بسم الله الرحمن الرحيم
الوجه الثاني عشر من سورة النساء .
يقول الله تعالى :
﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذينَ يَزعُمونَ أَنَّهُم آمَنوا بِما أُنزِلَ إِلَيكَ وَما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُريدونَ أَن يَتَحاكَموا إِلَى الطّاغوتِ وَقَد أُمِروا أَن يَكفُروا بِهِ وَيُريدُ الشَّيطانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالًا بَعيدًا﴾
هذا انكار من الله عز وجل على من يدعى ايمانه بما أنزل الله على رسوله وعلى انبيائه الاقدمين وهو مع ذلك يريد ان يتحاكم فى فصل الخصومات الى غير كتاب الله
وسنة رسوله .
كما ذكر فى سبب النزول بأن رجل من الانصار ورجل من اليهود تخاصما
فجعل اليهودى يقول بينى وبينك محمد , وذاك يقول بينى وبينك كعب بن الاشرف
, وقيل فى جماعة من المنافقين اظهروا الاسلام
ارادوا ان يتحاكموا الى حكام الجاهلية وقيل غير ذلك .
والاية أعمّ لذلك كله فانها عامّة لمن عدل عن حكم الكتاب والسنة وتحاكم الى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت
فى قوله :
﴿َ يُريدونَ أَن يَتَحاكَموا إِلَى الطّاغوتِ ﴾
وهذا أعوذ بالله ذم لهم أي كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت .
والحال انهم قد امروا ان يكفروا به والاصل ان نكفر به فكيف يجتمع هذا والايمان,
فان الايمان يقتضى الانقياد لشرع الله وتحكيمه فى كل امر من الامور .
فمن زعم انه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله فهو كاذب فى ذلك وهذا من اضلال الشيطان لهم ..
﴿ وَيُريدُ الشَّيطانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلالًا بَعيدًا﴾
اي ضلالا بعيدا عن الحق .
﴿وَإِذا قيلَ لَهُم تَعالَوا إِلى ما أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسولِ رَأَيتَ المُنافِقينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدودًا﴾
صد عظيم عن الحق.
ثم يقول الله تعالى :
(فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) (62)
﴿فَكَيفَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم ﴾
فكيف يكون حال هؤلاء الضالين .
﴿ٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم ﴾ من المعاصى ومن تحكيم الطاغوت .
﴿ ثُمَّ جاءوكَ ﴾ معتذرين لما صدر منهم .
ويقولون ﴿ِ إِن أَرَدنا إِلّا إِحسانًا وَتَوفيقًا﴾ أي ما قصدنا فى ذلك
الا الاحسان الى المتخاصمين والتوفيق بينهم .
وهم كذبه فى ذلك فان الاحسان كل الاحسان تحكيم الله ورسوله ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
ولهذا قال ﴿أُولئِكَ الَّذينَ يَعلَمُ اللَّهُ ما في قُلوبِهِم ﴾
أي من النفاق والقصد السيئ .
{ فَأَعرِض عَنهُم ﴾ أي لا تبال بهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه .
{ وَعِظْهُمْ } : أي بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب فى الانقياد لله والترهيب
من تركه.
﴿وَقُل لَهُم في أَنفُسِهِم قَولًا بَليغًا﴾ أي انصحهم سرا بينك وبينهم فانه انجح لحصول المقصود وبالغ فى زجرهم وقمعهم عما كانوا عليه وفى هذا دليل على ان مقترف المعاصى وان اعرض عنه فانه ينصح سرا ويبالغ فى وعظه بما يظن حصول المقصود به .
ثم قال الله تعالى :
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64)
﴿وَما أَرسَلنا مِن رَسولٍ إِلّا لِيُطاعَ بِإِذنِ اللَّهِ﴾
يخبر تعالى خبرا فى ضمنه الامر والحث على طاعة الرسول والانقياد له
وان الغاية من ارسال الرسل ان يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسل اليهم فى جميع ما امروا به ونهوا عنه وان يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع .
وفى هذا اثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله وفيما يأمرون به وينهون عنه لان الله امر بطاعتهم مطلقا ,
فلولا انهم معصومون لا يشرّعون ما هو خطأ لما امر بذلك مطلقا .
لهذا قال {َ بِإِذنِ اللَّهِ ﴾ أى الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره ففيه اثبات القضاء والقدر والحثّ على الاستعانه بالله وبيان انه لا يمكن للانسان - ان لم يعنه الله - ان يطيع الرسول .
نسأل الله الاعانه والتوفيق والتسديد والتيسير والتسهيل يا ذا الجلال والاكرام .
ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده ودعوته لمن اقترفوا السيئات ان يعترفوا وان يتوبوا وان يستغفروا الله عز وجل وان يتوبوا اليه وان يرجعوا اليه .
﴿ِوَلَو أَنَّهُم إِذ ظَلَموا أَنفُسَهُم جاءوكَ ﴾ معترفين بذنوبهم باخعين بها راجعين الى الله عز وجل .
﴿َ فَاستَغفَرُوا اللَّهَ وَاستَغفَرَ لَهُمُ الرَّسولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوّابًا رَحيمًا﴾ لتاب عليهم بمغفرته ظلمهم ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها .
وهذا المجئ الى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته لان السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون الا فى حياته وامّا بعد موته فانه لا يطلب منه شيئ بل ذلك شرك .
( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (65)
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } :
اقسم الله تعالى بنفسه الكريمة انهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم اى فى كل شيئ يحصل فيه اختلاف بخلاف مسائل الاجماع فانها لا تكون مستندة للكتاب
والسنة .
{ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ } :
ثم لا يكفى هذا التحكيم حتى ينتفى الحرج من قلوبهم والضيق وكونهم يحكّمونه على وجه الاغماض .
{ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } : ثم لا يكفى ذلك حتى يسلّموا لحكمه تسليما بانشراح صدورهم وطمأنينة نفوسهم وانقياد بالظاهر والباطن .
فالتحكيم في مقام الاسلام وانتفاء الحرج في مقام الايمان والتسليم في مقام الاحسان .
أي كونك تحكم الله ورسوله فأنت الان فى مقام الاسلام
واذا انتفى الحرج أي نفيت الحرج تماما فأنت فى مقام الايمان ..
واذا سلمت تمام التسليم أي فوضت امرك الى الله عز وجل أي سلمت للكتاب والسنة فانت فى مقام الاحسان ..
وهذة اعظم المراتب وهى مرتبة التسليم .
ثم نفي الحرج ثم بعدها التحكيم فمن استكمل هذه المراتب وكملها فقد استكمل مراتب الدين كلها ,
فمن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر.. ومن تركه مع التزامه فله حكم امثاله من العاصين .
روى البخاري عن عروة قال :
( خاصم الزبير رجلا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم اسقي يا زبير ثم أرسل الماء الى جارك فقال الانصاري يا رسول الله ان كان ابن عمتك ,فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال اسقي يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع الى الجدر ثم ارسل الماء الى جارك واستوعى النبى صلى الله عليه وسله للزبير حقه .
وفى صريح الحكم حين حفظه الانصاري وكان اشار عليهما بامر لهما فيه سعة
فقال الزبير فما احسب هذه الاية الا نزلت فى ذلك :
﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ﴾
نسال الله عز وجل ان نصل الى مرتبة الاحسان
نسال الله ان نصل الى مرتبة التسليم يا ذا الجلال والاكرام
اللهم اجعلنا يا حى يا قيوم ان نصل الى هذة المرحلة
هي مرحلة عظيمة هي مرحلة التسليم والاذعان لله عز وجل والانقياد لاوامره كامل الانقياد ,
هذة مرحلة عظيمة نسأل الله بمنه وكرمه ان يجذل المثوبة لنا فى هذة الساعات المباركة
ساعة بين الاذان الاول والاذان الثانى من يوم الجمعة
نسأله بمنه وكرمه ان يرزقنا التسليم يا ذا الجلال والاكرام .
اللهم انا نسالك مرتبة الاحسان اللهم اجعلنا فى عليين
اللهم اجعلنا مع الصديقين والشهداء والصالحين والمسلمين
يا ذا الجلال والاكرام ومن يستمع الى يا حى يا قيوم وذريتى يا ذا الجلال والاكرام
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد الا اله الا انت استغفرك واتوب اليك
اللهم اجعل هذا الاجتماع اجتماعا مرحوما واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما ولا تجعل معنا شقيا ولا محروما .
اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين .
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق