بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجه الثالث
عشر من سورة المائدة
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى
الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا
يَعْقِلُونَ ) ( 58)
لمَّا نهى الله سُبحانَهُ وتَعالَى عبادَهُ المؤمِنينَ،
عن اتِّخاذِ أهلِ الكتابِ من اليهودِ والنَّصارَى، ومن
سائرِ الكفارِ، أولياءَ يحبُّونَهم ويتولَّونَهم،
لمَّا نهَى اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى عن موالاتِهِم،
لأنَّها تضرُّ الإسلامَ والمسلمينَ،
أمرَهُم اللهُ عزَّ وجلَّ بالتزامِهِم لتقوَى اللهِ،
التي هي امتثالُ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهِيهِ.
قالَ :
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا
هُزُوًا وَلَعِبًا }:
يعني من الأسبابِ لعدمِ موالاتِهم،
فكيفَ توالُوهم، وهذهِ صلاتُكُم، ركيزةُ دينِكِم، كانوا
يتَّخذونَها هُزُوًا ولعبًا،
كذلكَ ما كانَ عليهِ المشرِكُون والكفارُ المخالِفُون
للمُسلِمينَ،
من قدحِهِم في دينِ المسلِمِين، واتخاذِهِ هزوًا ولعبًا،
واحتقارِهِ واستصغارِهِ،
خصوصًا الصَّلاةُ التي هيَ أظهرُ شعائرِ المسلمينَ،
وأجلُّ عباداتِهِم،
أنَّهُم إذا نادُوا إليها، اتَّخذَوها هُزُوًا ولعبًا،
ما السَّببُ ؟
ذكرَ اللهُ السَّببَ:
{ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ }:
وذلكَ لعدمِ عقلِهِم، ولجهلِهِم العظيمِ،
فهمْ لا يُفكِّرون، ولا يُعمِلُون عقولَهُم، لا يفهَمُون،
لا يُدرِكون،
وإلَّا فلو كانَ لهُم عقولٌ لَخضَعُوا لها،
ولَعلِمُوا أنَّها أكبرُ من جميعِ الفضائلِ التي تتَّصِفُ
بها النُّفوسُ.
فإذا علمْتُم -أيها المؤمِنُون- حالَ الكفَّارِ، وشدَّةَ
معاداتِهِم لكُم، ولدينِكُم،
فمن لمْ يُعادِهِم بعدَ هذا، دلَّ على أنَّ الإسلامَ
عندَهُ رخيصٌ أصلًا، ليسَ بغالٍ،
فهوَ يُوالِي الكفَّار، ولا يُبالِي بمنْ قدحَ فيهِ، أو
قدحَ بالكفرِ والضَّلالِ،
وأنَّهُ ليسَ عندَهُ منَ المروءةِ والإنسانيَّةِ شيءٌ.
فكيفَ تدَّعِي لنفسِكَ دينًا قيِّمًا، وأنَّهُ الدِّينُ
الحقُّ، وما سِواهُ باطلٌ،
وترضَى بموالاةِ من اتَّخذَهُ هُزُوًا ولعبًا، وسخرَ بهِ
وبأهلِهِ، من أهلِ الجهلِ والحُمقِ؟!
وهذا فيهِ من التَّهييجِ على عداوتِهِم، ما هوَ معلومٌ
لكلِّ من لهُ أدنَى مفهومٍ.
وهذا - أيَّها الإخوةُ- نجدْهُ الآنَ في القنواتِ،
بعضُ النَّاسِ يستهزئُ بشعائرِ الإسلامِ، ويسخرُ منها،
سواءً من الحجابِ، أو الصَّلاةِ، أو غيرِها من الأمورِ
الكثيرةِ.
أينَ هؤلاءِ من الدِّينِ؟!
المشكلةُ أنَّ بعضَهُم من المُسلِمينَ، ويَدَّعُون أنَّهُم
من الإسلامِ.
ولا شكَّ أنَّ الطَّعنَ الدَّاخليَّ أخطرُ من الطَّعنِ
الخارجيِّ،
فالمنافِقُون الذينَ بينَنا، في الدَّاخِلِ، هم أخطرُ
ممَّنْ همْ في الخارجِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) ( 59)
لماذا تنقِمُون منَّا، وتعامِلُونا بهذهِ الطَّريقةِ؟
فكلُّ هذهِ النِّقَمِ، فقطْ لأنَّنا آمنَّا باللهِ،
وليسَ لأنَّكَ فلانٌ، وذاكَ فلانٌ،
بل ينقِمُون منَّا بسببِ دينِنا، دينِ الإسلامِ!
{ قُلْ }:
يا أيُّها الرَّسولُ!
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ }:
مُلزِمًا لهُم، إنَّ دينَ الإسلامِ هو الدِّينُ الحقُّ،
وإنَّ قدحَهُم فيهِ، قدحٌ بأمرٍ ينبغِي المدحُ عليهِ:
{ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فَاسِقُونَ ْ}:
يُفترضُ أنَّكُم تمدحُوننا على هذَا،
فنحنُ آمنَّا باللهِ تَعالَى،
{وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا }:
أيْ: القُرآنُ
{ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ }:
نحنُ آمنَّا بكتبِكُم أنتُم، ولم نكفُرْ بِها،
أي: هل لنا عندَكُم من العيبِ إلَّا إيمانَنا باللهِ،
وبكتبِهِ السَّابقةِ واللَّاحقةِ، وبأنبيائِهِ المُتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ،
وبأنَّنا نجزمُ أنَّ منْ لم يؤمنْ كهذا الإيمانِ، فإنَّهُ
كافرٌ فاسقٌ؟!
فهل تنقِمُون منَّا بهذا، الذي هوَ أوجبُ الواجباتِ على
جميعِ المكلَّفِين؟
{ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }:
ومع هذا فأكثرُكُم فاسِقُونَ،
أي: خارِجُون عن طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، متجرِّؤُون
على معاصِيهِ،
فَأولَى لكُم -أيها الفاسِقُون- السُّكُوتُ،
فلو كانَ عيبُكُم، وأنتُم سالِمُون من الفسقِ -وهيهاتَ
ذلكَ -
لكانَ الشرُّ أخفَّ من قدحِكُم فينا مع فسقِكُم.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم
بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ
عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ
أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) ( 60)
ولمَّا كانَ قدحُهُم في المؤمنينَ يقتضِي أنَّهُم يعتقدُون
أنَّهُم علَى شرٍّ،
قال اللهُ تَعالَى:
{ قُلْ }:
لهُمْ مُخبِرًا عن شناعةِ ما كانُوا عليهِ:
{ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ ْ}:
هل أخبرُكُم بشرٍّ من ذلكَ؟ الذي نقمْتُم فيهِ علينا،
مع التنزُّلِ معَكُم.
{ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ }:
أي: أبعدَهُ عن رحمتِهِ سُبحانَهُ وتعالَى
{ وَغَضِبَ عَلَيْهِ }:
وعاقبَهُ في الدُّنيا والآخرةِ
{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ }:
وهوَ الشَّيطانُ،
وكل ما عُبِدَ من دونِ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى،
وعُظِّمَ، وهو راضٍ، فهو طاغوتٌ.
{ أُولَئِكَ }:
المَذكُورونَ بهذهِ الخصالِ القبيحةِ
{ شَرٌّ مَّكَانًا }:
من المؤمنينَ،
الذينَ رحمةُ اللهِ قريبٌ منْهُم، ورضيَ اللهُ عنْهُم،
وأثابَهُم في الدُّنيا والآخرةِ،
لأنَّهُم أخلصُوا لهُ الدِّينَ.
وهذا النوعُ من بابِ استعمالِ أفعُلِ التفضيلِ في غيرِ
بابِهِ.
{ وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ }:
أي: وأبعدُ عن قصدِ السَّبيلِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا
آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ۚ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) ( 61)
{ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا }:
ما قصدُهُم، وغايتُهُم، وهدفُهُم من قولِهِم آمنَّا ؟!
نفاقًا ومكرًا
{ و }:
هُمْ
{ قد دَّخَلُوا }:
مشتَمِلينَ على الكفرِ
{ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ }:
فمدخَلُهم ومخرجَهُم بالكفرِ -
وهم يزعُمون أنَّهُم مُؤمِنون،
فهلْ أشرُّ من هؤلاءِ، وأقبحُ حالًا منهُم؟
{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ }:
فيجازيَهُم بأعمالِهِم، خيرِها وشرِّها.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَتَرَىٰ كَثِيرًا
مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ۚ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( 62)
ثمَّ استمرَّ تَعالَى يعدِّدُ معايِبَهم،
انتصارًا لقدحِهِم في عبادِهِ المؤمِنينَ،
فاللهُ تَعالَى ينتصرُ لعبادِهِ المُؤمِنين، ويحبُّهُم،
فقالَ:
{ وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ }:
أي: من اليهودِ
{ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }:
أي: يحرِصُون، ويبادِرُون المعاصيَ المتعلِّقةَ في حقِّ
الخالقِ، والعُدوانِ على المخلُوقِين.
{ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ }:
الذي هو الحرامُ.
فلم يكتفِ بمجرَّدِ الإخبارِ أنَّهم يفعلونَ ذلكَ،
حتَّى أخبرَ أنَّهم يُسارِعُون فيهِ،
وهذا يدلُّ على خبثِهِم وشرِّهِم، وأنَّ أنفسَهُم
مجبولةٌ على حبِّ المعاصِي والظلمِ.
هذا وهمْ يدَّعُون لأنفسِهِم المقاماتِ العاليةَ،
والأماكنَ الرَّفيعةَ.
{ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }:
وهذا في غايةِ الذمِّ لهُمْ، والقدحِ فيهِم.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( لَوْلَا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( 63)
{ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن
قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ْ}:
أي: هلاَّ ينهَاهُم العلماءُ المُتَصدُّونَ لنفعِ النَّاسِ،
الذينَ منَّ اللهُ عليهِم بالعلمِ والحكمةِ -
عنِ المعاصِي التي تصدرُ منهُم،
ليزولَ ما عندَهُم من الجهلِ، وتقومُ حجَّةُ اللهِ عليهِم.
فإنَّ العلماءَ، عليهِم أمرُ النَّاسِ، ونهيُهُم،
وأنْ يبيِّنوا لهم الطَّريقَ الشَّرعيَّ،
ويرغِّبُونَهم في الخيرِ، ويرهِّبُونَهم من الشَّرِّ.
{ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }!
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ
اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا
مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) ( 64)
يخبرُ تَعالَى عن مقالةِ اليهودِ الشَّنيعةِ، وعقيدَتِهِم
الفظيعةِ
فقالَ:
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }:
أي: عن الخيرِ والإحسانِ والبرِّ.
-كفانَا اللهُ شرَّهُم، حتَّى الله سُبحانَهُ جلَّ
وعَلا، لم يسلمْ منْهُم-
{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا }:
وهذا دعاءٌ من اللهِ تَعالَى عليهِم، بجنسِ مقالتِهِم.
فإنَّ كلامَهُم مُتضمِّنٌ لوصفِ اللهِ الكريمِ، بالبخلِ
وعدمِ الإحسانِ.
أنفسُهُم خبيثةٌ، والبخلُ يمشِي في عروقِهِم.
فجازاهُم بأنْ كانَ هذا الوصفُ منطبقًا عليهِم،
فكانوا أبخلَ الناسِ، وأقلَّهُم إحسانًا، وأسوأَهُم ظنًّا
باللهِ، وأبعدَهُم اللهُ تَعالَى عن رحمتِهِ،
التي وسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وملأَتْ أقطارَ العالمِ
العلويِّ والسُّفليِّ.
تغمَّدْنا برحمتِكَ يا اللهُ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ!
تَعالَى اللهُ عن ذلكَ عُلُوًّا، سُبحانَهُ جلَّ وعَلا!
اللهُمَّ لا إلهَ إلَّا أنتَ، سبحانَكَ إنَّا كنَّا منَ
الظَّالمِين!
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ
}:
لا حَجْرَ عليهِ، ولا مانعَ يمنعُهُ ممَّا أرادَ،
فإنَّهُ تَعالَى قد بسطَ فضلَهُ وإحسانَهُ الدِّينيِّ
والدُّنيويِّ،
وأمرَ العبادَ أن يتعرَّضُوا لنفحاتِ جودِهِ،
وأن لا يسدُّوا على أنفسِهِم أبوابَ إحسانِهِ بمعاصِيهِم.
فيداهُ سحاءُ اللَّيلِ والنَّهارِ، وخيرُهُ في جميعِ
الأوقاتِ مدرارًا،
يفرِّجُ كربًا، ويزيلُ غمًّا، ويغْني فقيرًا، ويفكُّ
أسيرًا، ويجبرُ كسيرًا، ويجيبُ سائلًا، ويعطِي فقيرًا عائلًا،
ويجيبُ المضطرِّينَ، ويستجيبُ للسَّائلينَ، وينعمُ على
من لمْ يسألُهُ، ويُعافي من طلبَ العافيةَ،
ولا يحرِمُ من خيرِهِ عاصِيًا، بل خيرُهُ يرتعُ فيه البَرُّ
والفاجِرُ،
ويجودُ على أوليائِهِ بالتَّوفيقِ لصالحِ الأعمالِ،
ثمَّ يحمدُهُم عليها، ويضيفُها إليهِم، وهي منْ جودِهِ،
ويثيبُهم عليها من الثَّوابِ العاجلِ والآجلِ،
ما لا يدركُهُ الوصفُ، ولا يخطرُ على بالِ العبدِ،
ويلطفُ بهِم في جميعِ أمورِهِم، ويوصلُ إليهِم منَ
الإحسانِ،
ويدفعُ عنهُم منَ النِّقمِ ما لا يشعرونَ بكثيرٍ منْهُ.
فسبحانَ منْ كُلُّ النِّعمِ التي بالعبادِ، فَمِنْهُ،
وإليهِ يجأرُون في دفعِ المكارهِ،
وتباركَ من لا يُحصِي أحدٌ ثناءً عليهِ، بل هوَ كما أثْنَى
على نفسِهِ،
وتَعالَى منْ لا يخلُو العبادُ من كرمِهِ طرفةَ عينٍ،
بل لا وجودَ لهمْ، ولا بقاءَ إلا بجودِهِ.
وقبَّح اللهُ من استغنَى بجهلِهِ عن ربِّهِ، ونسبَهُ
إلى ما لا يليقُ بجلالِهِ.
بلْ لو عاملَ اللهُ اليهودَ القائِلينَ تلكَ المقالةَ،
ونحوَهُم ممَّنْ حالُهُ كحالِهِم، ببعضِ قولِهِم، لهلكُوا، وشقَوا في دُنياهُم،
ولكنَّهم يقولونَ تلكَ الأقوالِ،
وهوَ تَعالَى، يحلمُ عنْهُم، ويصفحُ، ويمهلُهُم ولا يهمِلُهُم-
سُبحانَهُ.
{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا }:
وهذا أعظمُ العقوباتِ على العبدِ،
أن يكونَ الذِّكرُ الذي أنزلَهُ اللهُ على رسولِهِ،
الذي فيهِ حياةُ القلبِ والرُّوحِ، وسعادةُ الدُّنيا
والآخرةِ، وفلاحُ الدَّارَين،
الذي هو أكبرُ مِنَّةٍ امتنَّ اللهُ بها على عبادِهِ،
توجبُ عليهم المبادرةَ إلى قبولِها، والاستسلامَ للهِ
بها، وشكرًا للهِ عليها،
أنْ تكونَ لمثلِ هذا، زيادةَ غيٍّ إلى غيِّهِ، وطغيانٍ
إلى طغيانِهِ، وكفرٍ إلى كفرِهِ،
وذلك بسببِ إعراضِهِ عنْها، وردِّهِ لها، ومعاندتِهِ إيَّاها،
ومعارضتِهِ لها، بالشُّبَهِ الباطلةِ.
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }:
فلا يتآلفُون، ولا يتناصَرُون، ولا يتَّفِقُون على حالةٍ
فيها مصلحتُهُم،
بل لم يزالُوا مُتباغِضِين في قلوبِهِم، مُتعادِين
بأفعالِهِم، إلى يومِ القيامةِ.
{ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ }:
ليكيدُوا بها الإسلامَ وأهلَهُ، وأبدَوا وأعادُوا،
وأجلبُوا بخيلِهِم ورجلِهِم
{ أَطْفَأَهَا اللَّهُ }:
بخذلانِهِم، وتفرُّقِ جنودِهِم، وانتصارِ المسلمينَ
عليهِم.
{ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا }:
أي: يجتهِدُون ويجدُّون،
ولكنْ بالفسادِ في الأرضِ، بعملِ المعاصِي،
والدَّعوةِ إلى دينِهِم الباطلِ، والتَّعويقِ عن الدُّخولِ
في الإسلامِ.
{ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }:
بل يبغضُهُم أشدَّ البُغضِ،
وسيجازِيهِمُ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى على ذلكَ.
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ،
أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا من بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيّنا مُحمَّد وعلى
آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق