الاثنين، أغسطس 08، 2016

تفريغ سورة النساء من آية 52 الى آية 59

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ






الوجه الحادي عشر من سورة النساء
يقول الله تعالى :
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا)( 52 )
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي: طردَهم من رحمتِه, وأحلّ عليهم نقمَتَه. 

{ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } أي: لن تجد أحدًا يتولاهُ, ويقومُ بمصالحِه, ويحفظُه عن المكارهِ, وهذا غايةُ الخذلانِ- والعياذ بالله-.

يقول الله تعالى :
(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا)( 53 )
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ } أي: فيفضِّلون من شاؤُوا, على من شاؤوا, يختارون من يشاؤون, بمجردِ أهوائِهم، فيكونون شركاءَ للهِ في تدبيرِ المملكةِ،
فلو كانوا كذلك لشحُّوا, وبخلوا أشدَّ البخلِ،- والعياذ بالله - ولهذا قال: { فَإِذًا } أي: لو كان لهم نصيبٌ من الملكِ 
{ لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } أي: شيئًا, ولا قليلًا.
والنقيرُ: وصفٌ لهم بشدةِ البخلِ, على تقديرِ وجودِ مُلكِهم المشاركِ لملكِ اللهِ.

يقول الله تعالى :
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)( 54 )
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي: هل الحاملُ لهم على قولهم كونُهم شركاءَ لله, فيفضّلون من شاؤوا على من شاؤوا؟
أم الحاملُ لهم على ذلكَ, الحسدُ للرسول صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين, على ما آتاهُم اللهُ من فضلِه؟
وذلك ليسَ ببدعٍ ولا غريبٍ على فضلِ الله. 
{ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } وذلك ما أنعمَ اللهُ به على إبراهيمَ وذريته, من النبوةِ والكتابِ والملكِ, الذي أعطاهُ من أعطاهُ من أنبيائه كـ "داوود" و "سليمان" .
 فإنعامُه لم يزلْ مستمرًا على عبادِه المؤمنين.
فكيف يُنكرون إنعامَه بالنبوةِ والنصرِ والملكِ, لمحمدٍ صلى الله عليه وسلمَ, أفضلِ الخلقِ, وأجلِّهم, وأعظمِهم معرفةً باللهِ, وأخشاهِم له؟

يقول الله تعالى :
(فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا)( 55 )
{ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي: بمحمدٍ صلى الله عليه وسلمَ, فنالَ بذلكَ السعادةَ الدنيويةَ, والفلاحَ الأخرويَّ. 
{ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } عنادًا وبغيًا وحسدًا , فحصلَ لهم من شقاءِ الدنيا ومصائبِها, ما هو بعضُ آثارِ معاصيهم. 
{ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } تُسعَّر على من كفرَ باللهِ، وجحدَ نبوةَ أنبيائِه, سواءً من اليهودِ والنصارى وغيرِهم من أصنافِ الكفرةِ.

ولهذا يقول الله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا )( 56 )
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا } أي: عظيمةَ الوقودِ,  شديدةَ الحرارةِ. 
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي: احترقت 
{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } أي: ليبلغَ العذابُ منهم كلَّ مبلغٍ.
وكما تكرَّر منهُم الكفرُ والعنادُ, وصارَ وصفًا لهم وسجيةً؛ كرَّر عليهم العذابَ جزاءً وِفاقًا،
ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي: له العزةُ العظيمةُ,  والحكمةُ في خلقِه وأمرِه، وثوابِه وعقابِه.


يقول الله تعالى :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا )( 57 )
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي: باللهِ, وما أوجبَ الإيمانَ به 
{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } من الواجباتِ والمستحبّاتِ 
{ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي: من الأخلاقِ الرذيلةِ، والخلْقِ الذميمِ، ومما يكون من نساءِ الدنيا, من كلِّ دنسٍ وعيبٍ 
{ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا } أي : ظلًا عميقًا كثيرًا غزيرًا طيبًا أنيقًا.

يقول الله تعالى :
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)( 58 )
الأماناتُ : كلُّ ما اِئتُمِنَ عليه الإنسانُ, وأُمر بالقيامِ به.
فأمرَ اللهُ عبادَه بأدائها أي: كاملةً موفرةً، لا منقوصةً ولا مبخوسةً، ولا ممطولًا بها، ويدخلُ في ذلك أماناتُ الولاياتِ والأموالِ والأسرارِ؛ والمأموراتِ التي لا يطلعُ عليها إلا اللهُ.
وقد ذكر الفقهاءُ على أنَّ من اؤتُمنَ أمانةً, وجبَ عليه حفظُها, في حرزِ مثلِها.
قالوا: لأنه لا يمكن أداؤُها إلا بحفظِها؛ فوجبَ ذلك.
وفي قوله تعالى: { إِلَى أَهْلِهَا } دلالةٌ على أنها لا تُدفَع وتؤدّى لغير المُؤتمِن، ووكيلُه بمنزلتِه؛ فلو دفعها لغير ربِّها, لم يكن مؤديًا لها. 
{ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وهذا يشملُ الحكمَ بينهم في الدماءِ والأموالِ والأعراضِ، القليلِ من ذلك والكثيرِ، على القريبِ والبعيدِ، والبرِّ والفاجرِ، والوليِّ والعدوِّ.
 والمرادُ بالعدلِ, الذي أمر اللهُ بالحكمِ به, هو ما شرعه اللهُ على لسانِ رسولِه من الحدودِ والأحكامِ، وهذا يستلزمُ معرفةَ العدلِ ليحكمَ به.
ولمّا كانت هذه أوامرُ حسنةٌ عادلةٌ  قال: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وهذا مدحٌ من اللهِ, لأوامرِه ونواهِيه، لاشتمالِها على مصالحِ الدَّارين, ودفعِ مضارِّهما، لأنَّ شارعَها السميعُ البصيرُ الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، ويعلمُ بمصالحِ العبادِ, ما لا يعلمون.

يقول الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )( 59 )
ثم أمرَ بطاعتِه وطاعةِ رسولِه,  وذلك بامتثالِ أمرِهما، الواجبِ والمستحبِّ، واجتنابِ نهيِهما.
وأمر بطاعةِ أولي الأمرِ, وهم: الولاة ُعلى الناس، من الأمراءِ والحكامِ والمُفتين،
فإنه لا يستقيمُ للناسِ أمرُ دينِهم ودنياهم, إلا بطاعتِهم والانقيادِ لهم، طاعةً لله ورغبةً فيما عنده،
ولكن بشرطِ ألا يأمروا بمعصيةِ اللهِ، فإن أمروا بذلك, فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ.
ولعل هذا هو السرُّ في حذفِ الفعلِ, عند الأمرِ بطاعتِهم, وذكره مع طاعةِ الرسولِ،
فإنَّ الرسولَ لا يأمرُ إلا بطاعةِ اللهِ، ومنْ يطعْه فقدْ أطاعَ اللهَ،
وأما أولو الأمرِ, فشرطُ الأمرِ بطاعتِهم, أن لا يكون معصيةً.
ثم أمرَ بردِّ كلِّ ما تنازعَ الناسُ فيه, من أصولِ الدِّينِ وفروعِه, إلى اللهِ وإلى الرسولِ, أي: إلى كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه؛ فإن فيهما الفصلُ في جميعِ المسائلِ الخلافيةِ، إمّا بصريحِهما أو عمومِهما؛ أو إيماءٍ، أو تنبيهٍ، أو مفهومٍ، أو عمومِ معنىً يقاسُ عليه ما أشبهَه،
لأن كتابَ اللهِ وسنةَ رسولِه, عليهما بناءُ الدينِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ إلا بهما.
فالردُّ إليهما شرطٌ في الإيمانِ, فلهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } 
فدلَّ ذلك على أنَّ من لم يرُدَّ إليهما مسائلَ النزاعِ, فليسَ بمؤمنٍ حقيقةً، بل مؤمنٌ بالطاغوتِ، كما ذُكر في الآيةِ بعدها.
{ ذَلِكَ } أي: الردُّ إلى اللهِ ورسولِه 
{ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فإن حكمَ اللهِ ورسولِه, أحسنُ الأحكام وأعدلُها, وأصلحُها للناسِ, في أمرِ دينِهم ودنياهم وعاقبتِهم.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً, واجعل تفرقنا من بعده تفرّقا معصوماً, ولا تجعل معنا شقياً ولا محروماً.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعينِ.


                           

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق