بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
الثَّاني عشر من سورة المائدة
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( 51)
لمَّا تكلَّمَ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى عن أهلِ
الإنجيلِ،
وتوعَّدَهُم أنَّهُم إنْ لم يحكُمُوا بما أنزلَ اللهُ
فأولئكَ هم الفاسِقُون،
وتكلَّمَ عن فضلِ الحُكمِ بما أنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ،
وأنَّ الدِّينَ قائمٌ عليهِ،
نهَى اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى عن اتِّخاذِ اليهودِ
والنَّصارَى أولياءَ في شريعتِنا،
فقالَ:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ْ}:
يرشدُ تعالَى عبادَهُ المؤمنينَ حينَ بيَّن لهُم أحوالَ
اليهودِ والنَّصارَى، وصفاتِهِم غيرَ الحسنةِ، أنْ لا يتَّخذُوهُم أولياءَ.
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }:
فإنَّ بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ- فلا شكَّ أنَّ ملَّةَ
الكفرِ واحدةٌ-
يتناصَرُون فيما بينَهُم، ويكونُون يدًا على من سواهُم،
فأنتُم لا تتَّخذُوهُم أولياءَ،
فإنَّهُم الأعداءُ على الحقيقةِ، ولا يبالُون بضرِّكُم،
بل لا يدَّخرُون من مجهودِهِم شيئًا على إضلالِكُم،
فلا يتولَّاهُم إلا من هو مثلُهُم،
ولهذا قالَ:
{ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }:
وهذه شهادةٌ من اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى،
فالحذرَ من عقيدةِ الولاءِ والبراءِ،
فلا نوالِيَ إلَّا من يوالِي اللهَ سُبحانَهُ وتعالَى،
ولا نعادِيَ إلا من يعادِيَ اللهَ ورسولَهُ.
لأنَّ التولِّيَ التامَّ يوجبُ الانتقالَ إلى دينِهِم.
والتولِّي القليلُ يدعُو إلى الكثيرِ، ثم يتدرَّجُ شيئًا
فشيئًا، حتى يكونَ العبدُ منهُم.
وبالذَّاتِ عيدِ الكريسماس، حيثُ بعضُ النَّاسِ يهنِّئُون
بهذا العيدِ، وهو عيدُ الكفَّارِ،
فهذا يدخلُ في قولِهِ عزَّ وجلَّ:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ }
[ المائدة: 51 ]
{ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
وأمورٌ كثيرةٌ أخرَى، فأيُّ أمرٍ هو من الكفَّارِ ينبغِي
أنْ لا ينطليَ علينا،
نحنُ لنا أمورُنا وشريعتُنا وحياتُنا الخاصَّةُ، ولا
نتبعُهُم في أيِّ أمرٍ كانَ.
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }:
أي: الذين وصْفُهُم الظُّلمُ، وإليه يَرجِعُون، وعليهِ
يعولُون.
يقولُ اللهُ
تَعالَى:
( فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ
فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) ( 52)
ولمَّا نهَى اللهُ المؤمِنين عن تولِّيهِم، أخبرَ أنَّ
ممَّن يدَّعِي الإيمانَ طائفةً تُوالِيهِم،
فقالَ:
{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }:
وصفَهُم اللهُ بالمرضِ، أي: شكٌّ ونفاقٌ، وضعفُ إيمانٍ،
فلماذا يواليهُم البعضُ؟
البعضُ يواليهم خوفًا منْهُم،
والبعضُ إعجابًا بهِم،
وليسَ لديهِم يقينٌ باللهِ تَعالَى، ودينِهِ، وأنَّ
اللهَ هو الذي يتولَّاهُ، وهو ناصرُهُ سُبحانَهُ.
يقولون: إنَّ تولِّينا إيَّاهم للحاجةِ، فإنَّنا:
{ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ }:
أي: تكونُ الدَّائرةُ لليهودِ والنَّصارَى،
فإذا كانَتِ الدَّائرةُ لهُم، فإذًا لنا معهم يدٌ يكافِؤُننا
عنْها،
جبنٌ وخوفٌ وهلعٌ!
وهذا سوءُ ظنٍّ منْهُم بالإسلامِ،
فهم غيرُ متأكِّدِين أصلًا أنَّ هذا هو الدِّينُ الحقيقُ.
وهذا أمرٌ خطيرٌ أن يشكِّكَ الإنسانُ في دينِهِ، خطيرٌ
على عقيدتِهِ،
فعليهِ التعوُّذُ من الشَّيطانِ، وقراءةُ المعوَّذاتِ.
قالَ تعالَى - رادًّا لظنِّهِم السيِّئِ:
{ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ }:
لا شكَّ أنَّ
{ فَعَسَى }:
تفيدُ حقيقةَ حدوثِ الأمرِ،
وهو الفتحُ الذي يعزُّ اللهُ به الإسلامَ على اليهودِ
والنَّصارَى، ويقهرُهُم المسلِمُون.
{ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ }:
ييأسُ به المنافِقُونَ من ظفرِ الكافرينَ من اليهودِ
وغيرِهم.
{ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا }:
أي: أضمَرُوا
{ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ }:
على ما كانَ منْهُم، وضرّهُم بلا نفعٍ حصلَ لهُم،
فحصلَ الفتحُ الذي نصرَ اللهُ عزَّ وجلَّ به الإسلامَ
والمسلِمِين، وأذلَّ به الكفرَ والكافِريِن،
فندمُوا وحصلَ لهُم من الغمِّ، ما اللهُ به عليمٌ.
وفعلًا
فقد أظهرَ اللهُ في فتحِ مكَّةَ الحقَّ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ۚ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ) ( 53)
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا }:
متعجِّبينَ من حالِ هؤلاءِ الذينَ في قلوبِهم مرضٌ:
{ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ }:
أي: هؤلاءِ الذين حلفُوا وأكَّدُوا حلفَهُم، وغلَّظُوهُ
بأنواعِ التَّأكيداتِ:
إنَّهُم لمعكُم في الإيمانِ، وما يلزمُهُ من النُّصرةِ
والمحبَّةِ والمُوالاةِ،
ظهرَ ما أضمرُوهُ، وتبيَّنَ ما أسرُّوهُ،
وصار َكيدُهُم الذي كادُوهُ، وظنُّهُم الذي ظنُّوهُ
بالإسلامِ وأهلِهِ -باطلًا.
{ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم }:
بطلَتْ أعمالُهُم وكيدُهُم في الدُّنيا
{ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }:
حيثُ فاتَهُم مقصودُهُم، وحضرَهُم الشَّقاءُ والعذابُ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ ) ( 54)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن
دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }:
يخبرُ تعالَى أنَّهُ الغنيُّ عن العالَمِين،
وأنَّهُ من يرتدُّ عن دينِهِ فلنْ يضرَّ اللهَ شيئًا،
وإنَّما يضرُّ نفسَهُ.
وأنَّ للهِ عبادًا مخلِصينَ، ورجالًا صادِقين،
قد تكفَّلَ الرَّحمَنُ الرَّحيمُ بهدايتِهِم، ووعدَ
بالإتيانِ بهِم،
وأنَّهم أكملُ الخلقِ أوصافًا، وأقواهُم نفوسًا، وأحسنُهُم
أخلاقًا.
أجلُّ صفاتِهِم، أنَّ اللهَ:
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }:
فإنَّ محبَّةَ اللهِ للعبدِ هي أجلُّ نعمةٍ أنعمَ بها
عليهِ، وأفضلُ فضيلةٍ، تفضَّلَ اللهُ بها عليهِ،
وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا يسَّرَ لهُ الأسبابَ، وهوَّنَ
عليه كلَّ عسيرٍ،
ووفَّقَهُ لفعلِ الخيراتِ، وتركِ المنكراتِ،
وأقبلَ بقلوبِ عبادِهِ إليهِ بالمحبَّةِ والودادِ.
ومن لوازمِ محبَّةِ العبدِ لربِّهِ،
أنَّهُ لابدَّ أنْ يتَّصفَ بمتابعةِ الرسولِ صلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ظاهرًا وباطنًا، في أقوالِهِ وأعمالِهِ وجميعِ أحوالِهِ،
كما قالَ تَعالَى:
{ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }
كما أنَّ منْ لازِمِ محبةِ اللهِ للعبدِ،
أن يكثرَ العبدُ من التقرُّبِ إلى اللهِ بالفرائضِ
والنوافلِ،
كما قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الحديثِ
الصَّحيحِ، عن اللهِ:
" وما تقرَّبَ إليَّ عبدِي بشيءٍ أحبُّ إليَّ مما
افترضْتُ عليهِ،
ولا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ
حتى أُحبَّهُ،
فإذا أحببْتُهُ كنْتُ سمعَهُ الذي يسمعُ بهِ، وبصرَهُ
الذي يبصرُ بهِ، ويدَهُ التي يبطشُ بها، ورجلَهُ التي يمشِي بها،
ولئِنْ سألَني لأعطِيَنَّهُ، ولئِنْ استعاذَني لأُعيذَنَّه".
ومن لوازمِ محبَّةِ اللهِ،
معرفتُهُ تعالَى، ومعرفةُ أسمائِهِ وصفاتهِ، والإكثارُ
من ذكرِهِ،
فإنَّ المحبَّةَ بدونِ معرفةٍ باللهِ ناقصةٌ جدًا، بل
غيرُ موجودةٍ، وإنْ وُجدَتْ دَعْوَاها.
فكيف تحبُّ منْ لا تعرفُهُ؟
تريدُ محبَّةَ ربِّكَ، إذن اعرفْهُ حقَّ المعرفةِ،
افهمْ أسماءَهُ وصفاتَهُ، وتأمَّلْها!
ومن أحبَّ اللهَ، أكثرَ من ذكرِهِ،
وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا، قبلَ منْهُ اليسيرَ منَ العملِ،
وغفرَ لهُ الكثيرَ من الزَّللِ.
اللهُ أكبرُ!
ومنْ صفاتِهِم أنَّهُم:
{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ }:
فهُم للمؤمِنين أذلَّةٌ من محبَّتِهِم لهُم، ونُصحِهِم
لهُم، ولينِهِم ورفقِهِم ورأفتِهِم، ورحمتِهِم بهِم وسهولةِ جانبِهِم، وقربِ الشَّيءِ
الذي يطلبُ منهُم،
لا يتقّوَّون على المؤمِنين، ولا يسخَرُون منْهُم.
فبطشُهُم دائمًا على الكفَّارِ،
هُم على الكافرِين باللهِ، المعانِدين لآياتِهِ، المكذِّبِين
لرسلِهِ - أعزَّةٌ،
قد اجتمعَتْ هممُهُم وعزائمُهُم على معاداتِهِم،
وبذلُوا جهدَهُم في كلِّ سببٍ يحصلُ به الانتصارُ عليهِم،
لا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ!
الآنَ نجدُ في زمانِنا، من يتتبَّعُ المناهجَ،
مسلمِين إخوانهُم، لكنْ هذا يتبعُ كذا، وذاك يتبعُ كذا،
أمورٌ تٌؤلمٌ وتُحزنُ،
وهي ليسَتْ من صفاتِ المؤمنينَ.
فليتَهُم يضعُون قلمَهُم السيَّارَ على الكفَّارِ،
ويضعُون حجَّتَهُم على اليهودِ والنَّصارَى بدلًا من
وضعِها على إخوانِهِم المؤمِنينَ، الذين لا يريدُون إلا نصرَ هذا الدِّينِ.
حتَّى لو تغيَّرَ أسلوبُكَ عن أسلوبِهِ، أو منهجُكَ عن
منهجهِ،
الشَّيخُ الفلانيُّ يتبعُ المنهجَ الفلانيَّ، وذاكَ
يتبعُ منهجًا آخرَ،
وكأنَّهُم يتكلَّمُون عن يهودٍ ونصارَى، وليسَ عن مُؤمِنين،
واللهِ إنَّا نخشَى عليهِم!
فصفاتُ المؤمِنينَ أنَّهُم:
{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ }:
فضعْ قوَّتَكَ وجهدَكَ ولسانَكَ وقلمَكَ وجهادَكَ على
الكفَّارِ،
وليسَ على إخوانِكَ المؤمنِين، ممنَّ يعملُ جاهدًا إلى
نصرِ هذا الدِّينِ،
أيًّا كان أسلوبُهُ، أو موقفُهُ، أو تصرُّفهُ.
فمنْ يحاسبُ إلَّا اللهَ سُبحانَهُ جلَّ وعَلا!
لا تشغلْ نفسَكَ بهذه الأمورِ!
{ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }
فالغِلظةُ والشِّدَّةُ على أعداءِ اللهِ،
ممَّا يقرِّبُ العبدَ إلى اللهِ، ويوافقُ العبدُ ربَّهُ
في سخطِهِ عليهِم،
ولا تمنعُ الغِلظةُ عليهِم والشِّدَّةُ، دعوتَهُم إلى
الدِّيِن الإسلاميِّ بالتي هي أحسنُ.
فتجتمعُ الغِلظةُ عليهِم، واللِّينُ في دعوتِهِم،
وكلا الأمرَينِ من مصلحتِهِم، ونفعُهُ عائدٌ إليهِم.
{ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }:
بأموالِهِم وأنفسِهِم، بأقوالِهِم وأفعالِهِم في سبيلِ
اللهِ،
لا يريدُون إلا اللهَ ونصرَ دينِهِ،
وليسَ في سبيلِ الشَّيطانِ، وإرضاءِ الخلقِ، ولكثرةِ
الأتْباعِ.
{ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ }:
بل يقدِّمون رضَا ربِّهِم، والخوفَ من لومِهِ، على لومِ
المخلُوقِين،
وهذا يدلُّ على قوَّةِ هممِهِم وعزائمِهِم،
فإنَّ ضعيفَ القلبِ ضعيفُ الهمَّةِ،
تنتقضُ عزيمتُهُ عند لومِ اللائِمين، وتفترُ قوَّتُهُ
عند عذلِ العاذِلين.
نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!
لا شكَّ أنَّ هذه صفاتٌ يعطيها اللهُ عزَّ وجلَّ من
يحبُّ سُبحانَهُ جلَّ وعَلا،
اللهُمَّ اجعلْنا منهُم يا ذا الجلالِ والإكرامِ!
لا شكَّ أنَّ هذا فضلٌ من اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ.
فقالَ:
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }:
أي: واسعُ الفضلِ والإحسانِ، جزيلُ المِنَنِ،
قد عمَّتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ،
ويوسعُ على أوليائِهِ من فضلِهِ، ما لا يكونُ لغيرهِم،
ولكنَّهُ عليمٌ بمن يستحقٌّ الفضلَ فيعطِيهِ،
فاللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَهُ، أصلًا وفرعًا.
اللهُمَّ لا تحرمْنا بسوءِ ما عندَنا،
اللهُمَّ لا تحرمْنا فضلَكَ ورحمتَكَ يا ربِّ، يا ذا
الجلالِ والإكرامِ!
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ( 55)
أتَى اللهُ بشعائرَ عظيمةٍ،
لم يقلْ المنهجَ الفلانيَّ، ولم يقلْ أمورًا تافهةً، أو
كتابةَ مقالٍ عن الشَّيخِ الفلانيِّ،
فقالَ ما دامَتِ الصَّلاةُ والزَّكاةُ والأصولُ تجمعُكُم،
فلا داعيَ لاختلافِكُم في الفروعِ،
ولا داعيَ أنْ تجعلُوا جهادَكُم في إخوانِكُم المؤمِنينَ.
فلمَّا نهَى عنْ ولايةِ الكفَّارِ منَ اليهودِ والنَّصارَى
وغيرِهِم،
وذكرَ مآلَ تولِّيهِم، أنَّهُ الخسرانُ المُبينُ،
أخبرَ تَعالَى مَن يجبُ ويتعيَّنُ تولِّيهِ، وذكرَ
فائدةَ ذلكَ ومصلحتَهُ.
مع الأسفِ الشَّديدِ نجدُ منَ النَّاسِ من يوالِي الكفَارَ
وينصرُونَهُم،
بل ربَّما يعادُون إخوانَهُم المُؤمنِين،
ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ!
وهذا لا شكَّ أنَّهُ ينقضُ عقيدةَ الولاءِ والبراءِ.
فقالَ:
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ْ}:
فولايةُ اللهِ تُدركُ بالإيمانِ والتَّقوَى.
فكلُّ منْ كانَ مؤمِنًا تقيًّا كانَ للهِ وليًّا،
ومن كانَ وليًّا للهِ فهو وليٌّ لرسولِهِ،
ومنْ تولَّى اللهَ ورسولَهُ كانَ تمامُ ذلكَ تولِّي منْ
تولَّاهُ،
وهُم المُؤمِنُون الذين قامُوا بالإيمانِ ظاهرًا وباطنًا،
وأخلصُوا للمعبودِ، بإقامتِهِم الصَّلاةَ بشروطِها
وفروضِها ومكمِّلاتِها،
وأحسنُوا للخلقِ، وبذلُوا الزَّكاةَ منْ أموالِهِم لمُستَحقِّيها
منْهُم.
فأداةُ الحصرِ في قولِهِ:
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا }:
تدلُّ على أنَّهُ يجبُ قصرُ الولايةِ على المذكُورِين،
والتَّبرِّي من ولايةِ غيرِهِم.
وقولُهُ:
{ وَهُمْ رَاكِعُونَ }:
أي: خاضِعُونَ للهِ ذليلُونَ.
ثمَّ
ذكرَ فائدةً في هذهِ الولايةِ:
فقالَ
اللهُ تَعالَى:
( وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (
56)
{ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ْ}:
أي: فإنَّه منَ الحزبِ المُضافينَ إلى اللهِ، إضافةَ
عبوديَّةٍ وولايةٍ،
وحزبُهُ همُ الغالِبُون الذين لهُم العاقبةُ في الدُّنيا
والآخرةِ،
كما قالَ تعالَى:
{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }:
وهذهِ بشارةٌ عظيمةٌ، لمن قامَ بأمرِ اللهِ، وصارَ من
حزبِهِ وجندِهِ،
أنَّ لهُ الغلبةَ،
وإنْ أُديلَ عليهِ في بعضِ الأحيانِ لحكمةٍ يريدُها
اللهُ تعالَى، فآخرُ أمرِهِ الغلبةُ والانتصارُ،
ومن أصدَقُ من اللهِ قيلًا!
اللَّهُمَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اجعلْنا ممَّنْ:
{ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ }
اللَّهُمَ اجعلْنا منْ أوليائِكَ!
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( 57)
ينهَى عبادَهُ المؤمِنينَ عن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ منَ
اليهودِ والنَصارَى ومنْ سائرِ الكفَّارِ أولياءَ يحبُّونَهُم ويتولَّونَهُم،
ويبدُون لهُم أسرارَ المُؤمنِين،
ويعاونُونَهُم على بعضِ أمورِهِم التي تضرُّ الإسلامَ
والمسلمِينَ،
وأنَّ ما معَهُم منَ الإيمانِ يوجبُ عليهِم تركَ موالاتِهِم،
ويحثُّهُم على معاداتِهِم،
وكذلك التزامُهُم لتقوَى اللهِ،
التي هي امتثالُ
أوامرِهِ واجتنابِ زواجرِهِ ممَّا تدعُوهُم إلى معاداتِهِم،
وكذلكَ ما كانَ عليهِ المشرِكُون والكفَّارُ المُخالِفُون
للمسلِمِين، من قدحِهِم في دينِ المُسلمِين،
واتِّخاذِهِم إيَّاهُ هزُوًا ولعبًا، واحتقارَهُ
واستصغارَهُ.
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى
آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق