بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
العاشرُ من سورة المائدة
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ( 42)
عندَما تكلَّمَ اللهُ عنِ اليهودِ في الآيةِ السَّابقةِ:
وقالَ إنَّهُم سمَّاعُون للكذبِ، وهذهِ تكملةٌ للآيةِ السَّابقةِ.
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ }:
والسَّمعُ هنا سمعُ استجابةٍ،
أي: من قلَّةِ دينِهِم وعقلِهِم، أنْ استجابُوا لمَنْ
دعَاهُم إلى القولِ الكذِبِ.
{ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }:
أي: المالِ الحرامِ،
بما يأخذُونَهُ على سفلتِهِم وعوامِّهِم من المعلوماتِ
والرَّواتبِ، التي بغيرِ الحقِّ،
فجمعُوا بين اتِّباعِ الكذبِ وأكلِ الحرامِ.
دائمًا من يأكلُ السُّحتَ فهو كذَّابٌ، ويسمعُ الكذبَ،
سمعَ استجابةٍ،
فهم يستجيبُون للكذبِ أكثرَ ممَّا يستجيبُون للصِّدقِ.
ما السَّببُ يا ربِّ؟!
لأنَّهُم أكَّالُون للسُّحتِ، فهما مرتبِطان مع
بعضٍ.
كانُوا يبيعونَ الكلامَ، ويقولُون كلامًا كذبًا حتى
يأكلُوا السُّحتَ.
{ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ }:
فأنتَ مخيَّرٌ في ذلكَ يا مُحَمَّدُ - صلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ.
وليسَتْ هذهِ منسوخةً،
فإنَهُ-عندَ تحاكمِ هذا الصِّنفِ إليهِ- يُخيَّرُ بينَ
أنْ يحكمَ بينَهُم،
أو يعرِضَ عن الحكمِ بينَهُم،
بسببِ أنَّهُ لا قصدَ لهُم في الحكمِ الشَّرعيِّ إلا أنْ
يكونَ موافِقًا لأهوائِهِم.
وعلى هذا فكلُّ مُستَفتٍ ومُتَحاكِمٍ إلى عالمٍ، يُعلَمُ
من حالِهِ أنَّهُ إنْ حُكِمَ عليهِ لم يرضَ،
لم يجبْ الحكمُ ولا الإفتاءُ لهُم،
فإنْ حُكِمَ بينَهُم وجبَ أنْ يحكمَ بالقسطِ.
دائمًا منْ يأتِيك بالباطلِ،
وأنت تعلمُ يقينًا أنَّهُ يريدُ الباطلَ، وبعيدٌ عنِ
الحقِّ تمامَ البعدِ،
فهوَ يجادلُ فقطْ، ويتحدَّثُ لهوىً في نفسِهِ فقطْ.
فأنت مُخيَّرٌ كذلكَ،
إنْ شئْتَ حادثْتَهُم وناقشتَهُم وحكمْتَ بينَهُم
بالعدلِ،
وإنْ شئْتَ تركْتَهُم، وسفهْتَهُم،
لأنَّ مشكلَتَهُم أنَّهُم لا يريدُون إلا الهوَى.
هذا القرآنُ منهجُ حياةٍ، منهجُ تعاملٍ،
القرآنُ رحمةٌ وهدىً ورشادٌ لنا،
لم تنزلْ الآياتُ حتى نحفظَ حروفَها فقطْ، بل نحفظُ
حدودَها.
وبما أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قالَ لمُحَمَّدٍ هذا الكلامَ،
فهوَ يقولُهُ لك أنت، ومُحَمَّد صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ هو قدوتُنا،
لكنْ منْ أتَى منْ أهلِ الباطلِ، لكنَّهُ يريدُ الحقَّ،
فالواجبُ هنا تعليمُهُ الحقَّ.
{ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا }:
لنْ يضرُّوكَ في الدُّنيا، ولن يضرُّوكَ في الآخرةِ، لنْ
يضرُّوكَ في صحيفتِكَ.
{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم
بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }:
فالعدلُ
مطلوبٌ دائمًا،
وشريعتُنا
الغرَّاءُ قامَتْ على الإحسانِ والعدلِ،
فأعظمُ
صفةٍ قامَتْ عليها شريعةُ الإسلامِ الغرَّاءِ هي الإحسانُ والعدلُ.
حتى ولو كانُوا ظلَمةً وأعداء، فلا يمنعُك ذلكَ من
العدلِ في الحكمِ بينَهُم.
وفي هذا بيانُ فضيلةِ العدلِ والقسطِ في الحكمِ بينَ
النَّاسِ، وأنَّ اللهَ تَعالَى يحبُّهُ.
فأحبَّهُ أنت، وتعاملْ معَهُ في كلِّ شؤونِ حياتِك، وفي
كلِّ تصرُّفاتِك وأفعالِك.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ
وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ
ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) ( 43)
ثمَّ قالَ متعجِّبًا لهُم:
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ
فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ }
فإنَّهُم -لو كانوا مؤمِنِين عامِلِين بما يقتضِيهِ
الإيمانُ ويوجبُهُ-
لم يصدفُوا عنْ حكمِ اللهِ الذي في التَّوراةِ التي بينَ
أيديهِم، كتابِ نبيِّهِم موسَى عليهِ السَّلامُ،
لعلَّهُم أنْ يجدُوا عندَك ما يوافقُ أهواءَهُم.
والمؤمنُ كيِّسٌ فطِنٌ، وعليهِ أنْ ينتبهَ،
فلو جاءَ أحدُهُم يريدُ أنْ يتلاعبَ بعقلِك فكنْ
كيِّسًا فطِنًا،
وهؤلاءِ اليهودِ يريدُون أنْ يتلاعبُوا على مُحَمَّدٍ
صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فاللهُ عزَّ وجلَّ أعادَ مُحَمَّدًا إلى أنَّهُم أساسًا
لم ينتفعُوا منَ التَّوراةِ،
فكيف ينتفعُون بكتابِكَ؟!
لا بَّد للإنسانِ أنْ يستخدمَ مهاراتِ التَّفكيرِ، التَّحليلِ
والرَّبطِ،
العاقلُ يفكِّرُ في مآلِ الأمورِ ومرجعِها ومصيرِها
أينَ يذهبُ.
فيا مُحَمَّد فكِّر بمآلِهِم ومرجعِهِم وحياتِهِم من
قبلُ!
كيف يؤمنون بك يا مُحَمَّدُ، وهم لم يؤمنُوا بموسَى
عليهِ السَّلامُ حقَّ الإيمانِ!
هم تولَّوا عن كتابِ موسَى عليهِ السَّلامُ! ولم
يستفيدُوا منَ التَّوراةِ - منْ قبلُ، ولا منْ نبيِّهِم.
فكيفَ يستفيدُون منْ كتابِكَ، وهم لم يستفيدُوا من كتابِهِم؟!
وهذا يفيدُكُم - أيَّها الإخوةُ- كثيرًا في حلِّ
المشكلاتِ.
{ وَمَا أُولَئِكَ }:
الذين هذا صنيعُهُم
{ بِالْمُؤْمِنِينَ }:
أي: ليسَ هذا دأبُ المؤمِنِين، وليسوا حريِّين بالإيمانِ.
لأنَّهُم جعلُوا آلهتَهُم أهواءَهُم، وجعلُوا أحكامَ
الإيمانِ تابعةً لأهوائِهِم.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ
هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ
اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ
وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ( 44)
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ }:
اللهُ هو الذي أنزلَ التَّوراةَ على موسَى بنِ عمرانَ عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ.
{ فِيهَا هُدًى }:
يهدِي إلى الإيمانِ والحقِّ، ويعصمُ منَ الضَّلالةِ،
كما أنَّ القرآنَ فيهِ هدىً، ومع ذلكَ لم يستفيدُوا منْها.
هذا لو أنَّهُم أرادُوا الحقَّ فعلًا.
{ وَنُورٌ }:
يُستضاءُ بهِ في ظلَمِ الجهلِ والحيرةِ والشُّكوكِ،
والشُّبهاتِ والشَّهواتِ،
كما قالَ تَعالَى:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ
وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ }
[ الأنبياء:
48]
فيا مُحَمَّد كتابُ التَّوراةِ ليسَ بعيدًا عنِ القرآنِ،
فكلاهُما منْ ربِّ العالمَيِن،
صحيحٌ أنَّ القرآنَ مُهَيمنٌ على جميعِ الكتبِ، لكنَّ
التَّوراةَ كذلكَ فيهِ نورٌ.
ولأن َّاللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى يحبُّ المُقسِطِين،
فلم ينسَ التَّوراةَ في القرآنِ -جلَّ وعَلا،
بل أثنَى على التَّوراةِ، ومدحَها، وقالَ إنَّها هدىً
ونورٌ يُستضاءُ بهِ في ظلماتِ الجهلِ،
وهذا يدلُّ على تمامِ عدلِهِ سُبحانَهُ جلَّ وعَلا.
{ يَحْكُمُ بِهَا }:
بيـنَ الذيـنَ هـادُوا،
أي: اليـهودُ فـي القضايـَا والفتـاوَى
{ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا }:
للهِ، وانقادُوا لأوامرِهِ،
الذين إسلامُهُم أعظمُ منْ إسلامِ غيرِهِم، وهُم صفوةُ
اللهِ عزَّ وجلَّ من العبادِ.
فإذا كانَ هؤلاءِ النَبيُّونَ الكرامُ والسَّادةُ
للأنامِ قد اقتدُوا بها، وائتمُّوا، ومشَوا خلفَها،
فما الذي منعَ هؤلاءِ الأراذلِ من اليهودِ منَ الاقتداءِ
بها؟
وما الذي أوجبَ لهُم أنْ ينبذُوا أشرفَ ما فيها منَ
الإيمانِ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
الذي لا يقبلُ عملًا ظاهرًا وباطنًا، إلا بتلكَ العقيدةِ
الرَّاسخةِ؟
وقولُهُ:
{ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ }:
أي: وكذلكَ يحكمُ بالتَّوراةِ للذين هادُوا أئمةُ الدِّينِ
منْ:
- الربَّانِيِّين، أي: العلماءِ العامِلِين المعلِّمِين
الذين يربُّونَ النَّاسَ بأحسنِ تربيةٍ، ويسلكُون معَهُم مسلكَ الأنبياءِ المُشفقِين.
نسألُ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى أنْ يجعلَنا منَ
العلماءِ الربَّانيِّينَ، يا حيُّ يا قيُّوم!
- والأحبارِ، أي: العلماءِ الكبارِ الذين يُقتدَى
بأقوالِهِم، ولهُم لسانُ الصِّدقِ بينَ أممِهِم.
{ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ }:
أي: بسببِ أنَّ اللهَ استحفظَهُم على كتابِهِ، وجعلَهُم
أمناءَ عليهِ،
فهو أمانةٌ عندَهُم، أوجبَ عليهِم حفظَهُ منَ الزِّيادةِ
والنُّقصانِ والكتمانِ، وتعليمِهِ لمَنْ لا يعلمُهُ.
{ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ }:
وهم شهداءُ عليهِ، بحيثَ أنَّهُم المرجوعُ إليهِم فيهِ،
وفيما اشتبهَ على النَّاسِ منْه.
فاللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى قد حمَّل أهلَ العلمِ، ما لم
يحمِّلْهُ الجهَّالَ،
فيجبُ عليهِم القيامُ بأعباءِ ما حُمِّلُوا.
وأمَّا أهلُ العلمِ فكما أنَّهُم مُطالَبُون بالقيامِ
بما عليهِم أنفسُهُم،
فإنَّهُم مُطالَبُون أنْ يعلِّمُوا النَّاسَ، وينبِّهُوهُم
على ما يحتاجُون إليهِ منْ أمورِ دينِهِم، أصولِها وفروعِها.
ولهذا قالَ:
{ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا }:
فتكتمُون الحقَّ، وتظهرُون الباطلَ، لأجلِ متاعِ الدُّنيا
القليلِ.
وهذه الآفاتُ إذا سلمَ منْها العالمُ فهو منْ توفيقِهِ
وسعادتِهِ،
بأنْ يكونَ همُّهُ الاجتهادُ في العلمِ والتَّعليمِ،
ويعلمَ أنَّ اللهَ قدْ استحفظَهُ ما أودعَهُ منَ العلمِ،
واستشهدَهُ عليهِ،
وأنْ يكونَ خائفًا من ربِّهِ، يعطِي بخوفٍ،
ولا يمنعَهُ خوفُ النَّاسِ وخشيتُهُم منَ القيامِ بما
هوَ لازمٌ لهُ،
وأنْ لا يؤثرَ الدُّنيا على الدِّينِ.
وعلى العكس من ذلك فإنَّ علامةَ شقاوةِ العالِمِ
أنَّهُ يخشَى النَّاسَ، يحذَرُهُم، ولا يعلمُ، ولا يدرسُ،
ولا يحفظُ إلا منْ أجلِهِم،
يبيعُ العلمَ والآخرةَ بالدُّنيا، وبأرخصِ الأثمانِ.
( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ )
[الأعلى: 16- 17 ]
نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ، يا حيُّ يا قيُّومُ!
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }:
منَ الحقِّ المبينِ،
وحكمَ بالباطلِ الذي يعلمُهُ، لغرضٍ منْ أغراضِهِ
الفاسدةِ؛
كخوفٍ منَ النَّاسِ، جاهٍ، سلطانٍ، مكانةٍ،
وهذهِ كلُّها أغراضُ دُنيا فاسدةٍ زائلةٍ.
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }:
فالحكمُ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ منْ أعمالِ أهلِ الكفرِ،
وقدْ يكونُ كفرًا يخرجُ عنِ الملَّةِ- والعياذُ باللهِ-
يقولُ اللهُ
تَعالَى:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ
وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن
تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( 45)
هذهِ الأحكامُ منْ جملةِ الأحكامِ التي في التَّوراةِ،
أي اجتمعَتْ في التَّوراةِ والقرآنِ،
يحكمُ بها النَّبيُّونَ الذين أسلمُوا للذينَ هادُوا
والرَّبانيُّون والأحبارُ.
إنَّ اللهَ أوجبَ عليهِم فيها أنَّ النَّفسَ -إذا قتلَتْ-
تُقتَلُ بالنَّفسِ بشرطِ العمدِ والمكافأةِ،
والعينُ تُقلَعُ بالعينِ، والأذنُ تُؤخَذُ بالأذنِ،
والسِّنُ يُنزَعُ بالسِّنِّ.
{ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ }:
والاقتصاصُ: أن يُفعَلَ بهِ كما فعلَ.
فمَنْ جرحَ غيرَهُ عمدًا اقتُصَّ منَ الجارحِ جرحًا مثلَ
جرحِهِ للمجروحِ، حدًّا، وموضعًا، وطولًا، وعرضًا وعمقًا،
وليعلمَ أنَّ شرعَ منْ قبلَنا شرعٌ لنا، ما لم يرِدْ
شرعُنا بخلافِهِ.
{ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ }:
أي: بالقصاصِ في النَّفسِ، وما دونَها منَ الأطرافِ
والجروحِ،
بأنْ عفَا عمَّنْ جنَى، وثبتَ لهُ الحقُّ قبلَهُ،
{ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }:
أي: كفَّارةٌ للجانِي، لأنَّ الآدميَّ عفَا عن حقِّهِ.
واللهُ تَعالَى أحقُّ وأولَى بالعفوِ عن حقِّه، فهو
عفوٌّ غفورٌ كريمٌ.
وكفَّارةٌ أيضًا عن العافِي،
فإنَّهُ كما عفَا عمَّن جنَى عليهِ، أو على من يتعلَّقُ
بهِ،
فإنَّ اللهَ يعفُو عن زلَّاتِهِ وجناياتِهِ، سُبحانَهُ
جلَّ وعَلا.
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }
ونعمَ باللهِ!
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }:
قالَ ابنُ عباسٍ:
كفرٌ دونَ كفرٍ، وظلمٌ دونَ ظلمٍ، وفسقٌ دونَ فسقٍ،
فهو ظلمٌ أكبرُ، عندَ استحلالِهِ،
وعظيمةٌ كبيرةٌ عندَ فعلِهِ غيرَ مستحلٍّ لَهُ.
ولا شك َّأنَّ الاستحلالَ أعظمُ من الفعلِ، وهو لم
يحلُّهُ.
نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى
آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق