بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الوجهُ
العاشرُ من سورة الأنعام
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي
ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) ( 74)
والمقصودُ أنَّ ابراهيمَ عليهِ السَّلامُ، وعظَ أباهُ
في عبادةِ الأصنامِ،
وزجرَهُ عنْها ونهاهُ،
فلمْ ينتَهِ.
نأخذُ منْ هذا أنَّ الولدَ إذا رأَى من أمِّهِ وأبيهِ،
ما يكونُ فيهِ غضبٌ للهِ عزَّ وجلَّ،
أنْ يأمرَهُم بالمعروفِ، وينهَاهُم عن المنكرِ،
وهذا أشدُّ الإحسانِ إليهِما، بلْ أحبُّ البرِّ،
إذا رأيْتَ الوالدَ او الوالدةَ على منكرٍ، أنْ تناصحَهُما
بالمعروفِ.
{
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً }:
أي: أتتألَّهُ لصنمٍ تعبدُهُ منْ دونِ اللهِ
{ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ }:
أي: السالِكين مسلكَكَ
{ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }:
أي : تائِهِين، لا يهتدُون أين يسلكُون،
بلْ هُم في حيرةٍ وجهلٍ.
قالَ تَعالَى:
(
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا
يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ
الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ
إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ
وَلِيًّا )
[
مريم: 41 - 45 ]
فكانَ
إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ، يستغفرُ لأبيهِ مدَّةَ حياتِهِ،
فلمَّا
ماتَ على الشِّركِ، وتبيَّنَ إبراهيمُ ذلكَ،
رجعَ
عنِ الاستغفارِ لهُ، وتبرَّأَ منْهُ.
كما
قالَ اللهُ تَعالَى:
(
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ
مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ )
[
التوبة : 114 ]
وثبتَ
في الصَّحيحَين:
أنَّ
إبراهيمَ يلقَى أباهُ آزرَ يومَ القيامةِ،
فيقولُ
لهُ أبوهُ: يا بنيَّ، اليومُ لا أعصيكَ،
فيقولُ
إبراهيمُ:
أيْ
ربِّ، ألمُ تعدْني أنَّكَ لا تُخزِني يومَ يُبعثُون،
وأيُّ
خزيٍ أخزَى منْ أبِي الأبعدِ؟
انكشافُ
دلائلِ التَّوحيدِ على إبراهيمَ ووضوحُها،
فهو
ليسَ لديهِ أدنَى شكٍّ.
براهينُ
واضحةٌ، كانَ يتكلمُ بحجةٍ قويَّةٍ.
( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ
عَلَىٰ قَوْمِهِ )
[
الأنعام : 83 ]
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَكَذَٰلِكَ نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
) ( 75)
{
كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }:
أي: نبيِّنُ لهُ وجهَ الدَّلالةِ في نظرِهِ إلى خلقِهِما،
على وحدانيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، في ملكِهِ وخلقِهِ،
وإنَّهُ لا إلهَ غيرَهُ، ولا ربَّ سواهُ.
كقولِهِ:
( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ )
[ يونس: 101 ]
وقالَ:
( أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ
الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ )
[ سبأ: 9 ]
{ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ }:
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) ( 76)
{
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ }:
أي: تغشَّاهُ وسترَهُ
{
رَأَى كَوْكَبًا }:
أي: نجمًا
{
قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ }:
أي: غابَ.
{
قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ }:
قالَ قتادةُ: علمَ أنَّ ربَّهُ دائمٌ لا يزولُ.
هو يعرفُ ربَّهُ حقَّ المعرفةِ.
الذي يجادلُ، يعرفُ اللهَ حقَّ المعرفةِ،
أمَّا الذي لا يعرفُهُ، فلا يجادلُ أهلَ الباطلِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ
بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) ( 77)
{
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا }:
أي: طالعًا
{
قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ }:
فهو قدْ نسبَ الهدايةَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وطلبَها
وسألَهَا إيَّاهُ.
قالَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
" إذا سَأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا
اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهِ"
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ
بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا
قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( 78)
{
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي }:
أي هذا
المنيرُ الطَّالعُ، ربِّي.
{
هَذَا أَكْبَرُ }:
أي:
أكبرُ جُرمًا منَ النَّجمِ ومنَ القمرِ، وأكثرُ إضاءةً.
{
فَلَمَّا أَفَلَتْ }:
أي غابَتْ
{
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }:
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ) ( 79)
{
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا }:
الوجهةُ
والطَّريق ُكان واضحًا لابراهيمَ عليهِ السَّلامُ،
{
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ }:
أي
أخلصْتُ دينِي، وأفردْتُ عبادَتِي
{
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }:
أي :
خلقَهُما وابتدعَهُما على غيرِ مثالٍ سابقٍ.
{
حَنِيفًا }:
أي في
حالِ كَونِي حنيفًا، أي: مائلًا عنِ الشِّركِ إلى التَّوحيدِ;
{
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }:
قرارٌ
اتَّخذَهُ ابراهيم عليهِ السَّلامُ سابقًا، ولم يتنازلْ عنْهُ،
فالقراراتُ
الصَّعبةُ المفصليَّةُ في الحياةِ، منَ الصَّعبِ جدًا التَّنازلُ عنْها
هذا
مقامُ المناظرةِ.
والحقُّ
أنَّ ابراهيمَ عليهِ السَّلامُ كانَ في هذا المقامِ مناظِرًا لقومِهِ،
مبيِّنًا
لهُم بطلانَ ما كانوا عليهِ منْ عبادةِ الهياكلِ والأصنامِ،
فبيَّنَ
في المقامِ الأوَّلِ مع أبيهِ، خطأَهُم في عبادةِ الأصنامِ الأرضيَّةِ،
التي
هي على صورةِ الملائكةِ السماويَّةِ،
ليشفعوا
لهُم إلى الخالقِ العظيمِ،
الذين
هُم عندَ أنفسِهِم أحقرُ منْ أنْ يعبدُوا اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى،
وإنَّما
يتوسَّلُون إليهِ بعبادةِ ملائكتِهِ.
هم
كانوا يظنُّون أنَّهُم أحقرُ منْ أنْ يعبدُوا اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى مباشرةً،
فصوَّروا
أصنامًا على هيئةِ الملائكةِ،
وبدأوا
يتوسَّلُون بها لعبادةِ اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى،
ليشفعُوا
لهُم عندَهُ في الرِّزقِ والنَّصرِ،
وغيرِ
ذلك مما يحتاجُون إليهِ.
وللعلمِ
أيَّها الإخوةُ- قومُ ابراهيمَ لم يكونُوا قومًا جُهَّالًا،
بلْ
أهلُ منطقٍ وفلسفةٍ وعلمٍ.
وبيَّنَ
ابراهيمُ في هذا المقامِ خطأَهُم وضلالَهُم في عبادةِ الهياكلِ،
وهي
الكواكبُ السيَّارةُ السَّبعةُ المتحيِّرةُ،
وهي:
القمرُ، وعطاردُ، والزَّهرةُ، والشَّمسُ، والمرِّيخُ، والمُشتري، وزحلُ.
وأشدُّهُنَّ
إضاءةً، وأشرقُهُنَّ عندَهُم:
الشَّمسُ،
ثمَّ القمرُ، ثمَّ الزَّهرةُ.
فبيَّنَ
ابراهيمُ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ،
أوَّلًا
أنَّ هذهِ الزَّهرةً لا تصلحُ للإلهيَّةِ;
لأنَّها
مُسَخَّرةٌ مُقَدَّرةٌ بسيرٍ معيَّنٍ،
{ وَالشَّمْسُ
تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ *
لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
[ يس:
38 - 40 ]
لا
تزيغُ عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا تملكُ لنفسِها تصرُّفًا،
بل هيَ
جرمٌ منَ الأجرامِ،
خلقَها
اللهُ عزَّ وجلَّ مُنيرةً، لِما لهُ في ذلك منَ الحِكَمِ العظيمةِ،
وهي
تطلعُ منَ المشرقِ،
ثمَّ
تسيرُ فيما بيَّنَهُ وبينَ المغربِ، حتى تغيبَ عن الأبصارِ فيهِ،
ثمَّ
تبدو في اللَّيلةِ القابلةِ على هذا المنوالِ.
ومثلُ
هذهِ لا تصلحُ للإلهيَّةِ.
ثمَّ
انتقلَ إلى القمرِ، فبيَّنَ فيهِ مثلَ ما بيَّنَ في النَّجمِ.
ثمَّ انتقلَ إلى الشَّمسِ كذلكَ.
فلمَّا انتفَتِ الإلهيَّةُ عن هذهِ
الأجرامِ الثَّلاثةِ،
التي هي أَنْوَرُ ما تقعُ عليهِ
الأبصارُ،
وتحقَّقَ ذلكَ بالدَّليلِ القاطعِ:
{ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ }:
أي: أنا بريءٌ منْ عبادتِهِنِّ
وموالاتِهِنِّ،
فإنْ كانَتْ آلهةً، فكيدُوني بها
جميعًا ثمَّ لا تُنظِرونِ.
( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
)
أي: إنَّما
أعبدُ خالقَ هذه الأشياءِ ومخترعَها ومسخِّرَها ومقدِّرَها ومدبّرَها،
الذي
بيدِهِ ملكوتُ كلِّ شيءٍ، وخالقُ كلِّ شيءٍ وربُّهُ ومليكُهُ وإلهُهُ.
كما
قالَ تَعالَى:
(إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ
حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
[
الأعراف: 54 ]
منْ
الذي لهُ الخلقُ والأمرُ؟
اللهُ سُبحانَهُ
جلَّ وعَلا،
وهذا
توحيدُ الرُّبوبيَّةِ.
يقولُ
اللهُ عزَّ وجلَّ في مدحِ ابراهيمَ:
- يا
اللهُ! مدحَهُ اللهُ مدحًا عظيمًا وأثنَى عليهِ-
{ وَلَقَدْ
آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا
عَاكِفُونَ }
[
الأنبياء: 51 ، 52 ]
عندَما
يرزقُك اللهُ تَعالَى الرُّشدَ والعقلَ والتأمُّلَ،
فهذهِ
نعمةٌ ومنزلةٌ عظيمةٌ.
نسألُ
اللهَ عزَّ وجلَّ أنَ يرزقَنا إيَّاها!
{ وَلَقَدْ
آتَيْنَا }:
منْ
الذي آتّى ابراهيمَ؟
من
الذي يُعطِي، ويمنعُ ويصرِفُ، وينفعُ ويضُرُّ؟
هو اللهُ
عزَّ وجلَّ وحدَهُ.
{ مِن
قَبْلُ }:
منْ
قبلِ المحاجَّاةِ، وليسَ بعدَها،
رزقَهُ الله سُبحانَهُ وتَعالَى الرُّشدَ والرَّأيَ
السَّديدَ والحكمةَ.
{ وَلَقَدْ
آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ }:
ليس منْ
بعدُ،
فلا
تضعْ نفسَك في مواضعَ يُفترضُ أنْ لا تقعَ فيها،
لا
تجادلْ في مواقفَ يُفترضُ أنْ لا تجادلَ فيها أهلَ الباطلِ.
وقد
تناولْنَا في الآيةِ السَّابقةِ كيفيَّةَ مجادلةِ أهلِ الباطلِ .
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ
قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا
تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ
عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ) ( 80)
{
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ }:
كانَ قومُهُ أهلَ محاجَّاةٍ، أي أهلَ علمٍ وفلسفةٍ
ومنطقٍ،
فلا يحاجِّ إلا صاحب العلمِ،
وهذا يعني أنَّ منَ الصَّعبِ محاجَّاتِهم،
ولكنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى إذا أعطَاك المددَ من
عندِهِ،
فلا تخشَى على أحدٍ، ولا تخفْ عليهِ.
وكان مددُ ابراهيمَ عليهِ السَّلامُ، وقوَّتُهُ ورشدُهُ
وعطاياهُ منَ اللهِ.
{
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ }
ولذلكَ قصمَ ظهورَهُم في الرُّدودِ عليهِم، وأفحمَهُم.
{
قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ }:
هدايةً منَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وقدْ فتحَ لي.
كانَ ابراهيمُ صاحبَ مبدأٍ، وقوةٍ في العلمِ.
يقولُ الله سُبحانَهُ وتَعالَى مُخبرًا عنْ خليلِهِ
ابراهيم عليهِ السَّلامُ،
عندَما جادلَهُ قومُهُ فيما ذهبَ إليهِ من التَّوحيدِ،
وناظرُوهُ بشُبهٍ من القولِ،
أنَّهُ، قالّ:
{
قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ }:
أي: أتجادِلُونني في أمرِ اللهِ، وأنَّهُ لا إلهَ إلَّا
هوَ،
وقد بصَّرَني وهدَاني إلى الحقِّ، وأنا على بيِّنةٍ منْهُ؟
فكيفَ ألتفِتُ إلى أقوالِكُم الفاسدةِ، وشُبَهِكُم
الباطلةِ؟!
{
وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا }:
أي: ومنَ الدَّليلِ على بطلانِ قولِكُم،
فيما ذهبْتُم إليهِ أنَّ هذهِ الآلهةَ التي تعبدُونها
لا تؤثِّرُ شيئًا،
وأنا لا أخافُها، ولا أبالِيها،
فإنْ كانَ لها صنعٌ، فكيدُوني بِها، ولا تُنظِرُون،
بل عاجِلُوني بذلكَ.
{
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا }:
استثناءٌ مُنقطِعٌ.
أي لا يضرُّ ولا ينفعُ إلا اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى.
لا يضرُّك ولا ينفعُك شيءٌ إلا اللهُ، وإذا أَذِنَ بذلكَ.
فقد جعلَ ابراهيمُ الأمرَ للهِ سُبحانَهُ وتَعالَى.
{
وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }:
هذهِ
معرفةُ اللهِ التي نريدُها ونطالبُ بها،
أنْ
نعرفَ اللهَ عزَّ وجلَّ حقَّ المعرفةِ،
{
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا
تَتَذَكَّرُونَ }:
أي: أحاطَ علمُهُ بجميعِ الأشياءِ، فلا تخفَى عليهِ
خافيةٌ.
{
أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }:
أي: فيما بيَّنْتُهُ لكُم،
فتعتبِرُون أنَّ هذهِ الآلهةَ باطلةٌ،
فتنزجِرُوا عنْ عبادتِها؟
وهذه الحجَّةُ نظيرُ ما احتجَّ بهِ نبيُّ اللهِ هودُ،
عليهِ السَّلامُ،
على قومِهِ عادٍ،
فيما قصَّ عنهُم في كتابِهِ،
حيثُ يقولُ:
{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا
نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن
نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ }
ربَّما عملَتْ لكَ آلهتُنا شيئًا،
لكنَّ هُودًا يعرفُ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى حقَّ
المعرفةِ،
فماذا قالَ مجيبًا إيَّاهم؟
{ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي
بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا
تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
[ هود: 53 - 56 ]
هؤلاءِ رُسُلُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنبياؤُهُ عليهِم السَّلامُ،
هؤلاءِ مَنْ يعرفُون اللهَ تَعالَى حقَّ المعرفةِ.
يقولُ
اللهُ تَعالَى:
( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( 81)
{
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ }:
أي:
كيفَ أخافُ منْ هذهِ الأصنامِ، التي تعبدُون منْ دونِ اللهِ؟
{
وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا }:
قال
ابنُ عباسٍ وغيرُ واحدٍ من السَّلفِ:
أي: حجَّةً
وهذا
كما قالَ تَعالَى:
(أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ)
[
الشورى: 21 ]
{
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }:
أي:
فأيُّ الطَّائفتَين أصوَبُ؟
الذي
عبدَ من بيدِهِ الضُرَّ والنَّفعُ،
أو
الذي عبدَ منْ لا يضرُّ ولا ينفعُ بلا دليلٍ؟
أيُّهُما
أحقُّ بالأمنِ منْ عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ؟
سيخبرُنا
اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى من هو أحقُّ وأولَى بالأمنِ،
في
الوجهِ الحادِي عشَر، بإذنِ اللهِ تَعالَى.
سبحانَكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا
أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
اللهُمَّ اجعلْ هذا الاجتماعَ اجتماعاً مرحوماً، واجعلْ
تفرُّقَنا منْ بعدِهِ تفرّقًا معصوماً، ولا تجعلْ معَنا شقيَّاً ولا محروماً.
وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبيّنا مُحمَّد
وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعِين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق