بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
التَّاسعُ من سورة الأنعام
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَمَا عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
) ( 69)
الآيةُ السَّابقةُ كانَتْ منهجًا في التَّعاملِ مع
الذين يخوضُون في آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ،
يخوضون في أمورٍ كبيرةٍ، في الشُّبهاتِ،
فالإعراضُ عنْهُم أولَى، حتّى يخوضُوا في حديثٍ غيرِهِ،
في الأمورِ الحاسمةِ العظيمةِ، أمورِ الدِّينِ، الشُّبهاتِ.
واللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى علَّمَنا المنهجيَّةَ والطَّريقةَ
معَهُم، إلّا أهل العلمِ الثَّابتِ.
وهذا النَّهيُ والتَّحريمُ، لمَنْ جلسَ معهُم، ولم
يستعملْ تقوَى اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى،
بأنْ كانَ يشاركُهُم في القولِ والعملِ المحرَّمِ، أو
يسكتُ عنهُم، وعنِ الإنكارِ،
فإنْ استعملَ تقوَى اللهِ عزَّ وجلَّ،
بأنْ كانَ يأمرُهُم بالخيرِ، وينهاهُم عنِ الشرِّ
والكلامِ الذي يصدرُ منهُم،
فيترتَّبُ على ذلكَ زوالُ الشَّرِّ أو تخفيفُهُ،
فهذا ليسَ عليهِ حرجٌ ولا إثمٌ.
ولهذا قالَ:
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }:
أي: ولكنْ ليذكِّرَهُم، ويعظَهُم، لعلَّهُم يتَّقُون
اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى.
وفي هذا دليلٌ علَى أنَّهُ ينبَغي أنْ يستعملَ
المذكِّرُ منَ الكلامِ،
ما يكونُ أقربَ إلى حصولِ مقصودِ التَّقوَى.
وفيه دليلٌ على أنَّهُ إذا كان التَّذكيرُ والوعظُ،
ممَّا يزيدَ الموعوظَ شرًّا إلى شرِّه،
إلى أنَّ تركَهُ هو الواجبُ،
لأنَّهُ إذا ناقضَ المقصودَ، كانَ تركُهُ مقصودًا.
فإذا حاولْت النَّهيَ، ولم تستطِعْ التَّغييرَ،
فلا تجلسْ معَهُم إلى الشرِّ.
إذا لم يكنْ لك أثرٌ واضحٌ،
بمعنى أنَّك حاولْت، ولكنْ لمْ يُؤخَذْ بكلامِك،
فالأَولَى القيامُ، حتى يخوضُوا في حديثٍ غيرهِ.
هذه منهجيَّةُ الشَّرعِ في الجلوسِ معْ أهلِ الباطلِ.
فإذا تغيَّر حديثُ النَّاسِ، واتَّقُوا اللهَ سُبحانَهُ
وتَعالَى،
فأولئكَ:
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ }:
{ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }:
لماذا نذكِّرُهُم؟ ما هي الثَّمرةُ؟
لعلَّهُم يتَّقُون.
فالتَّذكيرُ وسيلةٌ، والغايةٌ هي التَّقوَى.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ وَذَكِّرْ
بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ
وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا ۗ أُولَٰئِكَ
الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ۖ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) ( 70)
الآن لدينا فئةٌ أخرَى،
واللهُ عزَّ وجلَّ يُبيِّنُ منهجيَّةَ التَّعاملِ معهُم.
{ وَذَرِ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا }:
المقصودُ منَ العبادِ، أنْ يُخلِصوا للهِ عزَّ وجلَّ
الدِّيَن،
بأنْ يعبدُوه وحدَهُ لا شريكَ لهُ،
ويبذلُوا مقدورَهم في مرضاتِهِ ومحابِّهِ.
وذلك متضمِّنٌ لإقبالِ القلبِ على اللهِ، وتوجُّهِهِ
إليهِ،
وكونِ سعيِ العبدِ نافعًا، وجَدًّا، لا هزلًا،
وإخلاصًا لوجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا رياءً وسمعةً،
هذا هو الدِّينُ الحقيقيُّ، الذي يقالُ لهُ دينٌ.
فأمَّا منْ زعمَ أنَّهُ على الحقِّ، وأنَّهُ صاحبُ دينٍ
وتقوًى،
وقدْ اتَّخذَ دينَهُ لعبًا ولهوًا.
بأنْ لَهَا قلبُه عن محبَّةِ اللهِ ومعرفتِهِ، وأقبلَ
على كلِّ ما يضرُّهُ،
ولَهَا في باطلِهِ، ولعبَ فيهِ ببدنِهِ،
لأنَّ العملَ والسَّعيَ إذا كانَ لغيرِ اللهِ، فهو لعبٌ،
فهذا أَمَرَ الله تَعالَى أنْ يُترَكَ ويُحذرَ،
ولا يُغتَرَّ بهِ، وتُنظرَ حالُهُ، ويُحذَّرُ منْ أفعالِهِ،
ولا يُغتَرَّ بتعويقِهِ عمَّا يقرِّبُ إلى اللهِ عزَّ
وجلَّ.
{ وَذَكِّرْ بِهِ }:
أي: ذكِّرْ بالقرآنِ، ما ينفعُ العبادَ، أمرًا، وتفصيلًا،
وتحسينًا لهُ،
بذكرِ ما فيهِ من أوصافِ الحسنِ،
وما يضرُّ العبادَ نهيًا عنْهُ، وتفصيلًا لأنواعِهِ،
وبيانِ ما فيهِ منَ الأوصافِ القبيحةِ الشَّنيعةِ، الدَّاعيةِ
لتركِهِ،
وكلُّ هذا لئلَّا تُبسَلَ نفسٌ بما كسبَتْ،
أي: قبلَ اقتحامِ العبدِ للذُّنوبِ، وتجرُّئِهِ على علَّامِ
الغيوبِ، واستمرارِها على ذلكَ المرهُوبِ،
فذكِّرْها، وعظْها،
لترتدعَ وتنزجرَ، وتكفَّ عنْ فعلِها.
وقولُهُ:
{ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا
شَفِيعٌ }:
أي: قبلَ أنْ تحيطَ بها ذنوبُها،
ثمَّ لا ينفعُها أحدٌ من الخلقِ، لا قريبٌ ولا صديقٌ،
ولا يتولَّاها منْ دونِ اللهِ أحدٌ،
ولا يشفعُ لها شافعٌ.
{ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ }:
أي: تفتدِيَ بكلِّ فداءٍ، ولو بملءِ الأرضِ ذهبًا.
{ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا }:
أي: لا يُقبَلُ ولا يفيدُ.
{ أُولَئِكَ }:
الموصُوفُون بما ذُكِرَ
{ الَّذِينَ أُبْسِلُوا }:
أي: أُهلِكُوا وأَيِسوا منَ الخيرِ،
وذلكَ:
{ بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ }:
أي: والعياذُ باللهِ - ماءٌ حارٌّ قدْ انتهَى حرُّهُ،
يشوِي وجوهَهُم،
ويقطِّعُ أمعاءَهُم.
{ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }:
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا
بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي
الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ ) ( 71)
{ قُلْ }:
يا مُحَمَّدُ، قلْ يا أيُّها الرَّسولُ للمُشرِكيِن
باللهِ، الدَّاعِين معَهُ غيرَهُ،
الذين يدعونَكُم إلى دينِهِم،
مُبَيِّنًا وشارِحًا لوصفِ آلهتِهِم،
التي يكتفِي العاقلُ بذكرِ وصفِها، عنِ النَّهيِ عنْها،
فإنَّ كلُّ عاقلٍ إذا تصوَّرَ مذهبَ المُشرِكِين جزمَ
ببطلانِهِ،
قبلَ أنْ تقامَ البراهينُ على ذلكَ.
فقالَ:
{ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا
وَلَا يَضُرُّنَا }:
وهذا وصفٌ، يدخلُ فيه كلُّ مَن عُبِد مِنْ دونِ اللهِ
تَعالَى،
فإنَّهُ لا ينفعُ ولا يضرُّ، وليسَ لهُ منَ الأمرِ شيءٌ،
إنْ الأمرُ إلّا للهِ وحدَهُ.
{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا
اللَّهُ }:
أي: وننقلبُ بعدَ هدايةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لنا إلى الضَّلالِ،
ومنَ الرُّشدِ إلى الغيِّ،
ومن الصِّراطِ المُوصلِ إلى جنَّاتِ النَّعيمِ، إلى الطُّرقِ
التي تُفضِي بسالكِها إلى العذابِ الأليمِ
- والعياذُ باللهِ!
فهذهِ حالٌ لا يرتضِيها ذو رُشدٍ، وعقلٍ.
{ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ
}:
أي: أضلَّتْهُ وتيَّهَتْهُ عنْ طريقِهِ ومنهجِه الموصلِ
إلى مقصدِهِ.
فبقيَ:
{ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى
}:
والشَّياطينُ يدعونَهُ إلى الرَّدَى،
فبقيَ بينَ الدَّاعِيَين حائرًا.
وهذهِ حالُ النَّاسِ كلِّهِم، إلّا منْ عصمَهُ اللهُ تَعالَى،
فإنَّهُم يجدُون فيهِم جواذبَ ودواعيَ متعارِضةً:
- دواعي الرِّسالةِ والعقلِ الصَّحيحِ، والفطرةِ
المستقيمةِ:
{ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى }:
والصُّعودِ إلى أعلَى عليِّينَ.
- ودواعِيَ الشَّيطانِ، ومنْ سلكَ مسلكَهُ، والنَّفسُ
الأمَّارةُ بالسُّوءِ،
يدعونَهُ إلى الضَّلالِ، والنُّزولِ إلى أسفلِ سافلِينَ.
فمِنَ النَّاسِ منْ يكونُ معَ داعيَ الهُدَى، في أمورِهِ
كلِّها أو أغلِبها،
ومنْهُم منْ يكونُ مع داعيَ الضَّلالِ،
ومنْهُم منْ يتساوَى لديهِ الدَّاعِيان، ويتعارضُ عندَهُ
الجاذِبان.
وفي هذا الموضِع، تعرفُ أهلَ السَّعادةِ من أهلِ الشَّقاوةِ.
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }:
أي: ليسَ الهُدَى إلّا الطَّريقُ التي شرَعَها اللهُ
على لسانِ رسولِهِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
وما عداهُ، فهو ضلالٌ وردىً وهلاكٌ.
{ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }:
بأن ننقادَ لتوحيدِهِ، ونستسلمَ لأوامرِهِ ونواهِيهِ،
وندخلَ تحتَ رقِّ عُبوديَّتِهِ،
فإنَّ هذا أفضلُ نعمةٍ أنعمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها على
العبادِ، وأكملُ تربيةٍ أوصلَها إليهِم.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّقُوهُ ۚ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ( 72)
{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ }:
أي: وأمرَنا أنْ نقيمَ الصَّلاةَ
بأركانِها وشروطِها وسُنَنِها ومكَمِّلاتِها.
فالصَّلاةُ سببٌ وطريقٌ ووسيلةٌ
للإسلامِ والانقيادِ لربِّ العالَمِين.
{ وَاتَّقُوهُ }:
بفعلِ ما أمرَ بهِ، واجتنابِ ما نهَى
عنْهُ.
{ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ }:
أي: تُجْمَعون ليومِ القيامةِ،
فيجازيَكُم بأعمالِكُم، خيرِها وشرِّها.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ۚ
قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) ( 73 )
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ }:
ليأمرَ العبادَ وينهَاهُم، ويثيبَهُم ويعاقبَهُم،
{ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ }:
الذي لا مِريةَ فيهِ ولا شكَّ ولا مَثْنويَّةَ، ولا
يقولُ شيئًا عبثًا.
{ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ }:
أي: يومَ القيامةِ،
وقد خصَّهُ بالذِّكرِ –مع أنَّهُ مالكُ كلِّ شيءٍ
سُبحانَهُ جلَّ وعَلا-
لأنَّهُ تنقطعُ فيه الأملاكُ،
فلا يبقَى ملكٌ إلّا اللهُ الواحدُ القهَّارُ.
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ }:
الذي لهُ الحكمةُ التَّامةُ، والنِّعمةُ السَّابغةُ،
والإحسانُ العظيمُ،
والعلمُ المحيطُ بالسَّرائرِ والبواطنِ والخفَايا،
لا إلهَ إلّا هو، ولا ربَّ سواهُ.
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا
أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد
وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق