإمامُ أحمدُ، عن ابنِ عباسٍ; أنَّهُ
توضَّأَ، فغسلَ وجهَهُ،
ثمَّ أخذَ غرفةً من ماءٍ،
فتمضمضَ بها واستنثرَ،
ثمَّ أخذَ غرفةً، فجعلَ بها
هكذا، يعني أضافَها إلى يدِهِ الأخرَى، فغسلَ بهما وجهَهُ.
ثمَّ أخذَ غرفةً من ماءٍ،
فغسلَ بها يدَهُ اليُمنَى،
ثمَّ أخذَ غرفةً من ماءٍ
فغسلَ بها يدَهُ اليُسرَى،
ثمَّ مسحَ رأسَهُ،
ثمَّ أخذَ غرفةً من ماءٍ، ثم
رشَّ على رجلِهِ اليُمنَى حتى غسلَها،
ثم أخذَ غرفةً أخرَى فغسلَ
بها رجلَهُ اليُسرَى،
ثمَّ قالَ: هكذا رأيْتُ رسولَ
اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يعني يتوضَّأُ.
رواه
البخاريُّ
وقولُهُ:
{
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ }:
أي:
مع المرافقِ.
ويستحبُّ
للمتوضِّئِ أن يشرعَ في العضدِ، ليغسلَهُ مع ذراعَيهِ;
لِما
روَى البخاريُّ ومسلمُ، عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنْهُ، قالَ:
قالَ
رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
"
إن أمَّتي يُدعَون يومَ القيامةِ غرًّا محجَّلين من آثارِ الوضوءِ،
فمن
استطاعَ منكُم أن يطيلَ غرَّتَه فليفعلْ".
وفي
صحيحِ مسلمٍ، عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: سمعْتُ خليلِي صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، يقولُ:
"
تبلغُ الحِليةُ من المؤمنِ حيثُ يبلغُ الوضوءُ".
وروَى
عبدُالرزاقِ عن حُمرانَ بن أبانَ، قالَ: - في حديثِ عثمانَ الطَّويلِ عن الوضوءِ-
رأيتُ
عثمانَ بن عفانَ توضَّأَ، فأفرغَ على يديهِ ثلاثًا فغسلَهُما،
ثمَّ
مضمضَ واستنشقَ،
ثم
غسلَ وجهَه ثلاثًا،
ثم
غسلَ يدَهُ اليُمنَى إلى المرفقِ ثلاثًا ، ثمَّ غسلَ اليُسرَى مثلَ ذلك،
ثمَّ
مسحَ برأسِهِ،
ثمَّ
غسلَ قدَمَهُ اليُمنَى ثلاثًا، ثمَّ اليُسرَى ثلاثًا مثلَ ذلك،
ثمَّ
قالَ: رأيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ توضَّأَ نحوَ وضوئِيَ هذا،
ثمَّ
قالَ:
"
من توضَّأَ نحوَ وضوئيَ هذا، ثمَّ صلَّى ركعتَين، لا يحدِّثُ فيهما نفسَه، غُفرَ
له ما تقدَّمَ من ذنبِه".
أخرجَهُ
البخاريُّ ومسلمُ في الصَّحيحَين.
وهو
حديثٌ مشهورٌ في الصَّحيحَين،
شرحَ
فيه عثمانُ بن عفانَ، وضوءَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ،
ثمَّ
قالَ في نهايةِ الحديثِ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَ:
"
من توضَّأَ نحوَ وضوئيَ هذا"- يقصدُ الوضوءَ الذي شرحَهُ-
"ثمَّ
صلَّى ركعتَين، لا يحدِّثُ فيهما نفسَهُ، غُفرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ".
حديثٌ
عظيمٌ، وعملٌ يسيرٌ!!
ما
المقصودُ بقولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
"لا يحدِّثُ فيهما نفسَه"؟!
أي
يكونُ في حالِ تركيزٍ شديدٍ على ذكرِ اللهِ تَعالَى، فلا يسهوَ ولا يغفلُ،
وهذا
يدلُّ على الترَّكيزِ، فإذا ركّزت في العملِ نجحْت.
-
التركيزُ يفيدُ العملَ-
فعندَ
القيامِ إلى الصَّلاةِ، - أيها الأخ- إذا لم تحدّثْ نفسَك، وجعلتَها للهِ عزَّ
وجلَّ،
فالأصلُ
أن الإنسانَ يحدِّثُ نفسَهُ لقولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
"
لا يحدِّثُ فيهما نفسَهُ"
شيءٌ
عجيبٌ !!
فما
الجزاءُ يا رسولَ اللهِ؟
"
غُفرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ".
أعمالٌ
عظيمةٌ!!
توضَّأْ
كما توضَّأ عثمانُ، ووصفَ وضوءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
ثم
صلِّ ركعتَين لا تحدِّثْ فيهما نفسَك،
ركِّزْ
على آياتِ القرآنِ الذي تتلُوهُ، على التَّسبيحِ، على التَّهليلِ،
لا
تنشغلْ في الدُّنيا، يُغفرْ لك ما تقدَّمَ من ذنبِك.
{ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ }:
طبعًا المقصودُ، غسلُ الرِّجلين دونَ المسحِ،
لأنَّ المسحَ في شريعتِنا لا يكونُ إلا في حالِ لبسِ
الخفَّين.
وفي
الصَّحيحَين، عن عبد اللهِ بن عمرو، قالَ:
"
تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فِي سَفَرةٍ
سَافَرْنَاها،
فَأَدْرَكَنَا
وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاةُ، صَلاةُ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ ،
فَجَعَلْنَا
نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا،
-
من شدة التَّعبِ والإعياءِ، أخذوا يمسحون على أرجلِهِم -
فنَادَى
بِأَعْلَى صَوْتِه:
"
أسبِغُوا الوُضُوءَ، وَيْلٌ
لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ".
وكذلك
هو في الصَّحيحَين، عن أبي هريرةَ، وفي صحيحِ مسلمٍ عن عائشةَ،
عن
النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أنَّهُ قالَ:
"
أسبِغُوا الوُضُوءَ، وَيْلٌ
لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ".
وإنَّ
منْ يسبغُ الوضوءَ في فصلِ الشِّتاءِ، له أجرٌ عظيمٌ،
خاصَّةً
من هُم في المخيَّماتِ، يعانون من البردِ، - واللهُ المستعانُ-
فإسباغُ
الوضوءِ على المكارهِ، له أجرٌ عظيمٌ كبيرٌ.
اللهُ
أكبرُ!
وقد روى مسلمُ في صحيحِهِ، عن عمرٍ بن الخطَّابِ;
أنَّ رجلًا توضَّأَ فتركَ موضعَ ظفرٍ على قدمِهِ،
فأبصرَهُ النبيُّ، صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقالَ:
"
ارجِعْ فأحسِنْ وضوءَكَ".
وفي
أمرِ التَّخليلِ بين الأصابعِ: روَى أهلُ السُّننِ،
عن لقيطِ بن ِصَبرِةَ، عن أبيهِ، قالَ:
قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ؟
فَقَالَ:
" أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي
الاسْتِنْشَاقِ، إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا".
-
طبعًا المسحُ على القدمَين - أيُّها الإخوةُ- سنَّةٌ ثابتةٌ عن النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -
يقولُ:
رأيتُ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ توضَّأَ، ثمَّ مسحَ على نعلَيهِ، ثمَّ
قامَ إلى الصَّلاةِ.
أمّا
الأمرُ بالتَّيممِ، عند عدمِ وجودِ الماءِ، أو للمريضِ،
وقولُهُ
تَعالَى:
{
وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ }
رُويَ عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنْها،
قالَتْ: سقطتْ قلادةٌ لي بالبيداءِ، ونحن داخلُون
المدينةَ،
فأناخ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ونزلَ،
فثنَى رأسَهُ في حجرِي راقِدًا
- أي كانَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، نائمًا على فخذِها-
فأقبلَ أبو بكرٍ، فلكزَني لكزةً شديدةً، وقالَ: حبسْتِ
النَّاسَ في قلادةٍ،
فتمنَّيتُ الموتَ، لمكانِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ،
- أي رحمْتُ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأنَّ
النَّاسَ ينتظرُون حتى أجدَ القلادةَ-
وقدْ أوجعَني - تقصدُ والدَها-
ثمَّ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
استيقظَ،
وحضرَتِ الصُّبحُ، فالتمسَ الماءَ فلم يوجدْ، فنزلَتْ
هذهِ الآيةُ:
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ }
فقالَ أسيدُ بن الحُضير: لقدْ باركَ اللهُ للنَّاسِ فيكُم
يا آلَ أبي بكرٍ، ما أنتُم إلا بركةً لهُم.
انظروا
إلى تعاملِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
مع زوجتِهِ عائشةَ!
انظروا
إلى الكلامِ الطَّيِّبِ من الصحابيِّ أسيدُ بن
الحضيرِ رضيَ اللهُ عنْهُ، وكيفيَّةِ تفسيرِهِ للآيةِ،
فقالَ:
لقدْ باركَ اللهُ للنَّاسِ فيكُم يا آلَ أبي بكرٍ،
ما أنتُم إلا بركةً لهُم!
وقولُهُ
تَعالَى:
{
مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ }:
أي:
فلهذا سهَّلَ عليكُم ويسَّرَ، ولم يعسِّرْ،
بل
أباحَ التَّيمُمَ عندَ المرضِ، وعندَ فقدِ الماءِ، توسعة ًعليكُم، ورحمةً بكُم،
وجعلَهُ
في حق من شرعِ اللهِ يقومُ مقامَ الماءِ إلا منْ بعضِ الوجوهِ.
وقولُهُ :
{وَلَٰكِن
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ }:
أي:
لعلَّكُم تشكرُون نعمَهُ عليكُم،
فيما
شرعَهُ لكُم من التَّوسعةِ والرَّأفةِ والرَّحمةِ والتَّسهيلِ والسَّماحةِ.
- دينٌ
عظيمٌ- اللهُ أكبرُ!
كما
أنَّ الدُّعاءَ بعد الوضوءِ، له أجرٌ عظيمٌ:
يقولُ
الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
"
مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ
الْجَنَّةُ".
قَالَ:
فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ ؟
فَإِذَا
قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ، يَقُولُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ،
فَنَظَرْتُ،
فَإِذَا عمرُ رضيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِنِّي
قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا،
قَالَ:
"مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُبْلِغُ، أَوْ فَيُسْبِغُ
الْوَضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ:
أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ،
إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ
أَيِّهَا شَاءَ".
اللهُ
أكبرُ!
لاحظُوا
قولَ الرَّسولِ في الحديثِ:
"
مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ"
فالإقبالُ
بالقلبِ قبلَ الوجهِ،
وقد
تقدَّمَ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
"
صلَّى ركعتَين، لا يحدِّثُ فيهما نفسَهُ".
إنَّ
قاعدةَ التركيزِ جميلةٌ جدًا،
فلو
أمسكْتَ العملَ، أمسكْهُ من كلِّ جوانبِه، حتى تتمَّهُ.
فالمسألةُ
فيها تركيزٌ،
اجعل
تركيزَك في الصَّلاةِ فقطْ، ولا تشغلْ قلبَك بغيرِ الصَّلاةِ، اِنسَى الأمورَ الدُّنيويَّةَ،
لا شيءَ سيطيرُ!
كبّر،
وكنْ مع اللهِ سبحانَهُ وتَعالَى،
في
حركاتِك وسكناتِك، وفي ركوعِك و سجودِك، وفي تسبيحِك وتهليلِك وتكبيرِك، أثناءَ
الصَّلاةِ.
هذا
وقتُ صلاةٍ، فلا تدعِ الدُّنيا تشغلْك في صلاتِك!
وفي
فضلِ الوضوءِ، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالَ:
"إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ
نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ،
فَإِذَا
غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ
مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ،
فَإِذَا
غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ
أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ،
حَتَّى
يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ".
رواهُ
مسلمُ
وروَى مسلمُ في صحيحِهِ، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ;
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَ:
" الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ، والحَمْدُ للهِ تَمْلأُ
الميزانَ،
وسُبْحَانَ
اللهِ والحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ،
وَالصَّلاةُ
نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ
أَو عَلَيْكَ،
كُلُّ
النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا".
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) (
7)
يقولُ
اللهُ تَعالَى مذكِّرًا عبادَهُ المؤمِنِين، نعمتَهُ عليهِم في شرعِهِ لهُم هذا
الدِّينَ العظيمَ،
وإرسالَهُ
إليهِم هذا الرَّسولَ الكريمَ،
وما
أخذَ عليهِم من العهدِ والميثاقِ، في مبايعتِهِ على متابعتِهِ ومناصرتِهِ ومؤازرتِهِ،
والقيامِ بدينِهِ، وإبلاغِهِ عنهُ، وقبولِهِ منْهُ،
فقالَ تَعالَى:
{
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }
وهذهِ
هيَ البيعةُ التي كانوا يبايعُون رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، عليها
عند إسلامِهِم،
كما
قالُوا:
" بايعْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسلَّمَ، على السَّمعِ والطَّاعةِ، في منشطِنا ومكرهِنا وأثرةٍ علينا، وألا
ننازعَ الأمرَ أهلَهُ".
وقيل:
هذا تذكارٌ لليهودِ، بما أُخِذَ عليهِم من المواثيقِ والعهودِ، في متابعةِ مُحَمَّدٍ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، والانقيادِ لشرعِهِ.
ثمَّ قالَ تَعالَى :
{وَاتَّقُوا اللَّهَ }:
تأكيدًا وتحريضًا على مواظبةِ
التَّقوَى في كلِّ حالٍ .
ثمَّ
أعلمَهُم أنَّهُ يعلمُ ما يتخالجُ في الضَّمائرِ والسَّرائرِ، من الأسرارِ
والخواطرِ، فقالَ:
{
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ
ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( 8)
يأمرُ
اللهُ تَعالَى بالالتزامِ بالعدلِ،
فيقولُ:
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ْ}:
أي:
كونُوا قوَّامِين بالحقِّ للهِ، عزَّ وجلَّ،
لا
لأجلِ النَّاسِ والسُّمعةِ، فيكون لهم نصيبٌ من ذلك.
وكونُوا:
{ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ْ}:
أي:
بالعدلِ، لا بالجورِ.
وقد ثبتَ في الصَّحيحَين، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،
أنَّه قَالَ: نَحَلَني أبي نحلًا،
فَقَالَتْ
أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ:
لَا
أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فجاءَهُ لِيُشْهِدَهُ
عَلَى صَدَقَتِي،
فقال: "
أَكلُّ ولدِكَ نحلْتَ مِثْلَهُ؟
قَالَ:
لَا،
قَالَ: " اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ"
وقال: " إنِّي لاَ أَشْهَدُ
عَلَى جوْر".
قال: فَرَجَعَ
أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ.
وقولُهُ:
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا
تَعْدِلُوا }:
أي: لا يحملنَّكم بغضُ قومٍ،
على تركِ العدلِ فيهم،
بل استعملُوا العدلَ في كلِّ
أحدٍ، صديقًا كان أو عدوًّا، قريبًا كان أم بعيدًا، ذكرًا كان أو أنثَى;
ولهذا قالَ:
{ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}:
أي: عدلُكم أقربُ إلى التَّقوَى
من تركِهِ.
اللهُ أكبرُ!
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلًا }
ثمَّ
قالَ تَعالَى:
{
وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }:
أي:
وسيجزيكُم على ما علمَ من أفعالِكم التي عملتُمُوها،
إنْ
خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرُّ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( 9)
{ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ }:
فكلُّ تعبِكم، جزاؤُكم، وضوءُكم،
صلاتُكم، عدلُكم للهِ عزَّ وجلَّ، تريدون وجهَ الله تَعالَى،
فختم اللهُ هذا الوجهَ، بعد أن ذكرَ
العديدَ من الأوامرِ والنَّواهِي، فيه إرشاداتٌ عظيمةٌ،
ختمَهُ اللهُ بقولِهِ:
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ْ}:
أي: لذنوبِهِم.
وهذا فيه تحفيزٌ ربَّانيٌّ من اللهِ
جلَّ وعلَا،
نسألُه تَعالَى المغفرةَ والفضلَ!
{ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }:
وهو: الجنَّةُ، التي هي من رحمتِهِ على عبادِهِ،
لا ينالونَها بأعمالِهِم، بل برحمةٍ منه وفضلٍ.
وإن كان سببُ وصولِ الرَّحمةِ إليهِم هي أعمالُهُم،
وهو تَعالَى الذي جعلَها أسبابًا إلى نيلِ رحمتِهِ وفضلِهِ
وعفوِهِ ورضوانِهِ،
فالكلُّ منْهُ، ولَهُ، فلهُ الحمدُ والمنَّةُ - جلَّ
وعلَا.
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى
آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق