بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
الثَّامنُ من سورة المائدة
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا
عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ ) ( 32)
يقولُ تعالَى:
{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ }:
الذي ذكرنَاهُ في قصَّةِ ابنَي آدمَ، وقتلِ أحدِهِما أخَاهُ،
وسُنَّةِ القتلِ لمنْ بعدَهُ،
وأنَّ القتلَ عاقبتُهُ وخيمةٌ، وخسارةٌ في الدُّنيا
والآخرةِ.
{ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ }:
وهمْ أهلِ الكتبِ السَّماويةِ
{ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ }:
أي: بغيرِ حقٍّ
{ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا }:
لأنَّهُ ليسَ معَهُ داعٍ يدعوهُ إلى القتلِ، وأنَّهُ لا
يُقدمُ على القتلِ إلا بحقٍّ،
فلمَّا تجرَّأَ على قتلِ النَّفسِ التي لم تستحقّ القتلَ،
عُلِمَ أنَّهُ لا فرقَ عندَهُ بين هذا المقتولِ وبينَ
غيرِهِ،
وإنَّما ذلكَ بحسبِ ما تدعُوهُ إليه نفسُهُ الأمَّارةُ
بالسُّوءِ.
فتجرؤُهُ على قتلِهِ، كأنَّهُ قتلَ النَّاسَ جميعًا.
وكذلكِ من أحيَا نفسًا، أي: استبْقَى أحدًا،
فلم يقتلُهُ مع دعاءِ نفسِهِ لهُ إلى قتلِهِ،
فمنعَهُ خوفُ اللهِ تَعالَى من قتلِهِ، ومراقبةُ اللهِ
جلَّ وعلا،
فهذا كأنَّهُ أحيَا النَّاسَ جميعًا،
لأن ما معَهُ من الخوفِ، يمنعُهُ من قتلِ منْ لا يستحقُّ
القتلَ.
ودلَّتِ الآيةُ على أنَّ القتلَ يجوزُ بأحدِ أمرَين:
- إمَّا أنْ يقتلَ نفسًا بغير حقٍّ متعمِّدًا في ذلك،
فإنَّه يحلُّ قتلُهُ، إنْ كانَ مُكلَّفًا مكافئًا، ليسَ
بوالدٍ للمقتولِ.
- وإمَّا أن يكونَ مفسِدًا في الأرضِ،
بإفسادِهِ لأديانِ النَّاسِ، أو أبدانِهِم أو أموالِهِم،
كالكفَّارِ المرتدِّين والمحاربِين،
والدُّعاةِ إلى البدعِ، الذين لا ينكفُّ شرُّهُم إلا
بالقتلِ.
وكذلك قُطَّاعُ الطَّريقِ ونحوِهِم، ممَّنْ يصولُ على
النَّاسِ لقتلِهِم، أو أخذِ أموالِهِم.
{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ }:
التي لا يبقَى معَها حجَّةٌ لأحدٍ.
{ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ }:
أي: من النَّاسِ
{ بَعْدِ ذَلِكَ }:
البيانِ القاطعِ للحجَّةِ، الموجِبِ للاستقامةِ في
الأرضِ.
{ لَمُسْرِفُونَ }:
في العملِ بالمعاصِي، ومخالفةِ الرُّسلِ الذين جاؤُوا
بالبيِّناتِ والحججِ، قد تجاوزُوا الحدَّ في الذُّنوبِ والمعاصِي.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ
خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( 33)
المحارِبُون للهِ ولرسولِهِ، هم الذينَ بارزُوهُ
بالعداوةِ،
وأفسدُوا في الأرضِ بالكفرِ والقتلِ، وأخذِ الأموالِ،
وإخافةِ السُّبُلِ.
والمشهورُ أن هذهِ الآيةَ الكريمةَ في أحكامِ قطَّاعِ
الطَّريقِ،
الذين يَعرِضون للنَّاسِ في القُرى والبَوادِي،
فيغصبُونَهم أموالَهُم، ويقتلُونَهُم، ويُخيفُونهُم،
فيمتنعُ النَّاسُ من سلوكِ الطَّريقِ التي هم بها،
فتنقطعُ بذلك السُّبُلُ.
فأخبرَ اللهُ أنَّ جزاءَهُم ونكالَهُم -عندَ إقامةِ
الحدِّ عليهِم-
أنْ يُفعَلَ بهِم واحدٌ من هذهِ الأمورِ، التي عدَّدَها
اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى.
وأنَّ عقوبتَهُم تكونُ بحسبِ جرائمِهِم، فكلُّ جريمةٍ
لها قسطٌ يقابلُها،
كما تدلُّ عليه الآيةُ بحكمتِهِا، وموافقتِها لحكمةِ
اللهِ تعالَى.
وأنهم إنْ قتلُوا، وأخذُوا مالًا، تحتَّمَ قتلُهُم وصلبُهُم،
حتى يشتهرُوا ويختزُوا، ويرتدعَ غيرُهُم.
وإنْ قتلُوا، ولم يأخذوا مالًا، تحتَّمَ قتلُهُم فقطْ.
وإنْ أخذُوا مالًا، ولم يقتلُوا، تحتَّم أنْ تُقَطَّعَ
أيديُهُم وأرجلُهُم من خلافٍ،
اليدُ اليُمنَى والرِّجلُ اليُسرَى.
وإنْ أخافُوا النَّاسَ ولم يقتلُوا، ولا أخذُوا مالًا،
نُفُوا من الأرضِ، فلا يتُرَكون يأوُون في بلدٍ، حتى
تظهرَ توبتُهُم.
وهذا قولُ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُ، وغيرِهِ منَ
العلماءِ.
{ ذَلِكَ }:
النَّكالُ
{ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا }:
أي: فضيحةٌ وعارٌ.
{ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }:
فدلَّ هذا أنَّ قطع الطَّريقِ من أعظمِ الذُّنوبِ،
موجبٌ لفضيحةِ الدُّنيا، وعذابِ الآخرةِ، وأنَّ فاعلَهُ
محارِبٌ للهِ ولرسولِهِ.
وإذا كان هذا شأنُ عِظَمِ هذهِ الجريمةِ،
عُلِمَ أنَّ تطهيرَ الأرضِ من المُفسِدين، وتأمينَ السُّبُلِ
والطُّرقِ، عن القتلِ، وأخذِ الأموالِ، وإخافةِ النَّاسِ،
من أعظمِ الحسناتِ، وأجلِّ الطَّاعاتِ،
وأنَّهُ إصلاحٌ في الأرضِ، كما أنَّ ضدَّه إفسادٌ في
الأرضِ.
إخافةُ النَّاسِ من أعظمِ الذُّنوبِ،
على العكسِ تمامًا من تأمينِ النَّاسِ، والسَّعي على
أمنِهِم.
فعليك دائمًا تأمينُ النَّاسِ، وتطمينُهِم، وزرعُ
الأمانِ والرَّاحةِ والطُّمأنينةِ فيهِم، على قدرِ استطاعتِك.
وما يقومُ بهِ رجالُ الأمنِ، يعتبرُ من أعظمِ الأعمالِ،
وهم يجمعُونَ أعظمَ الأجورِ،
يُؤَمِّنون النَّاسَ ويريحُونَهُم ويطمئِنُوهُم.
على العكسِ تمامًا ممن يروِّعون النَّاسَ ويُخيفونَهُم
- والعياذُ باللهِ!
{ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
نسألُ
اللهَ سُبحانَهُ وتعالَى لنا ولذريَّاتنا السَّلامةَ والعافيةَ، يا ذا الجلالِ
والإكرامِ!
لا
بدَّ للجيلِ أنْ يكونَ واعيًا، لا يسعَى وراءَ أيِّ فكرٍ،
فبعضُ
الأفكارِ باطِلةٌ، وبعضُها تهدفُ إلى ترويعِ النَّاسِ،
حتى
المساجدُ لم تسلمْ منْهُم، يفجِّرونها، بحجَّةِ الإسلامِ،
وكأنَّ
الدِّينَ ليسَ إلَّا همُ، وكأنَّ الإسلامَ لا يحكمُ بهِ إلَّا هُم،
فيهم
كِبرٌ وعُجبٌ،
وهذا
ترويعٌ وتخويفٌ للمسلِمين، بينما الواجبُ تأمينُهُم.
ولذلك يقولُ تَعالَى:
{ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }:
أي لا يكفِي خزيُهُم في الدُّنيا، بل كذلكَ لهم في
الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن
قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
( 34)
{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
}:
أي: من هؤلاءِ المحارِبينَ،
{ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }:
أي: فيسقطُ عنْهُ ما كانَ للهِ، من تحتُّمِ القتلِ والصَّلبِ
والقطعِ والنَّفيِ،
ومن حقِّ الآدميِّ أيضًا، إن كان المحارِبُ كافرًا ثمَّ
أسلمَ،
فإن كانَ المحارِبُ مسلِمًا فإن حقَّ الآدميِّ، لا يسقطُ
عنْهُ، من القتلِ وأخذِ المالِ.
ودلَّ مفهومُ الآيةِ، على أنَّ توبةَ المحارِبِ -بعد
القدرةِ عليهِ-
أنَّها لا تُسقِطُ عنه شيئًا، والحكمةُ في ذلك ظاهرةٌ.
وإذا كانَتِ التَّوبةُ قبلَ القدرةِ عليهِ، تمنعُ من
إقامةِ الحدِّ في الحرابةِ،
فغيرُها من الحدودِ -إذا تابَ من فعلِها، قبلَ القدرةِ
عليهِ- من بابِ أولَى.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( 35)
جاهدوا الجهادَ الصَّحيحَ، الذي على أمَّةِ مُحَمَّدٍ
صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
هذا أمرٌ من اللهِ لعبادِهِ المؤمِنِين، بما يقتضيهِ
الإيمانُ من تقوَى اللهِ، والحذرِ من سخطِهِ وغضبِهِ،
وذلك بأن يجتهدَ العبدُ، ويبذلَ غايةَ ما يمكنُهُ من
المقدورِ،
في اجتنابِ ما يَسخَطُهُ اللهُ، من معاصِي القلبِ واللِّسانِ
والجوارحِ، الظَّاهرةِ والباطنةِ.
ويستعينُ باللهِ على تركِها، لينجوَ بذلكَ من سخطِ اللهِ
وعذابِهِ.
{ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ }:
أي: القربَ منهُ، والحظوةَ لديهِ، والحبَّ لهُ، وذلك
بأداءِ فرائضِهِ:
- القلبيَّةِ، كالحبِّ لهُ، وفيهِ، والخوفِ والرَّجاءِ،
والإنابةِ والتوكُّلِ.
- والبدنيَّةِ: كالزَّكاةِ والحجِّ.
- والمركَّبةِ: من ذلكَ، كالصَّلاةِ ونحوِها، من أنواعِ
القراءةِ والذِّكرِ،
ومن أنواعِ الإحسانِ إلى الخلقِ بالمالِ والعلمِ والجاهِ،
والبدنِ،
والنُّصحِ لعبادِ اللهِ تَعالَى،
فكلُّ هذهِ الأعمالِ تقرُّبُ إلى اللهِ تَعالَى.
ولا يزالُ العبدُ يتقرَّبُ بها إلى اللهِ، حتى يحبَّهُ
اللهُ،
فإذا أحبَّهُ كانَ سمعَهُ الذي يسمع ُبهِ، وبصرَهُ الذي
يبصرُ بهِ،
ويدَهُ التي يبطشُ بها، ورجلَهُ التي يمشِي بها،
ويستجيبُ اللهُ عزَّ وجلَّ له الدُّعاءَ.
ثمَّ خصَّ تباركَ وتَعالَى من العباداتِ المقرِّبةِ
إليه، الجهادَ في سبيلِهِ،
وهو: بذلُ الجهدِ في قتالِ الكافرِين بالمالِ، والنَّفسِ،
والرأيِ، واللِّسانِ،
والسَّعيِ في نصرِ دينِ اللهِ بكلِّ ما يقدرُ عليهِ
العبدُ،
لأنَّ هذا النَّوعَ من أجلِّ الطَّاعاتِ، وأفضلِ
القرباتِ،
ولأنَّ من قامَ بهِ، فهو على القيامِ بغيرِهِ أحرَى
وأولَى.
فيا من يبحثُ عن أجلِّ الطَّاعاتِ، وأفضلِ القرباتِ،
عليك بنصرةِ هذا الدِّينِ!
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }:
إذا اتَّقيتُم اللهَ بتركِ المعاصِي،
وابتغيْتُم الوسيلةَ إلى اللهِ، بفعلِ الطَّاعاتِ،
وجاهدْتُم في سبيلِهِ ابتغاءَ مرضاتِهِ.
والفلاحُ هو الفوزُ والظَّفرُ بكلِّ مطلوبٍ مرغوبٍ،
والنَّجاةُ من كلِّ مرهوبٍ،
فحقيقتُهُ السَّعادةُ الأبديَّةُ، والنَّعيمُ المقيمُ.
نسألُكَ
يا اللهُ، الفلاحَ في الدُّنيا والآخرةِ!
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ
مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ ) ( 36)
يخبرُ تَعالَى عن شناعةِ حالِ الكافِرِينَ باللهِ يومَ
القيامةِ، ومآلِهِم الفظيعِ،
وأنَّهُم لو افتدَوا من عذابِ اللهِ بملءِ الأرضِ ذهبًا،
ومثلِهِ معَهُ ما تُقُبِّلَ منهُم، ولا أفادَ،
لأنَّ محلَّ الافتداءِ قد فاتَ،
ولم يبقَ إلا العذابُ الأليمُ، الموجِعُ الدَّائمُ الذي
لا يخرجُونَ منْهُ أبدًا،
بل همْ ماكثونَ فيهِ سرمدًا.
نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى
آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق