بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه الحادي
عشر من سورة المائدة
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ
وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) ( 46)
لمّا ذكرَ اللهُ عزَّ وجلَّ اليهودَ، وكتابَهُم التَّوراةَ،
قالَ:
{ وَقَفَّيْنَا }:
أي أتبعْنا،
{ عَلَىٰ آثَارِهِم ْ}:
هؤلاءِ الأنبياءَ والمرسلينَ، الذين يحكمُون بالتَّوراةِ،
{ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ }:
بعبدِنا ورسولِنا عيسَى ابنِ مريمَ، روحِ اللهِ وكلمتِه
التي ألقَاها إلى مريمَ.
بعثَهُ اللهُ مِصدقًا لما بين يديهِ من التَّوراةِ،
فهو شاهدٌ لموسَى، ولما جاءَ بهِ من التَّوراةِ بالحقِّ
والصِّدقِ،
ومؤيِّدٌ لدعوتِهِ، وحاكمٌ بشريعتِهِ، وموافقٌ لهُ في
أكثرِ الأمورِ الشَّرعيَّةِ.
وقد يكونُ عيسَى عليهِ السَّلامُ أخفَّ في بعضِ الأحكامِ،
كما قالَ اللهُ تعالَى عنْهُ، أنَّهُ قالَ لبنِي
إسرائيلَ:
{ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
ْ}
{ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ }:
الكتابَ العظيمَ المتمِّمَ للتَّوراةِ.
{ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ }:
يهدي إلى الصِّراطِ المستقيمِ، ويبيِّنُ الحقَّ من
الباطلِ.
{ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ ْ}:
بتثبيتِها، والشَّهادةِ لها والموافقةِ.
{ وَهُدًى وَمَوْعِظَة لِّلْمُتَّقِينَ ْ}:
فإنَّهُم الذين ينتفعُونَ بالهُدَى، ويتَّعظونَ
بالمواعظِ، ويرتدعُونَ عمَّا لا يليقُ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( 47)
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ْ}:
أي: يلزمُهُم التقيُّدُ بكتابِهِم، ولا يجوزُ لهم
العدولُ عنْهُ.
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ْ}:
الفسقُ الذي يخرجُ عن الملَّةِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن
لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) ( 48)
يقولُ تعالَى:
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ }:
أنزلْنا إليكَ يا مُحَمَّدُ بعدَ الكتبِ السَّابقةِ هذا
الكتابَ،
الذي هو القرآنُ العظيمُ، أفضلُ الكتبِ وأجلِّها.
{ بِالْحَقِّ }:
أي: إنزالًا بالحقِّ، ومُشتملًا على الحقِّ، في أخبارِهِ
وأوامرِهِ ونواهيهِ.
{ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ }:
لأنَّهُ شهدَ لها ووافقَها، وطابقَتْ أخبارُهُ أخبارَها،
وشرائعُهُ الكبارُ شرائعَها،
وأخبرَتْ بهِ، فصارَ وجودُهُ مِصداقًا لخبرِها.
{ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ }:
أي: مُشتمِلاً على ما اشتملَتْ عليه الكتبُ السَّابقةُ،
وزيادةً في المطالبِ الإلهيَّةِ، والأخلاقِ النَّفسيَّةِ.
فهو الكتابُ الذي تتَبَّعَ كلَّ حقٍّ جاءَتْ بهِ الكتبُ،
فأمرَ بهِ، وحثَّ عليهِ، وأكثرَ من إعطاءِ الطُّرقِ المُوصلةِ
إلى الطَّريقِ المستقيمِ.
وهو الكتابُ الذي فيهِ نبأُ السَّابقينَ واللَّاحقينَ،
وهو الكتابُ الذي فيه الحكْمُ والحكمةُ والأحكامُ،
الذي عُرضَتْ عليه الكتبُ السَّابقةُ،
فما شهدَ له بالصِّدقِ فهو المقبولُ، وما شهدَ له بالرَّدِّ
فهو مردودٌ،
{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ }:
من الحكمِ الشَّرعيِّ الذي أنزلَهُ اللهُ عليكَ.
{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ
الْحَقِّ ْ}:
أي: لا تجعلْ اتِّباعَ أهوائِهِم الفاسدةِ المُعارِضةِ
للحقِّ، بدلًا عمَّا جاءَكَ من الحقِّ،
فتستبدلَ الذي هو أدنَى بالذي هو خيرٌ.
وهذه وصيَّةٌ لنا جميعًا - أيُّها الإخوةُ- أنْ لا نتَّبعَ
أهواءَ الذين ظلمُوا!
قدْ يكونُ الذين ظلمُوا أبناؤُك، أو زوجُك، أو قريبُك،
أو زميلُك، أو صديقُك، أو ابنُ عشيرتِك،
فاحذرْ اتِّباعَ أهوائِهِم!
أنت معكَ الحقُّ، معكَ الكتابُ، أنت الأقوَى، أنت
الأروعُ،
فالثَّباتَ الثَّباتَ، والدَّعوةَ إليهِ!
ما الذي يثبِّتُنا على الطَّريقِ المستقيمِ بإذنِ اللهِ
؟!
أعطيك جرعةً:
عليك بالأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكرِ، اصدعْ
بكلمةِ الحقِّ.
وبإذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ فهذا يثبِّتُك يومَ أنْ تلقاهُ،
حتى لا تضلَّ مع الذين ضلُّوا.
فالهوَى خطيرٌ مُذِلٌّ عظيمٌ، يهوِي في الدَّركاتِ،
قدْ تخسرُ مكانةً أو مالًا، أو زوجًا، أو أصدقاءَ، وقد
تبقَى وحيدًا، لكنْ يكفيك أنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ معك،
أتستبدلُ الذي هو أدنَى بالذي هو خيرٌ؟!
أيًّا كان الثَّمنُ فهو دُنيا زائلةٌ، ولو طالَتْ فهي دُنيا
زائلةٌ:
{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ }
والآخرةُ تحتاجُ صبرًا، وتضحياتٍ - أيُّها الإخوةُ-
اللهُمَّ أعنَّا يا اللهُ! يا أكرمَ الأكرمينَ!
اللهُمَّ قوِّنا يا ذا الجلالِ والإكرامِ، يا قويُّ!
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ }:
أيَّها الأممُ، جعلنا لكلِّ أمةٍ منْكُم،
{ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }:
أي: سبيلًا وسنَّةً،
وهذه الشَّرائعُ التي تختلفُ باختلافِ الأممِ، هي التي
تتغيَّرُ بحسبِ تغيُّرِ الأزمنةِ والأحوالِ،
وكلُّها ترجعُ إلى العدلِ في وقتِ شرعتِها،
وأمَّا الأصولُ الكبارُ التي هي مصلحةٌ وحكمةٌ في كلِّ
زمانٍ، فإنَّها لا تختلفُ،
فتُشرعُ في جميعِ الشَّرائعِ.
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
ْ}:
تبعًا لشريعةٍ واحدةٍ، لا يختلفُ مُتأخِّرُها
ولا مُتقدِّمُها.
لا يعجزهُ - سُبحانَهُ وتَعالَى- شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ،
لا يعجزُهُ أنْ نكونَ جميعًا أمَّةً واحدةً ، على قلبٍ
واحدٍ،
{ وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ }:
فيختبرَكُم، وينظرَ كيفَ تعملونَ،
ويبتليَ كلَّ أمةٍ بحسبِ ما تقتضِيهِ حكمتُهُ، ويؤتِي
كلَّ أحدٍ ما يليقُ بهِ،
وليحصلَ التَّنافسُ بين الأممِ، فكلُّ أمَّةٍ تحرصُ على
سبقِ غيرِها،
فهناكَ جنَّةٌ ورضوانٌ ورحماتٌ من اللهِ تنتظرُك -
سُبحانَهُ جلَّ وعَلا-
فاستعِن بالصَّبرِ والصَّلاةِ،
ولذلك فرَّقَ اللهُ بين الأممِ، ليحصلَ التَّسابقُ،
ولهذا قالَ:
{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ }:
هذه نصيحةٌ! هذا هو الشَّاهدُ، فالغايةُ والمقصودُ كلُّهُ
هو الاستباقُ إلى الخيراتِ،
ولا تبحثُوا عن الرَّاحةِ، الدُّنيا ليسَ فيها راحةٌ،
سُئِلَ الإمامُ أحمدُ، قيلَ: متى الرَّاحةُ؟ قالَ: في
الجنَّةِ.
فالدَّنيا كلُّها مُسابقةٌ،
سابقْ زملاءكَ إلى الخيراتِ، سابقْ أهلَ الإيمانِ إلى
الجنَّاتِ،
وابعدْ عن أهلِ الشَّرِّ.
{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ْ}:
أي: بادِرُوا إليها وأكمِلُوها،
فإنَّ الخيراتِ شَّاملةٌ لكلِّ فرضٍ ومستَحَبٍّ،
اهتمّْ بالفريضةِ والسُّنةِ والواجبِ، وابتعدْ عن
الحرامِ،
وانتبهْ من الاقترابِ من حدودِ اللهِ سُبحانَهُ
وتَعالَى:
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلَا تَعْتَدُوهَا }
[ البقرة: 229 ]
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلَا تَقْرَبُوهَا }
[ البقرة: 187 ]
فالمبادرةَ المبادرةَ!
عندَك فرصٌ عظيمةٌ في الحياةِ فانتهزْها إلى الخيرِ،
ابنُكَ الصغيرُ فرصةٌ، راحتُكَ وفراغُكَ فرصةٌ، عافيتُكَ
ومالُكَ فرصةٌ، جلوسُكَ على سجَّادتِكَ فرصةٌ،
إذا كانَ أهلُكَ أهلَ عباداتٍ فهذهِ فرصةٌ،
أمَّا إذا كانَ أهلُكَ أهلَ فسادٍ فهذه فرصةٌ للدعوةِ
إلى اللهِ تَعالَى،
عيشُكَ بين الصَّالحين فرصةٌ،
هيَ فرصٌ فانتهزْها، والأقوَى والأسرعُ هو من ينتهزُها.
{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }:
الأممُ السَّابقةُ واللاحقةُ، كلُّهُم سيجمعُهُم اللهُ
ليومٍ لا ريبَ فيهِ، لا شكَّ فيهِ،
يومِ البعثِ والجزاءِ، يومِ النُّشورِ.
كلُّنا سنرحلُ إلى اللهِ - سُبحانَهُ وتعالَى.
{ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }:
من الشَّرائعِ والأعمالِ،
فيثيبُ أهلَ الحقِّ، والعملِ الصَّالحِ، الذين تركوا
ملذَّاتَهُم وشهواتَهُم، وسابَقُوا إلى الخيراتِ،
ويعاقبُ أهلَ الباطلِ والعملِ السيِّئِ.
هذهِ دُنيا
زائلةٌ، فهي لعبٌ ولهوٌ،
إذا
فاتَكَ شيءٌ منْها فلا يضيقُ صدرُكَ، وإذا آلمَكَ شيءٌ فلا تحزنْ،
اعتبرْ
كلَّ هذهِ الحياةِ لعبةً!
تعوَّذْ
من الحزنِ دائمًا، واقتربْ من اللهِ أكثرَ، واجعلِ الهدفَ والمقصودَ السَّاميَ:
{ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ }
[ آل
عمران: 133 ]
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن
بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ
النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) ( 49)
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ}:
إذا حكمْتَ يا مُحَمَّدُ، فاحكمْ بينَهم بما أنزلَ اللهُ
من الكتابِ والسُّنةِ،
وهو القسطُ،
الذي تقدمَ أنَّ اللهَ قالَ:
{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ْ}
ودلَّ هذا على بيانِ القسطِ، وأنَّ مادتَهُ هو ما شرعَهُ
اللهُ من الأحكامِ،
فإنها المشتملةُ على غايةِ العدلِ والقسطِ،
وما خالفَ ذلكَ فهو جورٌ وظلمٌ.
فعليكَ بالقسطِ والعدلِ في كلِّ حياتِكَ،
حتى مع نفسِكَ، لا تقسُو عليها، ولا تظلمْها، ولا تعطِيها
راحتَها في الهوَى، وتتبعَ هواهَا، فهي مهلِكةٌ.
{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ْ}:
كرَّرَ النهيَ عن اتباعِ أهوائِهِم لشدَّةِ التَّحذيرِ
منْها.
ولأنَّ ذلكَ في مقامِ الحكمِ والفتوى، وهو أوسعُ، وهذا
في مقامِ الحكمِ وحدَهُ،
وكلاهُما يلزمُ فيه أن لا يتَّبعَ أهواءَهُم المخالِفةِ
للحقِّ.
فدائمًا الهوَى يخالفُ العدلَ، ويقفُ لهُ بالمرصادِ،
فاحذرْهُ، فهو سمٌّ زعافٌ، يقصِمُ العدلَ قصمًا، ويضربُهُ
ضربًا.
نعوذُ باللهِ منَ الهوَى!
ولهذا قالَ:
{ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا
أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ }:
هذا الخطابُ لمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فاللهُ يحذِّرُهُ، من الافتتانِ بالنَّاسِ، وتركِ ما
أنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ إليهِ،
فالقرآنُ نزلَ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وهو قرآنٌ يُتلَى إلى يومِ القيامةِ،
هو لكَ، فاحذرْ من أهلِ الباطلِ وأهلِ الهوَى.
أي: إياكَ والاغترارَ بهم، وأن يفتنُوكَ فيصدُّوكَ عن
بعضِ ما أنزلَ اللهُ إليكَ،
فصارَ اتِّباعُ أهوائِهِم سببًا موصلًا إلى تركِ الحقِّ
الواجبِ، والفرضُ اتباعُهُ.
{ فَإِن تَوَلَّوْا }:
عن اتِّباعِكَ واتباعِ الحقِّ،
و تركوكَ تسيرُ في الطَّريقِ وحيدًا، نصحتَهُم ووجهتَهُم،
فلم يتَّبِعوك،
انتبهْ أنْ تعودَ إليهِم، وتنكصَ على عقبَيكَ، وتتقهقرَ
إلى الوراءِ!
فمن شاءَ منْكُم فليتقدَّمْ أو ليتأخَّرْ!
هناك طريقَان، خيارَان،
اللهُ عزَّ وجلَّ أعطاكَ التَّمييزَ بين طريقِ الخيرِ
والشَّرِّ،
فتقدَّمْ دائمًا إلى الخيرِ، لأنَّكَ إنْ لم تتقدَّمْ،
سترجعُ إلى الوراءِ.
{ فَاعْلَمْ }:
أنَّ ذلكَ عقوبةٌ من اللهِ عليهِم
وأنَّ اللهَ يريدُ:
{ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ْ}:
فإنَّ للذَّنوبِ عقوباتٌ عاجلةٌ وآجلةٌ،
ومن أعظمِ العقوباتِ أنْ يُبتلَى العبدُ، ويُزيَّنُ لهُ
تركُ اتِّباعِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وذلكَ لفسقِهِ.
فأعظمُ ذنبٍ هو التَّوقُّفُ والتَّراجعُ إلى الوراءِ،
والتَّقهقرُ.
تعوَّذْ من الشَّيطانِ دائمًا، وتقدَّمْ،
وإنْ رأيتَ من نفسِكَ يومًا رجوعًا، فتقدمْ مرَّتَين،
حتى لا تكونَ قريبًا للشَّرِّ والفسادِ والدُّونِ والأرضِ،
وكنْ دائمًا في العُلا، حتى تعتليَ نفسُكَ وترتفعَ.
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }:
أي: طبيعتُهُم الفسقُ والخروجُ عن طاعةِ اللهِ، واتِّباعِ
رسولِهِ.
والمشكلةُ أنَّ الكثرةَ والغلبةَ لأهلِ الفسقِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ( 50)
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ْ}:
أي: أفيطلبونَ بتولِّيهِم وإعراضِهِم عنْكَ حكمَ
الجاهليَّةِ،
وهو كلُّ حكمٍ خالفَ ما أنزلَ اللهُ على رسولِهِ.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ }:
فالموقِنُ هو الذي يعرفُ الفرقَ بين الحُكمين،
ويميِّزُ - بإيقانِهِ- ما في حكمِ اللهِ عزَّ وجلَّ من
الحسنِ والبهاءِ،
وأنَّهُ يتعيَّنُ -عقلًا وشرعًا- اتِّباعُهُ.
واليقينُ، هو العلمُ التَّامُّ الموجبُ للعملِ.
منْ
يعرفُ ويميِّزُ أنَّهُ لا حكمَ أفضلُ من حكمِ اللهِ؟
منْ
يعلمُ أنَّ حكمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ فوقَ كلِّ حكمةٍ؟
منْ
يعلمُ أنَّ أحسنَ حكمٍ هو حكمُ اللهِ تَعالَى؟
الموقِنُون
فقط يعلمُون ذلك.
نسألُ
اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يرزقَنا اليقينَ بمنِّهِ وكرمِهِ!
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى
آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق